تسمّر السودانيون في مساء السابع والعشرين من شهر كانون الثاني (يناير) الماضي، أمام شاشات التلفزيون القومي في انتظار مفاجأة قيل إن الرئيس عمر حسن البشير سيعلن عنها، في خطاب يبث على الهواء مباشرة. وسرت إشاعات كثيرة قبل موعد الخطاب، ذهبت الى حد توقع اعلان الرئيس استقالته من منصبه، ضمن مبادرة شاملة يطلقها حزب «المؤتمر الوطني» الحاكم لحل الأزمات السياسية المستفحلة بالبلاد. وزاد من أجواء الإثارة حينها وجود شخصيات بارزة من المعارضة في «قاعة الصداقة»، حيث ألقى الرئيس خطابه، من ضمنهم الدكتور حسن الترابي زعيم حزب «المؤتمر الشعبي»، الذي أنهى بحضوره ذاك مقاطعة دامت قرابة 15عاماً لنظام البشير، فضلاً عن حضور الصادق المهدي وغازي صلاح الدين وآخرين جاؤوا ليكونوا شهوداً على المفاجأة المرتقبة. ولكن، وعلى عكس كل التوقعات التي ارتفع سقفها مدعوماً بالإشاعات والتسريبات، جاء خطاب البشير يومها مبهماً وغير واضح، بلا أي مقترحات مباشرة لحل الأزمات السياسية، ولا حتى مؤشرات على استعداد الحزب الحاكم لتغيير الطريقة التي حكم بها البلاد طيلة ربع قرن من الزمان. يمكن تذكّر جيداً حجم السخرية التي ملأت الأوساط الشعبية يومها من اللغة المعقدة التي جاء بها الخطاب، بينما تندّر البعض قائلاَ إن مفاجأة البشير الحقيقية أنه لم تكن هناك أي مفاجأة. وشعر الذين كانوا ينتظرون بارقة الأمل بالإحباط، ولم يكن هناك أدنى شك بأن المبادرة المزعومة فقدت - قبل انطلاقها حتى- أي دعم شعبي كان يمكن أن تحظى به، لو أن الرئيس أوضح ما يرمي إليه في عبارات مباشرة، حتى ولو لم يكن شيئاً كبيراً. لكن رغم ذلك ولحسن حظ الرئيس فإن الأحزاب السياسية لم تتعامل بردة فعل الشارع نفسها، ورحبت بمبادرة الرئيس من باب أن «الأعمال بالنيات». صحيح أن بعض الأحزاب رفض الحوار ما لم تحقق الحكومة عدداً من الشروط المسبقة، لكن الموافقين على الأقل منحوا المبادرة وزناً سياسياً جيداً لتحريك الدفة. النظام في المقابل سمح ببعض الندوات السياسية، وجدد دعوته الجميع الى الدخول في الحوار. قراءة هذه المبادرة تذكر بنحو ما بقصة المطالعة الشهيرة، التي قرأناها جميعاً في كتب الأطفال، وهي القصة التي يكرر فيها الراعي دعوته أهل القرية طلباً للنجدة من ذئب يهاجم الغنم، وفي كل مرة يكتشف أهل القرية كذب الراعي، بعد أن يأتوه مغيثين. والناظر لحال السودان هذه الأيام يرى ذئاباً تسير. أرض السودان ضاقت على أهلها بما رحبت، فهجروها ملياً، كنتيجة طبيعية للأزمة الاقتصادية التي تواصل تفاقمها منذ انفصال الجنوب، حتى أن الدولار يباع في السوق الموازية في شوارع الخرطوم بأكثر من 9 جنيهات، مقارنة بجنيهين ونصف الجنيه قبل الانفصال. والحرب التي ظن السودانيون أنهم ودّعوها إلى غير رجعة بانفصال الجنوب، عادت لتشتعل في «جنوب البلاد الجديد»، بالإضافة لدارفور التي لا تكاد تنطفئ نارها حتى تستعر هي الأخرى من جديد! والبشير الذي احتفل في شهر حزيران (يونيو) المنصرم بيوبيله الفضي في سدة الحكم في السودان، ليصبح ثاني أكثر الحكام العرب الحاليين بقاء في السلطة، لا يبدو أنه اتعظ بما حدث في بلدان مجاورة، حين طال على الناس الأمد فغيّروا وجه بلدانهم للأبد. ليست هذه المرة الأولى التي يجلس فيها البشير مع معارضيه، لكن الظروف تقتضي بأن يكون الطرفان جادين هذه المرة في حل الأمور. الإنتخابات التي تنتج برلمانا يوالي 95 في المئة من أعضائه الرئيس، وتمنح حزبه السلطات التنفيذية والتشريعية كاملة، في ولايات السودان كلها، لن تكون هي الحل. والمفاوضات التي تنفرد بأحد أحزاب المعارضة لتمنحه بعض المقاعد الوزارية، لن تغير شيئاً أيضاً. هذه كلها وسائل لإطالة عمر النظام، وهذا ليس هو الحل المنتظر. هذه المبادرة أفتتحت كما أسلفنا بخطاب معقد، فقد تأييد الشارع، لكن لحُسن حظ النظام تلقفتها بعض الأحزاب، ثم كاد النظام نفسه أن ينسف ما بناه بيديه، حين اعتقل الصادق المهدي وآخرين، رغم مشاركتهم في الحوار. ومن حُسن حظ النظام أيضاً لم يعلن هولاء انسحابهم من الحوار، وقبلوا بالتسوية السياسية. ثم منح النظام المشككين في جدية الحوار تبريراً آخر لشكوكهم حين ماطل في إجراء الحوار الذي يكمل الآن نصف عام، دون أن يحقق ولا خطوة واحدة، يمكن أن توصف بالنجاح. من حُسن حظ النظام، مجدداً، لا تزال الغالبية راغبة في الحوار، لأن الجميع يفضل حلاً سلمياً لأزمات البلد، لكن على السيد الرئيس ونظامه الآن أن يقوموا بفعل جاد ومواز للمرحلة لإنجاح الحوار، لأنهم ربما يكونون استنفدوا نصيبهم كله من الحظ، ويخشى أن يصرخوا مجدداً: هجم الذئب... هجم الذئب... ولكن دون مجيب هذه المرة.