المملكة ترحب بإعلان التوصل إلى اتفاق سلام بين أرمينيا وأذربيجان    خطط أرامكو السعودية التوسعية في النفط والغاز والتكرير تعزز زيادة تدفقاتها النقدية    السعودية ترحب بإعلان التوصل إلى اتفاق سلام بين أرمينيا و أذربيجان مشيدة بالرعاية الأمريكية للاتفاق    الفيحاء يتعاقد مع "الخيبري"لمدة 3 سنوات    وزير الخارجية يتحرك دبلوماسياً لوقف الانتهاكات في غزة    برشلونة يعيد شارة القيادة لتير شتيغن    بيع صقرين ب 180 ألف ريال في الليلة الأولى لمنصة المزاد الدولي لمزارع إنتاج الصقور    جمعية فضاء العالية للتنمية الشبابية تختتم برنامج ماهرون الصيفي    ضبط 4 باكستانيين وهندي في الشرقية لترويجهم (32) كجم «لشبو»    السعودية توزّع 847 قسيمة غذائية في عدة محافظات بالأردن    فيصل بن فرحان ووزير خارجية ألمانيا يبحثان التطورات الأخيرة في قطاع غزة    صقارون دوليون يثمنون تسهيلات نادي الصقور في نقل واستضافة الصقور    كأس العالم للرياضات الإلكترونية 2025 .. ختام ربع نهائي بطولة Rainbow Six Siege X    النصر يتحرك لضم جناح منتخب فرنسا    البرازيل «تستنكر» ضغوط أميركا على القاضي المكلف بقضية بولسونارو    مواهب الذكاء الصناعي تضع المملكة ضمن أفضل 20 دولة    البرلمان العربي يستنكر قرار كنيست كيان الاحتلال بإعادة احتلال غزة ويدعو لتحرك دولي عاجل    "القرني" يختتم دورة تدريب المدربين    أمير جازان يرعى ملتقى أبحاث السرطان 2025 بجامعة جازان    الشيخ أسامة خياط: يدعو لغرس قيم البر والتقوى في الأسرة والمجتمع    الشيخ عبدالباري الثبيتي: سورة قريش تُجسّد أعظم النعم .. الطعام والأمان    المصالح الوطنية السعودية    الخلاف يزداد بين برشلونة وحارسه شتيغن    النفط يتكبد خسارة أسبوعية حادة    سفير جمهورية مالطا لدي المملكة يزور قرية جازان التراثية    الربيعة: تطبيق "نسك" متاح مجانًا دون استهلاك بيانات الإنترنت    أنواع فيتامين D وجرعاته الصحيحة    النصر يكسب ودية "رايو آفي" البرتغالي برباعية    ضبط مواطن لارتكابه مخالفة رعي في "محمية الإمام تركي الملكية"    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على انخفاض    %83 من القراء هجروا المجلات    بمشاركة نخبة الرياضيين وحضور أمير عسير ومساعد وزير الرياضة:"حكايا الشباب"يختتم فعالياته في أبها    «المساحة الجيولوجية»: رصد زلزال في الإمارات بقوة 3.4 درجات    (عشان نصور،،،،،،!)    أمير جازان ونائبه يلتقيان مشايخ وأعيان الدرب    سبعة آلاف خطوة تعزز الصحة    بهدف تطوير الخدمات الرقمية وتعزيز جودة الحياة.. أمانة منطقة عسير توقّع مذكرة تفاهم مع "بلدي" بحضور وزير البلديات والإسكان    نائب وزير الحرس الوطني يطلع على برامج الإرشاد والتوجيه لتعزيز الوعي الديني والفكري    رئيس وزراء موريتانيا يغادر المدينة المنورة    أمير منطقة جازان ونائبه يلتقيان مشايخ وأهالي محافظة الدرب    أمير جازان يستقبل سفير جمهورية مالطا لدى المملكة    العطش يلتحق بالجوع في غزة وتحذيرات من توسيع إسرائيل عملياتها    ديوان المظالم يفتح باب