الإثنين 2/9/2013: نشيد للسلام نشيد سلامنا ليس له كاتب، فكتابتنا اليوم أرقام لا حروف، ومادة لا معنى. وإذا كتبناه ليس هناك من ينشده بعدما بُحّت الأصوات واقتصرت على المجاملات: أين أنت أيها الصوت الصديق، أيها المعنى؟ وليس سلاماً هذا الذي نشاهد أو نقرأ في عالمنا الافتراضي (الإعلام صار بديل الواقع، خصوصاً لدى أنصاف المتعلمين قادة الجماهير إلى الفوضى). السلام تراب وصخر وهواء. السلام بشر وطير وحيوان، وهو أيضاً بيوت دافئة وأوابد مشرعة على الرياح، ونقوش على ألواح نقرأ فيها ماضياً يمكن أن نعرفه بالتأمل. وكان سلامنا بين صخرتين في الأعالي، مأوى يتسع لشخص واحد، لعزلته والتأمل، ولحفظ تراث تحاول الجيوش تحطيمه، ومعنى يأتي البدائيون لانتزاعه من القلب، بشقّ الصدر ثم رمي القلب إلى الكلاب. هذه الأيام لنشيد السلام، في حرارة يوميات تقارب الغليان، في ارتجاج اللايقين، وحروب غامضة تتوضح في القتل والدمار، ولكن لا ندرك منطقها، منطق قادتها المجهولين يخلون الساحات للجهل والكذب والحماقة والحقد، ولعيش يوم واحد في انتظار مفاجآت اليوم التالي. نشيد السلام يضمره المدنيون الهاربون، الأطفال عيونهم على الخوف وعلى فراغ يضاعف الخوف. الآباء يستندون إلى الأبناء كأن الأحقاب تنقلب، فليس من هاد على الطريق، ولا علامة، ولا عصافير في الأفق تشير إلى سكن ثابت وبشر طبيعيين. نشيد السلام لمن لم يعرفوا السلام، هاربين من قمع إلى قمع، ويأنسون بالغشاش قبل أن يدركوا أنه يغشهم ويندمون. نشيد السلام للبشر الأكثر معاناة في عالمنا، من بحر بيروت إلى شط العرب. الثلثاء 3/9/2013: مثقف وإنساني إذا قُدّر للمثقف أن يكتب نشيد السلام ويحدّد الأشخاص والمؤسسات التي تتعهد الحروب واستعباد الأفراد والجماعات، فهو لن يرى نتاج جهده، ذلك أنه سيدفع الثمن/ العقوبة تهديداً لحياته أو لرزقه على الأقل، ذلك أن غالبية المثقفين الإنسانيين انتهت إلى مصير مأسوي. لا نتحدث هنا عن مهنة الثقافة التي يعتاش منها ذرائعيون تراهم في ركاب هذه أو تلك من قوى الحرب والاستعباد. و «المهنيون» هؤلاء أكثر عدداً من المثقفين الإنسانيين الذين تحتاج إلى بحث دؤوب لتتبين وجودهم الشاحب في صخب التنافس على قيادة الجماعات ورعايتها مثل خراف على أبواب المسالخ. المثقف الإنساني يمتلك، حتى أيامنا الحاضرة، مواصفات الفيلسوف بالمفهوم اليوناني، أي جامع المعرفة ومهندس منطقها، والمتأمل في الكون والحقوقي المعنيّ بالاجتماع البشري، وهو المهندس والكيميائي والفيزيائي، وهو أيضاً الشاعر. هذا المثقف الأكثر عطاء هو الأكثر تعرضاً للخسارات والمآسي، لأن عنايته بوحدة المعرفة وتقديره للوجدان الإنساني يمنعانه من الاندراج في «مهنة» ثقافة التبرير والتزيين والهجوم والدفاع، أي الالتحاق بسلطة وتغذية طموحها إلى التحكم. جان جاك روسو (1712 - 1778) الذي نُقل رفاته بعد 16 عاماً من وفاته الى البانتيون، مقبرة العظماء، أمضى معظم سنواته الأخيرة في فقر وعزلة في باريس (بعد إلغاء قرار منع دخوله إليها). هو كاتب «الاعترافات» و «العقد الاجتماعي» و «اميل - عن التربية» و«بحث في أسس عدم المساواة». وقد وصف الروائي الرومانسي برناردان دوسانت بيار حياة روسو المتقشفة في باريس، وكان صديقاً له: «كان جان جاك نحيفاً، معتدل القامة، وكان أحد كتفيه يبدو أكثر انخفاضاً من الآخر، إما لعاهة طبيعية وإما للوضع الذي كان يتخذه وهو يكتب، وإما -أخيراً- لأن السنين كانت حنت ظهره وهو في سن الرابعة والستين. مع ذلك، كانت بنيته متناسقة. كان أسمر اللون، وردي الوجنتين، جميل الفم، قاني الأنف، مستدير الجبين، عالي الجبهة، ناري العينين. كانت تقاطيع وجهه التي تنحدر من المنخرين نحو طرفي الفم، والتي تتميز بها السيماء، تعبر عن حساسية بالغة يخالطها شيء من الألم، وكان إلى جانبه بيانو صغير من الطراز القديم ينقر عليه من حين إلى آخر، بعضَ الألحان، وكان أثاث