أرتيتا يعتقد أن عصر "الستة الكبار" في الدوري الإنجليزي انتهى    أنشيلوتي: برشلونة بطل الدوري الإسباني قدم كرة قدم جميلة    توطين الصناعة خارطة طريق اقتصادي واعد    هلال جدة يتوج بلقب الغربية في دوري الحواري    "المنافذ الجمركية" تسجّل 1165 حالة ضبط خلال أسبوع    وزير الصحة يكرم تجمع الرياض الصحي الأول نظير إنجازاته في الابتكار والجاهزية    رقم سلبي لياسين بونو مع الهلال    استمرار ارتفاع درجات الحرارة ونشاط الرياح المثيرة للأتربة على عدة مناطق في المملكة    استشهاد 13 فلسطينيًا في قصف الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة    أكثر من 6000 حاجاً يتلقون الخدمات الصحية بمدينة الحجاج بمركز الشقيق خلال يومين    القاسم يقدم ورشة بعنوان "بين فصول الثقافة والصحافة"    جمعية نماء تنفذ برنامجًا شبابيًا توعويًا في بيت الثقافة بجازان    إطلاق النسخة التجريبية لأكبر مشروع للذكاء الاصطناعي في المسجد النبوي    اتفاقية تعاون بين قدرة للصناعات الدفاعية وفيلر الدفاعية لتعزيز الصناعات العسكرية بالمملكة    الفريدي يحصل على الماجستير في الإعلام الرقمي    المملكة تحتل المركز الثاني عالميًا بعد الولايات المتحدة في جوائز "آيسف الكبرى"    محافظ الزلفي يدشن ملتقى الباب للتمكين التقني    تشلسي يفوز على مانشستر يونايتد في الجولة ال (37) من الدوري الإنجليزي    صدور موافقة خادم الحرمين الشريفين على منح وسام الملك عبدالعزيز    النفط يتجه لثاني أسبوع من المكاسب    النصر يتعادل إيجابياً مع التعاون في دوري روشن للمحترفين    النصر يتعادل أمام التعاون ويفقد فرصة اللعب في دوري أبطال أسيا للنخبة    الRH هل يعيق الإنجاب؟    الرياض عاصمة القرار    المنتخب السعودي للعلوم والهندسة يحصد 23 جائزة في مسابقة آيسف 2025    سلام نجد وقمة تاريخيّة    سيرة الطموح وإقدام العزيمة    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين في العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة إلى 53,119 شهيدًا    سمو الأمير سلطان بن سلمان يدشن "برنامج الشراكات العلمية العالمية مع أعلى 100 جامعة " مع جامعة كاوست    إمام وخطيب المسجد النبوي: تقرّبوا إلى الله بالفرائض والنوافل.. ولا وسائط بين العبد وربه    الدوسري في خطبة الجمعة: الدعاء مفتاح الفرج والحج لا يتم إلا بالتصريح والالتزام    جمعية تعظيم لعمارة المساجد بمكة تشارك في معرض "نسك هدايا الحاج"    أمانة القصيم تطرح فرصة استثمارية لإنشاء وتشغيل وصيانة لوحات إعلانية على المركبات بمدينة بريدة    نائب رئيس جمعية الكشافة يشارك في احتفالية اليوبيل الذهبي للشراكة مع الكشافة الأمريكية في أورلاندو    أمانة القصيم تقيم حملة صحية لفحص النظر لمنسوبيها    أمين الطائف" يطلق مبادرةً الطائف ترحب بضيوف الرحمن    زمزم الصحية تشارك في فرضية الطوارئ والكوارث    46٪ لا يعلمون بإصابتهم.. ضغط الدم المرتفع يهدد حياة الملايين    مبادرة طريق مكة والتقدير الدولي        "الصحة" تُصدر الحقيبة الصحية التوعوية ب 8 لغات لموسم حج 1446ه    ضبط مصري نقل 4 مقيمين لا يحملون تصريح حج ومحاولة إيصالهم إلى مكة    الرياض تعيد تشكيل مستقبل العالم    لجنة التراخيص : 13 نادياً في روشن يحصلون على الرخصة المحلية والآسيوية    مُحافظ الطائف يستقبل مدير فرع هيئة التراث بالمحافظة    نائب أمير الرياض يطّلع على برامج وخطط جائزة حريملاء    أمير منطقة تبوك يرعى حفل تخريج الدفعة ال 19 من طلاب وطالبات جامعة تبوك    تحذيرات فلسطينية من كارثة مائية وصحية.. «أونروا» تتهم الاحتلال باستخدام الغذاء كسلاح في غزة    جناح سعودي يستعرض تطور قطاع الأفلام في" كان"    أكد أن كثيرين يتابعون الفرص بالمنطقة… ترامب لقادة الخليج: دول التعاون مزدهرة.. ومحل إعجاب العالم    أسرتا إسماعيل وكتوعة تستقبلان المعزين في يوسف    رؤيةٌ واثقةُ الخطوةِ    الحدود الشمالية.. تنوع جغرافي وفرص سياحية واعدة    عظيم الشرق الذي لا ينام    الهيئة الملكية لمحافظة العلا وصندوق النمر العربي يعلنان عن اتفاقية تعاون مع مؤسسة سميثسونيان لحماية النمر العربي    نائب أمير منطقة تبوك يشهد حفل تخريج متدربي ومتدربات التقني بالمنطقة    مُحافظ الطائف يشهد استعداد صحة الطائف لاستقبال موسم الحج    ولي العهد والرئيس الأمريكي والرئيس السوري يعقدون لقاءً حول مستقبل الأوضاع في سوريا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القلب يعجز أن يرثيك يا أبتي (الشيخ حمد بن محمد الداود)
نشر في الجزيرة يوم 15 - 03 - 2011

لا أعرف كيف أبدأ ومن أين أبدأ وماذا أكتب ومتى انتهي ومن أين أنتهي.. إلا أنني سأحاول في التالي من السطور أن أكتب شيئاً يسيراً مما في خاطري تجاه أعز وأغلى شخص فقدته في حياتي، ألا وهو والدي الحبيب الغالي الشيخ حمد بن محمد بن عبدالرحمن الداود - رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته - الذي انتقل إلى رحمة الله تعالى يوم الأربعاء 20-3-1432ه بعد معاناة طويلة مع المرض. فالمصاب جلل، والفراق مرير، والحزن عميق، والدمع غزير، لكنّ عزاءنا تلك الجموع الغفيرة التي حضرت لصلاة الظهر يوم الخميس والصلاة على جثمانه فغُصّ بها مسجد الملك خالد بأم الحمام في مدينة الرياض؛ حيث كانت جنازة الوالد هي الوحيدة مع جنازة طفل رضيع، ثم تلك الجموع الغفيرة التي تبعتها إلى محافظة حريملاء حيث المكان الذي أوصى - رحمه الله - بدفنه فيه، ثم تلك الأعداد التي لم تنفصل خلال أيام العزاء وبعده قادمة تلهج ألسنتها بالدعاء وسؤال الرب - عز وجل - له بالرحمة والمغفرة، وهي تتذكر تلك المواقف التي جمعته بهم، وقد وصفوها بالحكمة والنبل والعطف والشفقة والإحسان، وعايشوها مع أبي عبدالرحمن، مشيرين إلى تميزه - رحمه الله - بالصراحة والوضوح والشفافية والتروي وعدم المجاملة في أموره العامة والخاصة.
فعندما أستعرض من قدّم العزاء أجد من بينهم كبار القوم وصغارهم، حتى أنه حضر عدد من العمالة الوافدة ممن سبق لهم أن تعاملوا مع الوالد - رحمة الله عليه -. ومن المواقف التي لا تُنسى في حرصه على إعطاء الأجير أجره فور انتهاء عمله اقتداء بتوجه المصطفى صلى الله عليه وسلم أن أحدهم سافر سفراً طارئاً فلم يتمكن الوالد من إعطائه ما بقي له من الأجر، فكان وقعه عليه صعباً وتكدّر خاطره؛ حيث احتار في كيفية إيصال المبلغ إلى مستحقه؛ فلم تهنأ له ساعة ولا يوم حتى بحث عنه وطال البحث؛ فوصل إلى أحد أقاربه وسلم له المبلغ ليسلمه لصاحبه.