التقديم على التدريب التعاوني لطلبة الجامعات والمعاهد السعودية    المجلس الاستشاري لمركز صحي المرابي يناقش احتياجات الأهالي مع تجمع جازان الصحي لتعزيز الخدمات الطبية    2 مليون دولار لتأمين «ابتسامة» نجمة هوليود    زيلينسكي يدعو واشنطن لزيادة الضغط على موسكو.. روسيا تدرس هدنة جوية مع أوكرانيا    استهداف (أبو سلة) بطائرات مسيّرة.. اشتباكات بين الجيش اللبناني ومطلوبين في بعلبك    احتفال الفرا وعمران    البدير في ماليزيا لتعزيز رسالة التسامح والاعتدال    الأرصاد: أمطار متفرقة حتى منتصف أغسطس    أم ومعلمة تقتحمان مدرسة لسرقة «امتحانات»    فتح باب التقديم لدعم المشاريع السينمائية    إنجاز طبي في الأحساء.. زراعة منظم ضربات قلب لاسلكي لمريض    فريق سفراء الإعلام والتطوع" يزور مركز هيئة التراث بجازان    الأمير فهد بن سلطان يطلع على نتائج القبول بجامعة تبوك.    مركزي جازان ينجح في إزالة ثلاث عقد في الغدة الدرقية الحميدة بالتردد الحراري دون تدخل جراحي    محافظ تيماء يستقبل مدير عام فرع الرئاسة العامة لهيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة تبوك    نائب أمير الرياض يؤدي الصلاة على والدة جواهر بنت مساعد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قرن على الحرب الكبرى: تجربة قاصمة خلفت التوتاليتاريات
نشر في الحياة يوم 01 - 01 - 2014

زعمت روايات تقليدية أن الجنود الذين دُعوا إلى الخدمة العسكرية والقتال في الأسابيع الأولى من الحرب العالمية أو الكونية في صيف 1914 ذهبوا مستبشرين، ونفروا إلى الحرب فرحين، وقد تصدق هذه الرواية في بعض المدن الكبيرة ومحطات قطاراتها. وتأويل هذه الظاهرة ليس بدهياً: فالاحتفال بالحرب هو كذلك صورة من صور إنكار القلق والخوف حين مغادرة الجنود ذويهم وديارهم. واستقبل الناس الحرب، في دخائلهم، بشعور امتزج فيه الإحباط بالقبول، ولم يلبث أن تحول عزيمة وإصراراً، أما الحماسة فنادرة. وإبراز عدوانية بعض المجندين هو ثمرة تذكر منحاز ومحرَّف تعهدته الصحافة وبعض الأشرطة المصورة، وغلب على الذاكرة.
وعموماً، توقع أهل البلدان المحاربة حرباً قصيرة، على مثال الحرب الألمانية – الفرنسية في 1870. ولم تمضِ 4 أشهر على اندلاع حرب 1914 حتى استقرت الجبهات والخنادق المتقابلة. وقيادات الأركان على رأس الجيوش أدركت أن شكلاً جديداً من الحرب مرجح، وذلك منذ الحرب الروسية – اليابانية (1905) التي درستها القيادات عن كثب، وعلى الخصوص معركة موكدين في شباط (فبراير) – آذار (مارس) 1905، حين بدا فجأة أن المعركة تلاشت، وعمدت القوات إلى المراوحة في مكانها ودفنت نفسها في خنادقها. وليست المعارك الهجومية والخاطفة التي ألهمت خطط قيادات الأركان عشية النزاع، إلا ضرباً من إيهام النفس بأن كابوس معركة موكدين لن يتكرر. ولكن حصاراً من غير نهاية، على الجبهة الغربية، وعلى طول 700 كلم، اختصر الحرب كلها أو معظمها. والداعي إلى هذا الجمود هو السبب في تثبيت الحرب الروسية – اليابانية: قوة نار مدفعية متجددة تحمل من يُصْلاها على اتقائها بالخندقة العميقة.
