قبل عام تقريباً من الآن ظهر للمرة الأولى، تحديداً في دورة العام الماضي لمهرجان البندقية السينمائي، فيلم «وجدة» للسعودية هيفاء المنصور. على الفور كان التعبير عن عنصر المفاجأة في الأمر، كبيراً ومدهشاً... ولنقل ان المفاجأة كانت مفاجأتين، فمن ناحية كان لا بد من أن يلفت النظر ان الفيلم هو أول فيلم روائي طويل يصوّر في السعودية ويحمل جنسيتها ولو جزئياً، ومن ناحية ثانية كان لا بد من الانتباه، وبقوة، الى ان الفيلم من إخراج إمرأة سعودية، وهو أمر لم يحصل من قبل، وإن كان قد كثر خلال السنوات الأخيرة حضور نساء عربيات وراء الكاميرا في أفلام تموّل في شكل أو في آخر من السعودية ومحطات التلفزة المملوكة لسعوديين. ومن الواضح ان سبب المفاجأة ما هو معروف من ان الصالات السينمائية لا تزال محظورة في المملكة ومن أن ليس للفيلم الروائي الطويل حظ في أن يعرض إلا في البيوت أو عبر شاشات التلفزة، وهذا لا يغطي الكلفة المرتفعة لإنتاج عمل سينمائي جدي. الفيلم نفسه أياً يكن الأمر، لا نريد هنا ان نخوض في هذه المسألة المعروفة والمتداولة، فقط نريد ان نشير الى ان جزءاً من الاستقبال العالمي الحماسي ل «وجدة» يدين الى هذا الواقع الذي يعرفه العالم ولطالما تحدث عنه... لكن جزءاً أكبر من الاستقبال يدين ايضاً ومن دون ادنى ريب الى الفيلم نفسه، وهو أمر سيعود ويؤكده رد الفعل الذي كان له حيثما عرض في الصالات الأوروبية، من دون ان نتوقف طويلاً عند عروضه الناجحة في المناسبات والمهرجانات التي نعرف انها عادة لا تشكل الامتحان الحقيقي لقوة أي فيلم وصموده خارج إطار «الفولكلور» الذي يكون من نصيبه لغرابات لا تتعلق بالضرورة بجوهره أو فنّيته او موضوعه... الامتحان الحقيقي للعمل الفني يكون حين يجابه هذا العمل جمهوراً عريضاً، ونقداً يواكب هذا الجمهور... ومن اللافت ان «وجدة» قد نجح في هذا الامتحان وبتفوق مدهش... فمن جولاته على الصالات الى انتشاره عبر الأسطوانات المدمجة، الى عشرات المقالات النقدية التي، حتى من دون ان تنسى «سعودية» الفيلم و «انثويته»، عرفت كيف تتعاطى معه تعاطيها مع السينما الكبيرة، وصولاً الى اختيار الفيلم ليخوض بعد شهور قليلة اوسكارات افضل فيلم أجنبي في هوليوود، وصولاً الى عشرات الحوارات الصحافية التي أجراها نقاد وصحافيون كبار مع مخرجته هيفاء المنصور، قام «وجدة» برحلته التي جعلته يتخذ مكانه كأقرب ما يكون في السينما العربية الى مفاهيم سينما المؤلف وسينما الرصد الاجتماعي الما – بعد – حداثية، وليوضع الى جانب الكثير من افلام السينمات الكبيرة السائدة في الفن السابع اليوم. ولم يكن صدفة ان يذكر هذا الفيلم «السعودي الأول» الى جانب سينما الإيرانيين سميرة ماخمالباف وأصغر فرهادي او التركي نوري بلجي جيلان او حتى البعض من اكثر بلدان شرق اوروبا موهبة... ولنلاحظ هنا على الفور ان هذا التصنيف لا تعود له علاقة بغرائبية سعودية الفيلم وفولكلورية ذلك الانتماء. ومع هذا كلّه، يجدر التوقف هنا لمناسبة حديثنا عن الفيلم، عند واقع يرتبط به، ومن المؤكد انه لم يكن في بال صاحبته حين شرعت تكتبه وتبحث عن المال اللازم لتحقيقه قبل سنوات، واقع ان «وجدة» هو، وبعد إجراء كل الحسابات الأخرى، فيلم يمكن ربطه مباشرة ب «الربيع العربي»... أو بكلام أكثر دقة بما يمكن السينما المتواكبة مع هذا «الربيع العربي» ان تكونه، بل، حتى أكثر من هذا: بالذي يجب ان تكونه. وللوهلة الأولى قد يبدو هذا الكلام غريباً لمن يتساءل بشيء من الاستغراب او الاستنكار: لكن السعودية ليست بلداً من بلدان «الربيع العربي»... الآن على الأقل. والفيلم كان مكتملاً في ذهن صاحبته قبل سنوات من اندلاع «الربيع». وجوابنا السريع هنا: بل إن هذين العنصرين بالتحديد هما ما يحددان مكانة «وجدة» في هذا الربيع، أو بالأحرى، في الجانب الأكثر عمقاً وديمومة منه... نعني