كان رحمه الله يحرص على بر والديه - عليهم رحمة الله - فرحل عن هذه الدنيا وقد قدّم لهما الشيء الكثير؛ فقام على شؤونهما وقضاء حوائجهما وأخواته وأخويه الشيخ عبدالعزيز - متعه الله بالصحة والعافية - والشيخ سعد - رحمه الله - وتلمس مطالبهم العامة والخاصة، كما امتدت يداه المحسنتان إلى المحتاجين من الأقارب والأصدقاء والجيران والفقراء والمساكين في مساعدتهم والإحسان إليهم؛ حيث كان هو الوحيد في العائلة الذي تعلم قيادة السيارة منذ عام 1389ه، وكان في ذلك الوقت القليل من يقود سيارة، وكان رحمه الله يستمتع وهو يقضي مطالب أهله ومن حوله، حتى أصبح كلما نادى منادٍ قالوا أين أبو عبدالرحمن فتجده منبرياً متلهفاً مبتهجاً بتقديم ما يستطيع تقديمه.
لقد أسعد والديه وأخويه بالقيام بشؤون ملكهم في محافظة حريملاء حيث أوكلوا له الأمر في الإدارة والتنظيم، ومع ذلك لم يكن ينفرد برأيه عنهم؛ حيث كانت المشورة والرأي حاضرة بينهم، بعيدين ولله الحمد عن الحديث فيما لا ينفع، فتجدهم يشغلون أوقاتهم في ذكر الله ودراسة أحوالهم ومناقشة أمورهم العامة والخاصة، حيث كان المُلك بينهم مشتركاً إلى أن كبر الأبناء وأصبح كل يستطيع إدارة ما لديه بالتعاون مع أبنائه.
من صفاته يرحمه الله معرفته الدقيقة بمن خالطهم وعايشهم؛ فعندما يُذكر عنده شخص أو يُسأل عن فلان تجده حاضر الإجابة بأن هذا فلان ابن فلان، كما اتصف بالعطف والشفقة والرحمة والمودة والصراحة في القول؛ فيصدح بالحق، لا يخاف في الله لومة لائم، كان صادقاً مع طلابه وزملائه ومسؤوليه وأبنائه وأقاربه ومحبيه، فقد سمعت منهم الكثير من المواقف التي تؤكد ذلك، والتي كانت من أسباب قربهم منه ومحبتهم له. ومما اتصف به - رحمه الله - أنه يحاول قضاء حوائجه بنفسه حتى بعد أن تقدَّم به السن، فتجده لا يفصح عن مطالبه حتى لا يكلف على الآخرين يريد أن يقضي أموره بنفسه قدر المستطاع، وكنا نحن أبناءه نحاول في السنوات الأخيرة أن نقوم على رغباته فتجده لا يفصح عنها؛ لكي لا يشق علينا رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جنانه.
وكان مع ما وصل إليه من علم شرعي بعد تخرجه في كلية الشريعة وحصوله على درجة الماجستير من المعهد العالي للقضاء فصيحاً في اللغة العربية محباً لها ومتبحراً في علومها وقواعدها، ومن عشقه لها أن حفظ الألفية واستوعبها فهماً وتطبيقاً مدركاً قواعد النحو؛ فتجده في مجالسه يطرح كثيراً من الأسئلة النحوية على مجالسيه، ويستغرب المتخصصون قدرته البلاغية والنحوية؛ كونه لم يتخرج من كلية اللغة العربية، فلم أذكر أنه طُرح عليه سؤالٌ فيها إلا وكانت إجابته حاضرة وصحيحة، بل إنه كان يتحدث ببعض الجُمَل العربية مع مَنْ يجيبه على الهاتف. ومما يُعرف عنه - رحمه الله - أنه يفهم فهم المتخصص في أمور الحياة المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل إنه متمكن من بعض المهن التي تغنيه عن الآخرين.
كان عضواً فاعلاً في لجنة محافظة حريملاء الأهلية التي تأسست منذ أكثر من خمسين عاماً، والتي كان الهدف منها الوقوف على احتياجات المحافظة ومتابعة تنفيذها ومراجعة المسؤولين لتحقيقها؛ فحققت تلك اللجنة بفضل الله ثم بجهود أعضائها الشيء الكثير؛ فاكتملت الخدمات في المحافظة، وأصبحت تضم فروعاً لجميع الدوائر الحكومية، حتى أن القادم لها يشعر وكأنه لم ينفصل عن العاصمة الحبيبة الرياض.
