الوكالة الدولية للطاقة الذرية تتوقع اتفاقا وشيكا مع إيران    الحارس الفرنسي باتويي رسميًا إلى الهلال    إحباط تهريب (65,650) قرصًا خاضعًا لتنظيم التداول الطبي بمنطقة جازان    "الأخضر تحت 20 عاماً" يتغلب على تشيلي ودياً استعداداً لكأس العالم    الدرعية يبدأ Yelo بهوية جديدة    مهرجان ولي العهد بالطائف .. الهجن السعودية تسيطر على "الجذاع"    انطلاق أولى ورش عمل مبادرة "سيف" بمشاركة أكثر من 40 جمعية من مختلف مناطق المملكة    الجنيه الإسترليني يرتفع مقابل الدولار الأمريكي وينخفض مقابل اليورو    منسوبو أسمنت الجنوبية يتفاعلون مع حملة ولي العهد للتبرع بالدم    ‏أمير جازان يستقبل رئيس وأعضاء مجلس الجمعيات الأهلية بالمنطقة    وزير الحج والعمرة يبدأ زيارة رسمية لتركيا    الذهب عند قمة جديدة بدعم من توقعات خفض الفائدة الأمريكية    تونس تتأهل لكأس العالم 2026 بفوزها على غينيا الاستوائية    قنصل عام فرنسا بجدة: 160 شركة فرنسية تعمل في السوق السعودي    أمير دولة الكويت يستقبل سمو الأمير تركي بن محمد بن فهد    التحالف الإسلامي يطلق مبادرة توعوية لمواجهة الخطاب المحرّض على الإرهاب    عقارات الدولة تطرح 11 فرصة استثمارية بمددٍ تصل 25 سنة    مركز الملك سلمان للإغاثة يوقّع اتفاقية تعاون مشترك لتأهيل آبار منطقة دوما بريف دمشق    فضيلة المستشار الشرعي بجازان: "التماسك بين الشعب والقيادة يثمر في استقرار وطن آمن"    جامعة حائل تحقق إنجازًا علميًا جديدًا في تصنيف "Nature Index 2025"    7 توصيات في ختام المؤتمر الدولي ال5 لمستجدات أمراض السكر والسمنة بالخبر    مجلس إدارة جمعية «كبدك» يعقد اجتماعه ال27    صندوق الاستثمارات يوقع مذكرة تفاهم مع ماكواري لتعزيز الاستثمار في قطاعات رئيسية بالسعودية    وزراء خارجية اللجنة العربية الإسلامية بشأن غزة يعربون عن رفضهم لتصريحات إسرائيل بشأن تهجير الشعب الفلسطيني    إسبانيا تُعلن تسعة إجراءات تهدف لوقف "الإبادة في غزة"    أبرز التوقعات المناخية على السعودية خلال خريف 2025    أمانة الشرقية تفعل اليوم الدولي للعمل الخيري بمشاركة عدد من الجمعيات    محافظ عفيف يدشن مبادرة نأتي اليك    إطلاق المرحلة الثالثة من مشروع "مجتمع الذوق" بالخبر    نمو الأنشطة غير النفطية بنسبة 4.6% في الربع الثاني من 2025    جمعية حرف التعليمية تنفذ فعالية الرصد الفلكي للخسوف الكلي للقمر بجازان    المرور يحذر من سحب أو حمل أشياء عبر الدراجات    حين يتحدث النص    مراقبون توقّعوا أن تكون الزيارة أهم حدث دبلوماسي في 2025 ترمب يدعو ولي العهد إلى زيارة واشنطن.. نوفمبر القادم    الأميرة أضواء بنت فهد تتسلم جائزة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز «امتنان» للعمل الاجتماعي    بنجلادش تكافح موجة متصاعدة من حمى الضنك وحمى شيكونجونيا    الجوازات تواصل استقبال ضيوف الرحمن    يعتمد على تقنيات إنترنت