الجيش الأمريكي: الحوثيون أطلقوا صواريخ وطائرات مسيرة    الأخضر يواصل استعداداته لمواجهتي باكستان والأردن    ولي العهد يتوج فريق الهلال بكأس خادم الحرمين الشريفين للموسم الرياضي 2023 – 2024    الإعلان عن إطلاق معرض جدة للتصميم الداخلي والأثاث    مدينة الحجاج "بحالة عمار" تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    الاتحاد الأوروبي يرحب بمقترح "واقعي" لوقف النار في غزة    الأمم المتحدة تحذر من خطر تعرض ملايين السودانيين للمجاعة    مدينة الحجاج بحالة عمار تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    أسعار النفط تتراجع قبيل اجتماع "أوبك+"    200 دولة في العالم و66 قناة تلفزيونية نقلت نهائي كأس الملك    جمعية لياقة تستقبل وفد سفارة الولايات المتحدة الأمريكية بعرعر    سفير المملكة لدى اليابان: العلاقات السعودية اليابانية خلال السبعين السنة القادمة ستكون أكثر أهمية    جامعة الطائف تقفز 300 مرتبة في تصنيف RUR العالمي    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يطلق خدمة (المرشد التوعوي الرقمي)    استقبال الحجاج عبر منفذ البطحاء بالمنطقة الشرقية    انجاز جديد لميتروفيتش بعد هدفه في كأس الملك    بمتابعة وإشراف أمير تبوك.. مدينة الحجاج ب«حالة عمار» تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    ركلات الترجيح تمنح الهلال لقب كأس الملك على حساب النصر    بونو يُبكّي رونالدو بْزَّاف    موعد مباراة ريال مدريد وبورسيا دورتموند اليوم في نهائي دوري أبطال أوروبا    "أرامكو" ضمن أكثر 100 شركة تأثيراً في العالم    رصد 8.9 ألف إعلان عقاري مخالف بمايو    تدريب 45 شاباً وفتاة على الحِرَف التراثية بالقطيف    الإبراهيم يبحث بإيطاليا فرص الاستثمار بالمملكة    "كروم" يتيح التصفح بطريقة صورة داخل صورة    ضبط مقيمين من الجنسية المصرية بمكة لترويجهما حملة حج وهمية بغرض النصب والاحتيال    اختتام ناجح للمعرض السعودي الدولي لمستلزمات الإعاقة والتأهيل 2024    ثانوية «ابن حزم» تحتفل بخريجيها    ترمب: محاكمتي في نيويورك «الأكثر جنوناً»    ضبط مواطنين في حائل لترويجهما مادة الحشيش المخدر وأقراصًا خاضعة لتنظيم التداول الطبي    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقوم بزيارة تفقدية    مشرف «سلمان للإغاثة»: 129 مليار دولار حجم المساعدات السعودية ل169 دولة في 28 عاماً    وكيل إمارة حائل يرأس اجتماع متابعة مكافحة سوسة النخيل الحمراء    خلافات أمريكية - صينية حول تايوان    «الجمارك»: إحباط تهريب 6.51 مليون حبة كبتاغون في منفذ البطحاء    خطبتا الجمعة من المسجد الحرام والنبوي    رياح مثيرة للأتربة والغبار على مكة والمدينة    5 مبتعثات يتميّزن علمياً بجامعات النخبة    وزير الداخلية يدشن مشاريع أمنية بعسير    "سامسونغ" تستعد لطرح أول خاتم ذكي    ترقية 1699 فرداً من منسوبي "الجوازات"    المملكة ضيف شرف معرض بكين للكتاب    توجيه أئمة الحرمين بتقليل التلاوة ب"الحج"    أطعمة تساعدك على تأخير شيخوخة الدماغ    الرياضة المسائية أفضل صحياً لمرضى للسمنة    ثانوية ابن باز بعرعر تحتفي بتخريج أول دفعة مسارات الثانوية العامة    الخريف لمبتعثي هولندا: تنمية القدرات البشرية لمواكبة وظائف المستقبل    وزير الداخلية للقيادات الأمنية بجازان: جهودكم عززت الأمن في المنطقة    الأمير فهد بن سلطان: حضوري حفل التخرُّج من أعظم اللحظات في حياتي العملية    «الدراسات الأدبية» من التقويم المستمر إلى الاختبار النهائي !    كيف تصبح زراعة الشوكولاتة داعمة للاستدامة ؟    5 أطعمة غنية بالكربوهيدرات    المملكة تستضيف الاجتماع السنوي ال13 لمجلس البحوث العالمي العام القادم    كيف نحقق السعادة ؟    المعنى في «بطن» الكاتب !    تشجيع المتضررين لرفع قضايا ضد الشركات العالمية    عبدالعزيز بن سعود يلتقي عدداً من المواطنين من أهالي عسير    أمير القصيم يكرم 7 فائزين بجائزة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الى جمال عبد الناصر: التخابر مع أميركا تمّ بأمرك وبموافقتك (5)
نشر في الحياة يوم 07 - 09 - 2009

تنشر «الحياة» رسائل مصطفى أمين من سجنه المصري الى شقيقه التوأم علي أمين في لبنان كاشفة وجوهاً من علاقة الصحافي بالسلطة وصراعات أهل المهنة التي تصل أحياناً الى الاستعداء.