لقد اتصف منذ سن مبكرة بالنباهة والفطنة والفهم؛ فتم اختياره من قبل قاضي حريملاء وهو في الثالثة عشرة من عمره ليكون كاتباً للجنة الخاصة بتعويض المتضررين من السيول في محافظة حريملاء. واستمرت هذه الثقة بينه وبين من يعرفه حتى أصبح الكثير منهم يحضر لديه ليكتب بينهم سواء في صلح أو بيع وشراء. كان رحمه الله يحرص على أن يكون طرفاً لإصلاح ذات البين؛ وذلك لمكانته العلمية والاجتماعية وتقديرهم واحترامهم لرأيه وحضوره.
كان في عمله ومع أسرته يتحمس لمعاقبة المخطئ ويشعره بأنه سيوقع به أشد العقاب صغيراً كان أو كبيراً، ولكن عندما يأتي التنفيذ تجده أول المتسامحين ويبحث عن مخرج مناسب للصفح والعفو، والنتيجة درس تربوي هادف. ويحب رحمه الله مداعبة الأطفال والسلام عليهم وممازحتهم، وهم يبادلونه الشعور نفسه ويفتقدونه في غيابه، فمن آخر المواقف أثناء وجوده في المستشفى كان ابني ريان (9 سنوات) يردد «أنا من زمان ما شفت أبوي حمد أنا مشتاق له ودي أشوفه»، ودمعت عيناه شوقاً لرؤياه فأخذتني العاطفة للذهاب به معي مع علمي أنه قد يكون من الصعب دخوله إلى قسم العناية المركزة، فتيسر الأمر، وذلك قبل وفاته - يرحمه الله - بثلاثة أيام، وسلم عليه، ووضع يده في يده، وكأن الحال والموقف يقول هذا هو لقاؤك الأخير بجدك؛ فلن تراه في هذه الدنيا الفانية بعد هذه اللحظة. رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.
لقد بكي وفاضت عيناه من الدموع لفَقْد أخيه ورفيق دربه لأكثر من سبعين عاماً، العم الشيخ سعد - رحمه الله - الذي سبقه للرفيق الأعلى بسبعة وأربعين يوماً، وكان الوالد يردد قبل دخوله المستشفى «ذهب أخي وتركني، ذهب أخي وتركني، ذهب أخي وتركني»، فكان - رحمه الله - ملازماً له منذ الصغر؛ حيث فَقَد العم سعد يرحمه الله البصر في الرابعة من عمره؛ فأصبح الوالد هو الرفيق لدربه صباح مساء؛ ما جعل الألفة والمحبة والعطف والرحمة تزداد عمقاً، فانتقل الوالد إلى الرياض عام 1375ه لاحتياج أخيه العم سعد لصحبته إلى المعهد العلمي، وفي عام 1380ه عُيِّن العم الشيخ سعد مدرساً في معهد شقراء العلمي؛ فانتقل معه لحاجته إليه، وواصل دراسته في الصفين الرابع والخامس (ما يعادل القسم الثانوي) في معهد شقراء العلمي.
كان يرحمه الله حريصاً على أخيه كونه قد فَقَد بصره؛ فلم أذكر أنه انقطع عنه يوماً من الأيام إما بمقابلته أو بمكالمته هاتفياً سواء كان في حل أو ترحال، حتى أنه إذا أراد زيارة بعض الأقارب يقول «أركبوني في السيارة التي يركب فيها أخي سعد» الله أكبر، لم يفصلهما إلا هادم اللذات حيث إنه لم يبقَ في وعيه بعد وفاة العم سعد رحمه الله إلا أيام معدودات (ثمانية أيام)، بعدها دخل المستشفى ودخل في غيبوبة لمدة تسعة وثلاثين يوماً حتى لقي ربه ذاكراً وموحداً إياه سبحانه وتعالى.
كان وجهه يشع نوراً أثناء تغسيل جثمانه، وكان المغسل يقول ما شاء الله لم أرَ جنازة مثل هذه الجنازة في نورها ويُسْر تغسيلها. الله أكبر، اللهم اجعل هذه علامة خير لوالدي.
يحرص في بذل الخير عندما يسمع أن أحداً في حاجة إلى المساعدة؛ فنحن أبناؤه أقرب الناس إليه لا نكاد نعرف الكثير ممن قدم لهم المساعدة إيماناً منه رحمه الله بالا تعلم شمالك ما تنفق يمينك. يحب أن يفرح الأطفال في المناسبات سواء في أيام الأعياد أو بعد نجاحهم في الاختبارات، وأحياناً بدون مناسبة.