الأشياء.. التعليم: بدء المرحلة الأخيرة للعمل بنظام «حضوري»    عبر أكبر هجوم جوي منذ بداية الحرب.. روسيا تستهدف مواقع في كييف    الأخضر السعودي يختتم استعداده لمواجهة التشيك    بعد أول خسارة في التصفيات.. ناغلسمان يعد بتغييرات على تشكيلة ألمانيا    نزع السلاح شرط الاحتلال.. وحماس تربطه بقيام الدولة الفلسطينية.. غزة على مفترق مسار التفاوض لإنهاء الحرب    راغب علامة يلاحق «المسيئين» بمواقع التواصل    «صوت هند رجب» يفوز بالأسد الفضي في مهرجان البندقية    «الإعلام» : استدعاء 5 منشآت لدعوتها معلنين من الخارج    السمكة العملاقة    وزير الحرس الوطني يناقش مستجدات توطين الصناعات العسكرية    تحت رعاية وزير الداخلية.. تخريج الدورة التأهيلية لأعمال قطاع الأمن العام    النسور.. حماة البيئة    صحن الطواف والهندسة الذكية    كيف تميز بين النصيحة المنقذة والمدمرة؟    932.8 مليار ريال قروضاً مصرفية    السعودية تحمي النسور ب«عزل خطوط الكهرباء»    رقائق البطاطس تنقذ امرأة من السرطان    «الصحة» تستكمل فحص الطلاب المستجدين    إعادة السمع لطفلة بعمر خمس سنوات    نائب أمير الشرقية يستقبل مدير شرطة المنطقة ويطلع على التقرير الإحصائي السنوي    حين تتحول المواساة إلى مأساة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فأس أبي وخيوط امرأة لا أعرفها
نشر في الحياة يوم 24 - 03 - 2015

لا يزال يرن في أذني الصوت الشجي لأبي، وهو يردد مقاطع من سيرة «بني هلال»، ونحن نكدح سوياً في الحقل تحت الشمس الحارقة. كنت أستوقفه ليحكي لي فلا يبخل عليَّ، ووجدته يزيد على السيرة الهلالية بسرد حكاية «شاور وضرغام»، و «علي الزيبق»، و «أدهم الشرقاوي»، وقصص من «ألف ليلة وليلة». سألتُه: من أين لك بكل هذا، فأخبرني أن رجلاً في قريتنا العزلاء المنسية أجاد القراءة والكتابة في سن مبكرة، لكنه ترك المدرسة، وفتح مقهى صغيراً، وكان يجذب الزبائن بأن يقرأ عليهم كل ليلة صفحات من كتب السيَر التي اقتناها، ويقف عند نقطة مشوقة تدفعهم إلى ارتياد مقهاه في الليلة التالية.
وخالتي التي تكبرني بسنوات قليلة، كانت مولعة بحكي ما سمعته من حكايات شعبية نتداولها في الصعيد، فكنتُ ألح عليها بأن تقصص عليَّ كل ما استقر في عقلها ووجدانها، فجادت بكل ما لديها سعيدة بالبهجة التي تسكن عيني وأنا أتابعها في صمت ولهفة، محاولاً أن أرسم صوراً لما تنطق به.
بعد سنوات، اعتمدتُ على نفسي، فتابعتُ بشغف «إذاعة الشعب» بانتظام حيث يشدو شاعر الربابة جابر أبو حسين بسيرة بني هلال، ونبشتُ في جوال الكتب القديمة التي كان جدي لأمي، وهو بقال، يحضرها كل شهر لصناعة قراطيس الشاي والسكر واللب والسوداني، فوجدتُ بعض ما يُقرأ، وللمصادفة كان أول كتاب قرأته وأنا في العاشرة من عمري عبارة عن رواية أجنبية مترجمة، منزوع غلافها وصفحتها الأولى التي تحمل اسم المؤلف وعنوان الرواية، لكنني لم أهتم إلا بالحكاية التي كانت كاملة.