الرسالة الى الرئيس عبد الناصر
هذا النص يبدأ بصفحة لها رقمان، احدهما (46) مشطوب، والثاني (21). ولكن من الواضح ان النص جزء من رسالة مكتوبة بخط مصطفى أمين وموجهة الى الرئيس جمال عبدالناصر. وهي «مطالعة دفاع» ضد التهم الموجهة الى مصطفى. وفي هذه الرسالة يشرح مصطفى للرئيس عبدالناصر بعض مراحل تعامله مع ضابط الاستخبارات في السفارة الأميركية «بروس اوديل»، ويعرض الدوافع والأسباب.
لكن ليس معروفاً، ولا ثابتاً، ان هذه الرسالة أخذت طريقها الى الرئيس، ام انها كانت مجرد نص أعد للنشر، وقد خضع هذا النص لبعض التصحيح والشطب. لكن الأصل ظل واضحاً مقروءاً.
وتبدأ الصفحة الأولى من الرسالة على انها وصل ما انقطع في صفحة سابقة. يقول مصطفى أمين:
«ولنترك التصرفات العامة، لأعود الى قضيتي.
وأحب أن أعترف لك انني فوجئت بتقديمي الى المحاكمة!
لم أتصور انك ستأمر بتقديمي الى المحاكمة بتهمة التخابر مع اميركا، وهذا التخابر لم يتم إلا بأمرك، ومن أجلك، وبموافقتك.
كل ما تصورته انك غاضب لأنني من اجل ان احصل على الأخبار السرية من اميركا استغليت اسمك ونسبت إليك اشياء لم تحدث إطلاقاً.
كنت أعتقد أنك واثق من وطنيتي، ومن إيماني ببلدي، ومن صمودي في معاركها الكبرى، ومن اشتراكي في كل معركة من معارك هذا الوطن في صفوفه الأولى. كنت أعتقد انك تعرف أنك اخبرتني في سنة 1953 انك تنوي تأميم الصحف، ومع ان دار أخبار اليوم كانت بالنسبة إلي حياتي وولدي ودمي... ومع ذلك فقد وقفت معك في معركتك عام 1954. ولعلك تذكر عندما قابلتك في مارس انا وعلي أمين في دارك، وقلت لنا: خلاص! شوفو مصلحتكم. انتهت الثورة. فقلنا لك: لا. أن مصلحة بلادنا هي مصلحتنا وسنقف وراءك، وسنؤيدك. وكان كل المنتفعين ينفضون من حولك، وكل المترددين ينقضون عليك. وقلت لنا بعد مارس انك لن تنسى طوال حياتك موقفنا معك في أزمة مارس.
ولقد عرضنا كل حياتنا ووجودنا للخطر في هذه المعركة رغم اننا نعلم منك شخصياً ان معنى انتصارك ان تأخذ منا أخبار اليوم التي بنيناها بدمنا وعرقنا ودموعنا وأعصابنا وأحلى أيام عمرنا.
وكنت أعتقد أنك تعرف أكثر من أي إنسان سواك، مبلغ نزاهتي ونزاهة علي أمين. عندما عرضت علينا عام 1955 ان تعطينا مئة ألف جنيه مساعدة لأخبار اليوم كالمئة ألف جنيه التي أعطيتها لصلاح سالم ليصدر «الشعب». وكيف رفضنا وكيف أنك ألححت وألححت. فقلت لك انني لم آخذ مليماً من أي حكومة من الحكومات. فقلت لي: ولكن انا لست ابراهيم عبدالهادي ولا اسماعيل صدقي. وتمسكنا بالرفض وقلنا اننا نقف معك في المعارك ونجد في ذلك فخراً وشرفاً.
وكنت أعتقد ان الذين لفقوا التهمة ضدي سيذكرون موقفنا معك في معركتك مع الأخوان المسلمين، وفي معركتك مع حلف بغداد، وفي معركتك مع البعثيين، وفي معركتك مع الملك سعود والملك حسين ودلاس وبريطانيا وفرنسا ومع الرجعيين ومع الشيوعيين.
ولن ينسوا حديثك معي يوم قلت لي ان اخبار اليوم خدمت الثورة مجاناً، بينما صرفنا على الجمهورية كذا مليون جنيه ولم تستطع ان تخدمنا واحداً على ألف من اخبار اليوم!