لديه الجد والإخلاص في عمله؛ فلا أذكر أنه تغيّب عن عمله أو تأخر أو نُقل عنه ذلك؛ فقد سمعت الأستاذ محمد السماعيل - يرحمه الله - مدير ثانوية الرياض سابقاً يقول «عندما أبدأ في عمل الجدول المدرسي أعطي الوالد الحصص الأولى دائماً لأنه من أوائل من يحضرون للثانوية في الصباح الباكر».
كان متابعاً لنا منذ الصغر في توجيهنا لطاعة الله وأداء الصلاة جماعة في المسجد، بل إنه لم يشترِ أرض سكنه الحالي إلا بعد أن تأكد من أنه سيُقام مسجد بالقرب منها. وليقينه بأن العلم يرفع بيوتاً لا عماد لها حرص رحمه الله على أن نكمل مسيرتنا التعليمية حتى تخرجنا من الجامعة بل إنه كان يشجع على إكمال دراساتنا العليا، وأن نتعلم وأبناؤنا العلوم الشرعية والحديثة، وكان يشجع دراسة اللغة الإنجليزية وتعلم الحاسب الآلي، وإكمال الدراسات العليا محباً للعلم وطلبه؛ فقد كان رحمه الله فخوراً بحصولي على درجة الدكتوراه؛ فبين الفينة والأخرى يناديني بها مناداة المفتخر والمبتهج والمسرور مما وصل إليه ابنه، وفي المقابل وبعد تقاعده عن العمل كان حريصاً على أن يستمر معلماً ومربياً فيجلس في المسجد ويجتمع حوله أطفال الحارة ليقرؤوا عليه القرآن حيث كان متقنا لمخارجه وحروفه وكلماته ومعانيه. كان مربياً من الطراز الأول صادقاً في أفعاله وأقواله محباً لدينه ووطنه وولاة أمره وأمته، يفرح لفرحهم، ويحزن لحزنهم، ويحب أن يبشر الناس بالخير فعندما نخبره بشيء يسر أحداً ممن حوله يسارع بالاتصال به ويهنئه ويبارك له؛ فكان متواصلاً مع أقاربه وأصدقائه وزملائه وأحبابه داخل المملكة وخارجها؛ فقد كان يتواصل مع زملاء له فرَّقتهم الأيام فيتصل بهم ويسأل عن أحوالهم.
ولمزيد من المعرفة عن الوالد - رحمه الله - أنه من مواليد عام 1356ه في حريملاء، عاش بين والديه وأعمامه في سوق الجريد، فالتحق في السادسة من عمره بمدرسة تحفيظ القرآن عند الشيخ محمد بن عبدالله الحرقان بصحبة أخيه العم الشيخ سعد عام 1362ه وبتشجيع من أخيه العم الشيخ عبدالعزيز، واستمر بها حتى ختم القرآن تلاوة، ولما شرع في الحفظ افتتحت المدرسة الحكومية النظامية بحريملاء عام 1369ه، والتحق بها عام 1372ه فصار في الصف الثاني الابتدائي كونه قد عرف أساسيات القراءة والكتابة، واستمر بها في الصف الثاني والثالث والرابع. بعد ذلك انتقل إلى الرياض عام 1375ه لاحتياج أخيه العم سعد لصحبته، فاستمر يدرس في التمهيدي بالمعهد العلمي في الرياض حيث يعادل الصف الخامس والسادس الابتدائي، وبعدها استمر في دراسة المعهد بالصف الأول معهد (الأول متوسط) حتى ثالث معهد (ثالث متوسط)، وفي عام 1380ه عُيّن أخوه العم سعد مدرساً في معهد شقراء العلمي؛ ما جعله ينتقل معه لفقده بصره لا بصيرته، فأكمل دراسته في الصف الرابع والخامس (ما يعادل القسم الثانوي) في معهد شقراء العلمي.