في مدرستي الابتدائية، لم تكن هناك مكتبة، لكن حين التحقتُ بالمدرسة الإعدادية في قرية البرجاية، مركز المنيا، ذهبتُ إلى المكتبة في أول أيامي بها، وكان أول ما استعرتُه منها هو سيرة «حمزة البهلوان»، وعلى ضخامتها قرأتُها في أسبوع من ولعي بها، ثم بدأتُ رحلة استعارة روايات كبار الكتاب المصريين والعرب، حتى أنني قرأتُ لكثيرين منهم كل ما كتبوا تقريباً.
هكذا بدأت علاقتي بالرواية قارئاً، أما كاتباً، فلهذه قصة أخرى. فقد كنت معروفاً أيام الجامعة بين زملائي بأنني ممن ينظمون القصيد، عمودياً وحراً، وما أزال أحتفظ في أوراقي القديمة بقصائد بهتت حروفها، لكن لم تفارق وجداني ومخيلتي، إذ سرعان ما انداحت في أعمالي النثرية والسردية، التي أحاول ألا أتخلى فيها عمّا منحني الشعرُ إياه من ضرورة الولع بالبلاغة والجمال والمفارقة وصناعة الدهشة والقدرة على إطلاق الخيال والتخييل.
لكنني فهمتُ في ما بعد أنني كتبتُ الشعر في السن التي يكتب فيها كثيرون شعراً، ليعبروا عما يجيش بصدورهم، ويجول بخواطرهم. فرغم أن ما قرضته كان يروق لزملائي في الجامعة والمدينة الجامعية، فإنني لم ألبث أن انتقلت إلى السرد، وتمنيتُ أن يكون أول كتاب لي يظهر عليه اسمي هو رواية.
كنتُ أستعيد طيلة الوقت نبوءة مدرّس اللغة العربية في الصف الثاني الإعدادي، حين قال لي: ستصير كاتباً، فحدَّدَ لي معالم طريقي.
في كل مرة أبدأ كتابة رواية جديدة يرد على ذهني شخصان، أبي في حقله، وسيدة الحافلة. الأب كان يرفع أول ضربة فأس في أرض قاحلة ممتدة أمامه، لكنه لا ييأس بل يواصل الضربات، والفأس تقضم التربة في نهم، فإذا بالبوار يرحل ويزدهي الطمي تحت قدميه وخلفهما، مشتاقاً إلى البذور لينبت الزرع البهي. ضربة وراء ضربة يتغير الحال من الفراغ إلى الامتلاء، ومن العدم إلى الوجود، أو على الأقل من اليباب إلى العمار.
أما السيدة، فهي تلك التي رأيتها ذات يوم في حافلة ركبتُها من جامعة القاهرة إلى ميدان التحرير، كنت طالب دراسات عليا أعد أطروحتي للماجستير، وقد جمعت مادتي العلمية حتى وصلت إلى حد التشبع، لكن أصابني كسل فقعدت أسابيع عن البدء في الكتابة، إلى أن رأيتها تجلس على مقعد أمامي، وفي يدها إبرة تريكو وخيوط ذات ألوان أربعة، تدور بينها حتى تصنع عقدة، وتتبعها بأخرى، وهكذا حتى يصبح خطاً منسوجاً بإحكام.
وقفت أتابع دأبها في شغف عميق، وتعلمت منها أن تراكم القليل يصبح كثيراً، وتتابع الصغير يجعله كبيراً. وقلت لنفسي وأنا واقف أمامها مشدوهاً: حرف وراء حرف، تولد كلمة، وكلمات تصنع جملة، وعبارات تصبح فقرة، وفقرات تصبح صفحة، وصفحات تصير فصلاً، وفصول تتتابع تخلق كتاباً. ومن يومها كلما بدأت في كتابة رواية تأتيني صورة هذه السيدة، ممتزجة بصورة أبي مع فأسه أمام الأرض اليباب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.