الآن وقد تحولت جدران القاهرة إلى لوحات سوريالية تفتقد الانسيابية، وأعمال فنية تفتقد الإنسانية، وجهود إخوانية تتعمد الاستفزازية، فقد طفح كيل عمال الدهان وبلغ سيل كتابات قواعد الإخوان زبى المصريين قبحاً وشتماً وذماً في جيشهم وشرطتهم وأنفسهم، فقد حان وقت البحث عن مخرج. يخرج أنصار الجماعة كل جمعة – وأحياناً الثلثاء وربما الأربعاء - من كل أسبوع في مسيرات «سلمية» صائحة بعودة الدكتور محمد مرسي وهاتفة بسقوط الجيش ومولولة بعنف الداخلية. هذه المطالبات تؤرّخ وتؤرشَف وتسطَّر على جدران المباني، العام منها والخاص، الحكومي منها والوزاري، السيادي منها والعادي، وهو ما حول قاهرة المعزّ إلى لوحة مبهمة من لوحات بيكاسو حيث الخطوط المتشابكة والعيون غير المتناغمة والشخوص المتداخلة! تداخل الفنون من غرافيتي مشهود له بالثورية ليتحول عبثاً عشوائياً متحولاً إلى الشرعية، دعا مواطنين عاديين إلى جمع جنيهات قليلة مرة في الأسبوع لمحو آثار المسيرات «السلمية» والتظاهرات الشرعية حيث تشهد سوق الدهانات رواجاً كبيراً وانتعاشاً أكيداً بفضل الجماعة وقواعدها. إلا أن الشيء حين يزيد على الحدّ ينقلب إلى الضد. وما كان يبجل بالأمس القريب باعتباره فناً ثورياً وعملاً فنياً وتعبيراً فتياً، تحول اليوم إلى شخبطة إخوانية وتقبيحاً جدارياً وتعدياً إجبارياً، وهو ما فجّر أفكاراً ثورية، لكنها هذه المرة لم تعد تصب في خانة قلب النظام، أو ضرب الفساد، أو تغيير الحكام، بل يدور جميعها حول استباق الجدران، وضرب الإخوان، وتغيير الوجدان. وجدان المصريين ملّ الشخبطة، ما ظهر منها وما بطن، ما رسم منها على الجدران وما ترجم منها إلى أفعال. جدران، إعلانات، أرصفة، باصات، سيارات، حتى الأشجار تحولت إلى مساحات لكتابات الإخوان. حارس أحد العقارات الواقعة لسوء حظه في خط سير مسيرات الجمعة ذهاباً وإياباً يقول: «لو كانت رسوماً لسكتنا، ولو كانت أشعاراً لتحملنا، ولو كانت حتى كتابات بخط جميل لجلدنا. لكنهم في الرايحة والجاية يكتبون شتماً ويضيفون سباً بخطوط متعرجة وألوان متنافرة، فنمضي ما تبقى من أيام في الأسبوع لإزالة آثارهم». آثار المسيرات فجّرت الأفكار والإبداعات. سكان العمارة المجاورة تفتقت أذهانهم عن وسيلة أعتى وطريقة أفضل لإحباط غرافيتي الجماعة وشخبطات الشرعية. فبعد أسابيع من هدر علب الدهان وسكب زجاجات المنظفات، قرروا ترك واجهات العمارة لتتشبع بشخبطات المسيرات، وهي الخطة التي أثبتت نجاحاً باهراً، وإن كان ذلك على حساب شكل العمارة التي كانت يوماً من أحلى عمارات الشارع وأجملها. الشارع وسكانه عاشوا أياماً وليالي ثورية يثنون على رسوم شبابية لأشكال ثورية، ويحيون جهوداً فردية لمجموعات طلابية حولت جدراناً بأكلمها إلى حالات إبداعية وتعبيرات فنية، والتقطوا صوراً تذكارية إلى جوار رسم لشهيد الاتحادية الحسيني أبو ضيف، وجنباً إلى جنب مع عبارة ساخرة قوامها «سنحيا خِرافاً» في إسقاط على الإخوان وزملائهم من أنصار حازم أبو إسماعيل حيث «سنحيا كراماً». وهم اليوم يعيشون أياماً وليالي غير ثورية ويبكون على قبح الجدران وشخبطة الكتابات إلى حين سن قانون تجريم الغرافيتي وتفعيله. ومع شيوع مبدأ «شر البلية ما يضحك في مصر»، همّت مجموعة شبابية أطلقت على نفسها اسم «رأيك مكانه مش الحيطة (الجدار)» هدفها توعية المصريين باحترام الملكيات الخاصة، وحماية المنشآت العامة، واقتصار فنون الغرافيتي على أوقات الثورات وأزمنة خنق الحريات، والتوعية بأن ما زاد على الحد انقلب إلى الضد. حملة رائعة هدفها حماية الجدران من التشويه والإفراط في الكتابات والحفاظ على الشكل العام، لكن المفارقة هي أن الحملة اتخذت من الجدران وسيلتها اتباعاً لمبدأ «داوِها بالتي كانت هي الداء»!