وقوة النار هذه أصابت الجنود بالذهول، في أيلول (سبتمبر) 1914 على الحدود مع بلجيكا والألزاس – لورين، وأوقعت أعداداً فلكية من القتلى. ولم يكتشف القادة كثافة النار، فهم عاينوها في حرب البوير، والحرب الروسية – اليابانية، وفي الحروب البلقانية أخيراً. واضطلعت تحسينات أدخلت على المدفعية، ودور المدفعية الثقيلة ومدفعية الميدان، وجدار المقذوفات الذي ترفعه الرشاشات، والمسافة التي بلغها رمي الأسلحة الفردية وتعاظم قوة نفاذ الرصاص - اضطلعت هذه العناصر بدور حاسم في تحول الحرب إلى طورها الجديد. وتسارعت التحسينات التقنية أثناء سنوات الحرب من غير أن يطرأ تغير ثوري عليها، ما عدا الغازات السامة التي صنعها الألمان واقتفى المحاربون الآخرون أثرهم. وزوجا «دبابات الهجوم – الطيارات» لم يغلبا على مسرح المعركة، إلا في اختتام النزاع أو سنته الأخيرة، 1918. فأوكل إلى الطائرات الحربية قصف القوات البرية، وكان استعمالها يقتصر على الاستطلاع وعلى المبارزات الفردية على شاكلة حلبة الفرسان. ونجم عن تجديد آلات الحرب وتقنياتها موت مُغْفل، وعنف جسدي من غير تخصيص ولا تعريف. وعصي على القيادات فهم هذا الصنف من الحرب، وحاولت من غير طائل العودة إلى حرب الحركة، ولقاء خسائر فظيعة. والفرنسيون، على وجه الخصوص، قللوا من دور الأسلاك الشائكة في محاصرة القوات، ولم يقروا بضرورة اعتبار الفروق بين خطوط الخنادق المتدرجة عمقاً، إلا متأخرين وعلى مضض. وفي 1918، عمم الألمان تكتيكاً اختبروه في 1917 يقضي باختراق خطوط العدو المتقدمة، والاستفادة من عدوانية المهاجمين واستقلاليتهم، وبتخريب جبهة العدو. والتزم الفرنسيون تجاه هذا التكتيك المجزي، في آذار 1918، الدفاع عن الخط الأول قبل قبول مبدأ الدفاع في العمق. واضطرت قيادات الأركان، في ضوء عمليات الهجوم المدمرة، إلى إعادة النظر في خططها، وفي طواقم القيادة، ولكن أكلاف التخلي عن النهج الأول كانت باهظة.
وطاولت إعادة النظر الجندي المقاتل. فهو كذلك اضطر إلى ترك وضع «المقاتل المنتصب» إلى وضع «المقاتل المنبطح» والمتخفي. ففي أيلول 1914، قتل المهاجمون وهم وقوف، ولباسهم العسكري كان ملوناً فتخلوا عن اللون الأحمر. ومع شيوع الخنادق، تخفت أجساد المحاربين وانبطحت على الأرض. وتبنت الجيوش كلها، ما عدا الجيش الروسي، الخوذة المعدنية، تفادياً للأتربة والحجارة وليس للرصاص. وحلت تجربة جسمانية جديدة، هي تجربة العنف المتقطع والمزمن، محل تجربة الالتحام السريع والحاد. وهذا الصنف من القتال صنع نمطاً جديداً من الجنود، مقيداً وعاجزاً عن الزحف والحركة. وحين أراد الحلفاء، في صيف 1918، استئناف حرب الهجوم، لم يسع القوات الخروج من الخنادق والمكامن ومفاجأة العدو في حصون الإسمنت. وتولى المجندون الأميركيون المهمة نيابة عنهم. واعتياد جنود الحلفاء الانكفاء والتربص وقتال الجبهات الثابتة هو السبب في قصور قواتهم، على رغم تفوقها التقني والعددي الساحق، عن تحطيم الجيش الألماني ميدانياً. فهي تولت صد الجيش الألماني، ثم دفعه إلى الوراء كتلةً متماسكة ومحافظة على تماسكها. وغذى ذلك أسطورة الجيش الذي لم يهزم في 1918.
وطيلة الأعوام التي دامتها الحرب، لم تشهد الجبهات على العموم حركات تمرد أو عصيان واسعة. ففرنسا يعود عهدها ب «النفير العام»، أو «التعبئة العامة» إلى الثورة (1789)، ولو على مستوى أقل بقليل. وتمسكت بريطانيا العظمى بجيش متطوعين، ولم تلجأ إلى الخدمة الإلزامية إلا في 1916، على خلاف أستراليا التي أرسلت إلى الجبهات وحدات مقاتلة كبيرة ولكنها لم تقر الخدمة الإلزامية أبداً. وتعليل الانضباط بالتأطير، وقوة الجهاز، قاصر وجزئي. والسبب الراجح هو اجتماع هذه الجيوش من مواطنين متعلمين، إذا استثني الجيش الروسي الذي انتهى الأمر به إلى الانهيار والتمرد في خريف 1917. فالتعليم والخدمة العسكرية وقراءة الصحف، على نحو ما أظهرت دراسات المؤرخ الأميركي أوجين فيبير في حال فرنسا، حملت المواقف والتوقعات على التجانس، ووحّدتها في قوالب ومثالات مشتركة، وقوت الروابط بالأمة. فأدرك الجنود خطط الحكومات الحربية وفهموها وقبلوها. وبقيت المسوغات الدفاعية قوية، على رغم وهن 1917. ويلاحظ «تجديد التعبئة» في صف الحلفاء، في 1918.
