إذا كان الشرط الأساسي لعمل الأديان السياسية في الغرب (النازية مثلاً) هو خلق فضاءات دنيوية بديلة عن الثقافات الدينية التقليدية، وبالتالي القطع معها، ما أمكن، وكسر ثنائية «الدين-السياسة» لصالح مرجعية واحدة هي سلطة الدولة السياسية (انظر «جدلية الدين والسياسة بين التوتاليتارية وما بعد الحداثة»، الحياة، 3 تشرين الثاني/ نوفمبر، 2013)، من جهة، وتعويض مخيال الشعوب عن ذلك بتنظيمات ثقافية قومية دنيوية تحلّ محل الدين وتعمل عمله، من جهة ثانية، فإنّ هذا ليس حاله تماماً في بلاد العرب إذا ما اعتبرنا القومية العربية بكونها مثّلت «الدين السياسي العربي». إنها القومية التي لعبت دور الرئة الأيديولوجية التي شهق وزفر من خلالها مستبدو العرب استبداداً. نحاول هنا، سريعاً، إلقاء الضوء على عمل الدين السياسي العربي وافتراقه الجوهري عن الأديان السياسية التي سادت لفترة في بعض الدول الغربية. لا يمكن تخيّل أنّ قادة القومية العربية (وبخاصة في مصر وسورية والعراق) كانوا سيستطيعون نداء شعوبهم وتهييجهم قومياً من غير الارتكان إلى حواضن هذه الشعوب الثقافية، الدينية منها والاجتماعية. وهذا هو السبب الرئيس أنّ هؤلاء القادة لم يكونوا يجدون أي صعوبة تُذكر إذا ما أرادوا ممارسة الهيجان القومي على شعوبهم وندائهم، مثلاً، إلى «تحرير فلسطين» و «تطهير» أرضها من اليهود، و «محاربة الفرس» و «مقاطعة الإمبرياليين» أو الصليبيين...الخ. لا شك، أنّ بعضاً من الشعوب العربية من جانبها لم يكن كذلك يجد صعوبة في الاستجابة لتلك النداءات، طالما أنّ مفردات القادة القوميين لم تكن مفهومة لتلك الشعوب فحسب، بل كانت كذلك تنهل من الأنماط الفكرية التقليدية العميقة فيهم- حيث عمل الثقافة. إذاً، الشرط الجوهري لنجاح القائد القومي في التهييج هو «الثقافة» التي ينهل منها ويعود إليها. يجب أنْ يكون هناك خيط مديد بين القومي وبين الثقافة التي يتوجه إليها. هذا هو السر أنّ الوعي الثقافي العربي مثّل بمثابة الحاضن نفسه، المرجعية نفسها، سواء بالنسبة للإخوان المسلمين أو لجمال عبد الناصر، مع اختلافات طفيفة سطحية بين الطرفين. لا نستغرب هنا لا الارتباط القومي فحسب، بل دفاعه المستميت كذلك عن القيم القبلية العربية، عن العشيرة، عن الأسرة التقليدية، عن القيم التراثية...الخ (بحسب السياق الأرثوذكسي الذي يعمل فيه القومي، حيث يكتسي القومي الكساء الثقافي التقليدي الذي يعمل من خلاله، سواء كان كساء طائفياً أم قبلياً...). بالطبع، تحدث القومنة تلك بعكس ما جرت عليه النازية (كدين سياسي): فكما أنه من الصعب العثور في أدلوجة النازية على مفردات ثقافية خارج إطار ثقافة سلطة الدولة التي «قطعت» عمودياً مع ثقافة التقليد (لهذا، لم تكن تتم مخاطبة الجمهور إلا من خلال ثقافة الدين السياسي «البديل»)، كذلك الأمر من الصعب العثور على روابط أسرية داخل ميدان السلطة. بينما من السهل جداً أن نجد في الأداليج القومية العربية كل ما من شأنه المحافظة على ثقافة التقليد العميقة في الوعي الجمعي (= الذاكرة المشتركة. ولهذا، تجد معظم استحقاقات المفردات القومية العربية أرضاً خصبة لها في ثقافة الجمهور)، من جهة؛ ومن السهل كذلك العثور على كل أنواع الرابط الأسرية والقبلية داخل «عائلة السلطة» العربية، من جهة ثانية. لقد كانت بلاد الرافدين بالنسبة لصدام حسين بلاداً واسعة جداً؛ حيث كان بإمكانه التنقل بسهولة بين حضاراته المختلفة بجرة قلم ولسان، بين حمورابي وسومر وبابل إلى قادسية الإسلام في حربه مع إيران... الخ. حال الدين السياسي العربي، والشرط هذا، من الثقافة وإلى الثقافة. لكن أية ثقافة؟ عموماً، يغلب على المثقف العربي القومي النمط الثقافي «الشفاهي» أكثر منه «الكتابي». وهذا يعود إلى غلبة الشرط الشفاهي في أنماط تفكير العرب (ربما لا ننسى رسالة الجاحظ «ذمُّ أخلاق الكُتَّاب» التي شنع فيها على الكتابة). والحال، أنّ ما يشد العصبوية الجمعية العربية هو النمط الشفاهي أكثر من الكتابي. والشفاهية تفيد في حالة القومي، أكثر ما تفيد، في ضرورة إبقاء الجماهير في حالة الهيجان وفي قضايا التعبئة الجماهيرية والاستعداد الدائم للموت وتقديم الأضاحي «البشرية» المقدسة... أي كل ما يخدم القضايا القومية وعلى رأسها وحدة الأمة. بيد أنّ الملاحظة التي ينبغي تسجيلها هنا هي ما يتعلق بتحريف وتحويل الدلالات الثقافية عن مبتغاها الأصلي. إنه على رغم استاتيكية ذهنية القومي العربي (وهي ذهنية يغلب عليها الطابع المحافظ)، إلا أنه لا يتعامل مع «الذاكرة المشتركة» ومع التراث وكأنهما معطى ثابت. فهو في هذه الناحية مرنٌ إلى درجة تحويل كثير من المعاني التراثية عن محتواها الأصلي إلى غاية أخرى، كما يحدث مثلاً في المناسبات الدينية التي يحوّل القومي دلالاتها الدينية إلى دلالات قومية. إنه يستهدف ثقافة التقليد، نعم! لكن لا من أجل إلغائها واستبدالها، بل لتحويل دلالاتها الأنثروبولوجية وتطويعها بما يتناسب وهيجانه. لهذا، لطالما يلجأ القادة القوميون إلى تكرار عمليات الأسلمة للشعوب العربية، مستفيدين من الفضاءات الثقافية التقليدية (هذا على رغم أنه غالباً ما تكون الأسلمة «أسلمة مضادة» ضد أسلمات الإسلامويين، بما يخدم بقاء المستبد أو «الرئيس المؤمن»). من هنا، يمكن قراءة علاقة المستبد العربي بالأديان التقليدية بكونها علاقة إشكالية ومعقدة بعُقد الثقافة التي ينتمي إليها المستبد. هذا بعكس الأديان السياسية في الغرب التي استبدلت الأديان التقليدية بأديان سياسية حلّت محلها. لهذا، لطالما تأخذ التوتاليتارية القومية العربية طابعاً «ما قبلياً» مجبولاً باستحقاقات عتبة ما قبل الحداثة - بالبنى الأهلية والدينية؛ بعكس النازية الألمانية التي انطلقت من الفضاءات التي فرضتها الحداثة، بيد أنها ارتدت عليها. يُقال هذا الكلام على رغم أنّ ثقافة النازية الألمانية قد مثلت إحدى أهم عصيّ القومية العربية. لكن للأسف، حتى هذه النازية لم تستطع نقل الخطاب القومي العربي إلى ما فوق بناه التقليدية العميقة، بسبب جذرية الثقافة، بسبب قوة الماضي الذي لا يمضي! * كاتب سوري