به عنصر اشتغال الفيلم على الذهنيات، وفي العمق بالتحديد. في التفاصيل، في الرصد الاجتماعي، في العلاقات بين الشخصيات، وبشكل اكثر دقة: في وجهة النظر التي يَنظر من خلالها الى موضوعه... علماً أن هذا الموضوع لا يعود بالنسبة الينا هنا حكاية الطفلة وجدة وأمها وأبيها والرغبة في الحصول على دراجة لا يحق للبنات الحصول عليها، واستخدام مسابقة حفظ القرآن الكريم في سبيل ذلك، وغير هذا من تفاصيل حدثية طريفة ومثيرة ضمّتها هيفاء المنصور لتصنع منها فيلماً نزيهاً وجيداً... الموضوع هنا يصبح الكيفية التي حركت بها المخرجة كلّ هذه العناصر «الحكائية» لتقول فيلمها، او بتعبير آخر ل «تنطق المسكوت عنه» في المجتمع، إنما من دون شعارات صاخبة، او مواقف تمرّد طفولية من النوع الذي اعتاد ان يدمّر الفيلم ويسبغ عليه نخبوية مزيفة غير مجدية... والأهمّ من هذا، من دون استفزاز لمجتمع بالكاد يخرج من محافظته ليتقبل فكرة الصورة، ثم الصورة السينمائية، فالصورة السينمائية تلتقطها كاميرا امرأة وما الى ذلك... فهيفاء المنصور كان يمكنها مثلاً ان تملأ فيلمها بديماغوجية ما وتصوره في الخارج فيكون «فيلماً معارضاً» وينال تصفيقاً. لكنها آثرت ان تجعل فيلمها سعودياً حقاً، وفي يقيننا ان هذا كان في مصلحة الفيلم... ومجالاً لربطه الحقيقي بالسينما المنشودة ل «الربيع العربي» الحقيقي. سينما لربيع ما... فالواقع ان «الربيع» الذي لم يبدأ إلا بشكل جنيني، هو ذاك الذي يتكون الآن خارج التظاهرات وصراعات السلطة والمعارك الدامية والإحباطات والآمال السياسية العريضة الكاذبة. الربيع هو ذلك الشعور بأن لا شيء سيعود الى ما كان عليه على رغم كل ما يحدث الآن. والثورة الحقيقية هي تلك التي تشتغل في الأعماق وهي تلك التي تأتي لتؤكد ان لا شيء سيعود الى ما كان عليه، فتبدّل الذهنيات بصرف النظر عن التبدلات السريعة في المواقف السياسية والانتفاضات الاجتماعية والاقتصادية. وقد قلنا مرات عدة قبل الآن، ان مواكبة هذا التبدّل و «تقنينه» إنما هما من عمل الإبداع لا من نتائج الخطابات السياسية وتصفيات الحسابات والانزياحات الأيديولوجية، حتى ولو اتخذت، كما فعلت مراراً حتى الآن، شكل شرائط سينمائية «طليعية» و «تقدمية» و «ثورية» منذ 25 يناير على الأقل. التبدل الحقيقي انما هو ذاك الذي يفعله الإبداع الذي يسبر ما يحدث في أعماق الأحداث ويرصد المجتمع وتبدّلاته ويقدم احتمالات الخروج الممكنة من عنق الزجاجة، من دون صخب او مساجلات غير مجدية. وفي يقيننا ان «وجدة» فيلم يفعل هذا كله... ومرة أخرى نقول: يفعله في التفاصيل، في نظرات العيون، في العبارات الحوارية المتناثرة، في «التنافس» بين وجدة ورفيقها عبدالله، في دعوة المشاهد الى التعاطف مع عبير، في الاستياء من مواقف الناظرة حصّة، في صعوبة تفهّم موقف والد وجدة الذي يريد الزواج ثانية لأن ام هذه الأخيرة لم تنجب له صبياً، وفي المشهد المرعب الرائع الذي ترقب فيه الأم عاجزة اصوات الصخب آتية من عرس زوجها في الجانب الآخر من الحي... انها لحظات وتفاصيل مدهشة تمر عليها كاميرا هيفاء المنصور بذكاء وقوة قد لا يكونان مستفزّين إلا للمتفرج نفسه يدفعانه الى التفكير بعمق. ترى أولم يكن في وسعنا ان نقول الكلام نفسه حين شاهدنا «الانفصال» لأصغر فرهادي؟... بالنسبة الى المجتمع الإيراني، لا يعتبر فرهادي معارضاً... لكن سينماه بالتأكيد سينما تعترض على الذهنيات القائمة اعتراضاً عميقاً وتحرض على تغييرها... وكذلك شأن «وجدة». ومن هنا، بعيداً من فولكلور وصخب الانتماء السعودي للفيلم وأنثويته، نجدنا ميّالين الى اعتبار «وجدة»، بكل طرافته وبساطته وجماله الشكلي، واحداً من أول الأفلام المنتمية الى «الربيع العربي» او في شكل اكثر وضوحاً وربما تواضعاً: الى ما نعنيه حين نتحدث، على رغم كل شيء، عن «الربيع العربي» بمعقوفتين أو من دونهما.