ولكن تجربة الخنادق، وآلامها وعنفها، ترددت أصداؤها القاسية في المواقف السياسية غداة الحرب. وبدت آثار الحرب في تعظيم القائد، وتقديس الطاعة، والإعجاب المفرط بالقوة والعمل العنيف، على سبيل المثل. والفاشية والنازية والبلشفية، على وجه من الوجوه، ورثت كلها عنف الحرب. والعامل الآخر في الصمود هو التعليم، وثمرته هي المراسلات بين الجنود على الجبهة وبين أهلهم الأقربين، والعزاء الذي وفرته هذه المراسلات للجنود المرابطين في الخطوط الأمامية. فكان متوسط عدد الرسائل التي كتبها الجندي إلى أهله في أيام الهدوء على الجبهة الغربية، رسالة واحدة في اليوم إلى الزوجة أو الخطيبة أو الأهل أو الاقارب. فنقل جهاز البريد («البوستة») بلايين الرسائل أثناء سنوات الحرب، وأولت السلطات العسكرية الجهاز عناية استثنائية، وقدَّرت المراسلات وأثرها الإيجابي حق قدرها.
ولا تتناول الرسائل أمور الحرب التفصيلية، فعين الرقابة يقظة، ولا المسائل السياسية، ويدور معظمها على ما تركه الجنود وراءهم: يمضي المزارعون وأصحاب الحوانيت على تصريف أعمالهم، والآباء على مراقبة دراسة أولادهم ومسلكهم. وتتناول الرسائل الحب والعلاقات الحميمة. فسيل الرسائل هذا كان في مثابة شبكة معنوية عريضة نصبت فوق ساحات المعارك، وحبلاً أتاح للأموات - الأحياء في الخنادق البقاء مدنيين في الزي العسكري، يحدوهم أمل العودة إلى شؤونهم وحياتهم.
وإذا كانت مسألة من ربح الحرب محسومة في 1918، وشهدت معاهدة فرساي التي فرضها الحلفاء على حسمها، فمسألة ربح السلم لم تلبث أن طرحت على المناقشة في 1920 وما بعدها، وتسللت الشكوك تدريجاً إلى العقول والأذهان. وخلخلت الحرب سيطرة أوروبا، ورجحت كفة الولايات المتحدة، القوة الكبرى الجديدة. وقامت شعوب مستعمَرة على قوى مستعمِرة اضطرتها الحرب إلى استجداء العون من مستعمراتها. ونكاد نجمع اليوم على أن الحرب الكبرى لم تخلف إلا الخسارة، ولم يبق شيء من الآمال العريضة التي بعثتها نهايتها. وأصابت فكرة التقدم، ومثالها التاريخي، ضربة لم تنهض منها مذّاك. وخيل للمعاصرين يومها أن انهيار الإمبراطوريات وانتصار الديموقراطيات، وقيام عصبة الأمم، علامات ساطعة على عهد الديموقراطية. ولا شك في أن الأنظمة الديموقراطية نهضت بمهمات الحرب، واقتصادها وتوزيع أعبائها، نهوضاً قوياً وعادلاً نسبياً. وسرعان ما تبدد هذا الظن، وتراجعت الديموقراطية حتى بدت قلعة محاصرة في عقد الثلاثينات.
والسبب في انحسار الديموقراطية هو «التعنيف» الحاد الذي أصاب المجتمعات طيلة أعوام الحرب، ولم تسلم الحياة السياسية من مفاعيله. فاستتباب الأمور للأنظمة الكليانية أو الشمولية الكبيرة بين الحربين يعود شطر غالب منه إلى عنف الحرب وتجاربها المريرة. ولا يعقل انتصار البلشفية في روسيا، إلا في ضوء الحرب، وفظاظة الحرب الأهلية كذلك. وتوسل النظام الجديد، المولود في 1917، بكل تقنيات ميدان المعركة. وولدت الفاشية الإيطالية، وهي «منتج» أيديولوجي جديد، من التدخل الإيطالي في الحرب، ومن تجربة القتال. وليست النازية في نهاية المطاف إلا هزيمة مرفوضة وحرباً كبيرة مستعادة على العدو الداخلي، اليهود والحمر (الشيوعيين) الذين يزعم أنهم طعنوا الجيش الألماني في الظهر، وأنشأوا جمهورية فايمار الخانعة، ثم على العدو الخارجي. ولا تدرك استماتة النازية المدمرة إلا إذا قيست على جذورها في أحشاء الحرب الكبرى، على الصورة التي اختبرتها ألمانيا عليها، وهي صورة هزيمة عسكرية أبى الألمان الإقرار بها والمسؤولية عنها.
* مدير أبحاث، عن «لونوفيل أوبسرفاتور»، الفرنسية، 19/12/2013، إعداد منال نحاس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.