بعد ذلك قَدَّم أخوه العم سعد نقلاً إلى الرياض بسبب حاجة الوالد لإكمال دراسته في كلية الشريعة؛ فانتقلا جميعاً إلى الرياض فدرس الوالد في كلية الشريعة عام 1382ه وعام 1383ه منتظماً، وفي عام 1384ه تحوّل إلى نظام الانتساب بسبب عمله في ديوان الموظفين العام (وزارة الخدمة المدنية حالياً) ثم الضمان الاجتماعي بحريملاء، واستمر حتى آخر عام 1385ه حيث استقال وحول منتظماً في الكلية، وتخرج في العام نفسه. وفي عام 1386ه وبعد تخرجه من كلية الشريعة تم توجيهه للقضاء، وأبدى عدم رغبته، وبعد إقناع واقتناع الجهات المختصة أُخلي طرفه وعُيِّن مدرساً للعلوم الشرعية في المدرسة المتوسطة الثانية التابعة لوزارة المعارف (وزارة التربية والتعليم حالياً) الواقعة في شارع الوزير، واستمر بها أربع سنوات، وفي عام 1390ه نُقل إلى المرحلة الثانوية لتميزه فباشر عمله في ثانوية الرياض بحي المرقب، واستمر بها عشرين عاماً تقريباً، وأثناء عمله مدرساً التحق بالمعهد العالي للقضاء التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لدراسة الماجستير في الفترة المسائية فدرس فيه ثلاث سنوات وحضر الرسالة في السنة الرابعة وكان موضوعها (النذور في الشريعة الإسلامية)، وحصل على درجة الماجستير عام 1395ه. وفي عام 1410ه رُشِّح للعمل موجها في التوجيه التربوي (الإشراف التربوي حالياً) بمركز جنوب الرياض، وبعد عامين انتقل إلى مركز الإشراف التربوي بشمال الرياض، واستمر فيه حتى تقاعد عام 1420ه. ولتميزه وإتقانه مهام عمله طلبته إدارة مدارس منارات الرياض للعمل لديها رئيساً للتوجيه التربوي، واستمر فيها مدة خمس سنوات. وأثناء العمل بالتدريس والإشراف التربوي قدم دراسات وبحوثاً عدة، وشارك في لجان ومؤتمرات وندوات ولقاءات علمية وتربوية في أوقات وأماكن متفرقة في الرياض ومكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة وينبع والأحساء والدمام. وكان يحمد الله على ما قدم وعلى توفيقه وكرمه وعونه؛ حيث ذكر أنه لم يصادف عقبات أو صعوبات أثناء عمله ولم يقع في مشكلة مع طالب أو زميل أو رئيس، بل حاز رضاهم - والحمد لله - وتلقى عدداً من خطابات الشكر والعرفان والامتنان من رؤسائه تعكس رضاهم وإعجابهم وارتياحهم نحو ما قام به من عمل، وأن من عمل معهم أصبحوا أخوة له تربطه بهم المحبة في الله. وفي عام 1425ه، ولظروفه الصحية، ترك العمل ليبقى في المنزل بين أهله وأبنائه وأحفاده؛ حيث استمر يعاني مرض القلب بين شد وجذب، تنفرج تارة وتضيق أخرى، حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى خاتماً حياته ولله الحمد بالعمل الصالح والذكر الحسن.
وأختم وفي الخاطر الكثير والكثير من الكلمات والآهات والعبارات، وأنا أنظر إليه رحمه الله في مقره بالمستشفى بعد أن فارقت روحه جسده فجاء في خاطري:
شوقاً دخلت فلم أحظى بنظرته
فخيم الصمت في أرجاء حنجرتي
أبي وضج نداء لا جواب له
إلا أنيني وآهاتي وحشرجتي
ألقى الطبيب كلاماً ثم أزعجني
هذا الفراق فأين الملتقى أبي
أبي أيعقل أن الموت فرقنا
رحماك يا رب إن البين معضلتي
لقد مضى عطرك الفواح مرتحلاً
واستوحشت منه غاباتي وأوديتي
وهل بدمعي أم بالحبر أكتبها؟!
ومن فمي تخرج الأنات أم رئتي؟!
فما كتبت رثاءً فيك من وجعي
إلا وقد شرقت بالدمع حنجرتي
تركتني ورياح البعد تفتك بي
والحزن كالسيف مزروعاً بخاصرتي
يا من نقشتُ على قلبي مآثره
وخير من باسمه غنت به شفتي
ماذا أقول لأبنائي إذا سألوا
ولم يفارق حبيبي عن مخيلتي
رحماك يا رب إن الحزن أحرقني
فالقلب يعجز أن يرثيك يا أبتي
رحمك الله يا أبي رحمة واسعة، وأسكنك فسيح جناته، وألهمنا وذويك ومحبيك وأصحابك الصبر والسلوان. وفي هذا المصاب الجلل لا نقول إلا كما وجهنا به المولى عز وجل: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
د. عبدالرحمن بن حمد الداود -
وكيل جامعة الإمام


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.