غرفته يتألف من فراشين قطنيين، ومن بعض البسط، يغلب عليها اللونان الأزرق والأبيض، مع خزانة صغيرة ذات أدراج ومنضدة، وبعض الكراسي. وكان هناك كناري يغرد في قفص معلق بالسقف، وعصافير دوري تأتي فتأكل الخبز المنثور على النوافذ المفتوحة على الشارع، وكانت تنمو على نوافذ المدخل في صناديق خشبية وأوانٍ خزفية مزروعات شتى نابتة كما يطيب للطبيعة أن تبذرها». في بلادنا كثيرون من نمط جان جاك روسو، لا نعرفهم، ويصعب أن نميزهم في هذا الصخب من الكلام والدمار والدماء والأموال. الأربعاء 4/9/2013: ثلاث رسائل 1 - إلى فارس يواكيم سررت لنهوضك من سرير المرض في ألمانيا، أنت المثقف المتعدد العطاءات، في المسرح والتلفزيون والتأريخ لثقافتنا الحية غناء واحتفالات شعبية ومجالس مثقفين يطلقون نوادرهم نقداً أكثر حدّة من المعارضة السياسية، ولا أنسى يا فارس هديتك الكتاب - التحفة «الإسكندرية سراب» مترجماً ومساهماً في التأليف. أنت المولود في الإسكندرية والناشئ في تعددها، تتقدم إلى الناس لبنانياً متسامحاً، مقدراً هواجس الآخرين ومكامن قوتهم وضعفهم. تتقدم فاعلاً في الثقافة لتلتقط جواهر البشر وتنظمها ولا تقفل الباب على أحد. ويجمع عارفوك، يا فارس، على أنهم تحولوا أصدقاء من الجلسة الأولى. أنت المتجه من السرير إلى نزهة العافية، تحتاجك مصر كما لبنان ومعه سورية، واحداً من الشهود الأوفياء على إيجابيات بلاد تعبر النكبة تلو النكبة ولا تفقد الأمل، وفيما تتلقى الضربات تبقى عينها على المستقبل ورأسمالها الإنسان خارج الضلالة التي صارت سهلة، كنفِ الضلالة العدوانية والكئيبة. 2 - إلى إدوار الخراط حرائق الأخيلة حقاً هذه المرة لا في صفحات الرواية. إسكندريتك وقاهرتك والحب المصري الذي يتواصل من جداريات الفراعنة إلى ساحات الحارات الشعبية. تكتب وطنك العريق مبتدعاً لغة تجمع سحر العربية برهافة الكلام المصري الحي. قيل إنك تطل من عزلتك مرة كل ساعات أو كل أيام. أحترم شيخوختك، أنت الشاب «الفتاك» في يوميات الكتابة، ولكن، أين من ينقل كلامك المختصر بين غياب وغياب، كلامك عن مصر التي هي أنت والتي هي في خاطري دائماً؟ 3 - إلى نادر فرحات لم تصدق هذا الذي يحدث لك ولن تصدقه، أنت الذي ولد في لبنان ونشأ ما بين مونتريال ولندن وتورونتو، تقدمت إلى نفسك واحداً من النخبة بعدما سعيت في الأكاديميا والثقافة لتستحق الموقع. لن تصدق، وأرغب منك التصديق، أن النخبة وطن وليست عابرة أوطان، من هنا دهشتك لإقفال أبواب النخبة في وطنك البديل. وأراك تلح في طرق الأبواب في حين أن مقعدك في نخبة وطنك شاغر، حيث يمكن أن تهتم بالإشكالات الإنسانية، ثقافة واجتماعاً وأمناً، خصوصاً هذه الأيام. ربما كانت رسالتك النخبوية في لبنان أجدى منها في وطنك البديل، فإذا اقتنعت بقولي هذا، تتخفف من قلق العزلة والإحساس بأنك مطرود من جنتهم قبل أن تتعرف إلى مواصفات تلك الجنة. وحده الجيل الثاني من المهاجرين، وما بعده، مرشح لنادي النخبة، أما الجيل الأول فتجربة ورزق هناك واندراج في النخبة هنا في الوطن الأم. وإذا حاججتني بهذا الاسم أو ذاك في أوروبا وأميركا الشمالية، ألفت نظرك إلى وظيفية حضور هؤلاء في نادي النخبة، وظيفية لا تسمح بحرية هي جوهر النخبة ومبررها. الخميس 5/9/2013: ليل حقيقي لا بد من ليل حقيقي لنرضى بضوئنا القليل، السماء ذات النجوم، وأفق النار حيث يبدأ الجانب الآخر من الأرض. وليبق النهار بعيداً حتى لا يكشفنا الجيران الطارئون، نخفي عنهم غرفنا الأليفة ونعرض الشرفات العمومية، نقول هذي بيوتنا وأنتم الضيوف. والشجر لا نستطيع أن نخفيه وثمر الشجر، وصور أطفالنا يلعبون بالأغصان الطرية قبل أن تتعالى الشجرة وتبعدهم المسافات، فلا يصل منهم سوى الأصوات المرتجّة والصور تهتزّ على شاشة الكومبيوتر. لا بد من ليل حقيقي ليخفي إحساسنا بالغروب، حتى إذا أصبح النهار انتظرنا النهاية وصارت بيوتنا مساكن الآخرين.