ولن ينسوا ايضاً انني عرضت حياتي للموت اثناء معركة العدوان، عندما سافرت أحمل إلى الدنيا صور وقصص العدوان، وعندما شاركت مشاركة فعلية في مفاوضات الجلاء.
ولن ينسوا كذلك يوم الانفصال، وكنت مطروداً من اخبار اليوم، فذهبت من تلقاء نفسي الى الإذاعة، وعرضت على الدكتور حاتم، أن أخدم في اقل عمل في هذه المعركة. وبقيت طول الوقت في الإذاعة بجوار حاتم.
وكنت أعتقد انهم لن ينسوا دوري الذي قمت به في مفاوضات المعونة من أولها لآخرها، سواء مع الحكومة الأميركية، أم مع البنك الدولي، ولن ينسوا انني جئت لك بموعد هجوم إسرائيل ومكانه واستعد الجيش المصري في المكان والزمان المحدد، وقضى على الهجوم الغادر، وقلت لي يومها أنك لن تنسى الخدمة التي قدمتها للجيش المصري.
ولن ينسوا ان علي أمين احضر لك نبأ العدوان الإنجليزي الفرنسي قبل حدوثه، وكانت جميع أنباء المخابرات، حتى المخابرات الروسية تؤكد ان الغزو لن يحدث. وقابلتك انا وعلي أمين وهيكل في القناطر الخيرية، وأكد لك علي أمين نية الغزو برغم الأنباء العديدة التي كانت عندك بأنه لن يحدث عدوان!
ولن ينسوا دور شقيقي علي امين في الاتصال بحزب العمال وتأليب الرأي العام البريطاني ضد المحافظين عقب تأميم القناة وفي المعركة، حتى انك قلت لعلي امين انك قررت ان تمنحه احد أوسمة الدولة الكبرى تقديراً لهذه الخدمات، فرجاك علي امين وتوسل إليك ان لا تعطيه هذا النيشان حتى لا ينكشف الدور الذي قام به امام الأعداء.
وكنت أتصور ان الذي حدث هو سوء تفاهم بيني وبينك، وتصورت انك سوف تستدعيني الى بيتك، كما كنت تفعل، وتشد أذني، أو تلومني على انني تصرفت تصرفاً لا يرضيك.
وعندما قبض عليّ، تصورت انني سأبقى في السجن أياماً أو أسابيع لتأديبي إذا كنت تعتقد أنني أخطأت. ولكنني لم أتصور ابداً، ولو لحظة واحدة، انني سوف أقدم إلى المحاكمة بتهمة التجسس!!
إنني أتصور ان يغضب الأميركيون لأنني خدعتهم، ولأنني ضللتهم، ولأنني أبلغتهم اخباراً اخترعتها لأحصل منهم على أسرار صحيحة تهم بلادي!
كنت أتصور ان يغضب الروس، لأن صلتي بالأميركيين تجعل الحبل بين حكومة بلادي وأميركا لا يزال متصلاً، وهم يرغبون في ان يقطعوا كل الحبال، وأن نحرق كل الكبار وراءنا، لكي لا نعتمد إلا عليهم، ولنفقد استقلالنا وكياننا نتيجة هذا الاعتماد الكلي.
ولكن لم أتصور ابداً ان أقدم الى المحاكمة بتهمة خيانة بلادي!
ولكن التصرفات التي عقبت القرار بتقديمي الى المحاكمة زادتني دهشة. لقد تقرر تأليف محكمة عسكرية عليا لمحاكمة الإرهابيين... وإذا بي أقدم انا لهذه المحاكمة!
وأنا لست شيوعياً، ولست من الاخوان المسلمين. والذين اتهموا بالتخابر مع إسرائيل قدموا الى محكمة عادية! والذين اتهموا بالتخابر مع فرنسا قدموا الى محكمة عادية، والذين اتهموا بالتخابر مع ألمانيا قدموا الى محكمة عادية! وأنا وحدي، الذي أتخابر مع اميركا، بناء على أمر رئيس الجمهورية شخصياً، وبناء على تعليماته المتكررة أقدم الى محكمة عسكرية عليا!
ثم أقدم أنا للدائرة التي يرأسها الفريق الدجوي...
بل تكون أول قضية تنظر امام دائرة الدجوي!
فقضيتي إذن اهم من قضية مزارة حسين توفيق لاغتيالك وقلب نظام الحكم، وأهم من قضية الاخوان المسلمين الذين أرادوا نسف قطارك، وأهم من قضية الحزب الشيوعي الذي اتهم بأنه يحاول القيام بانقلاب ويقيم دولة شيوعية في مصر، وأهم من قضية الجهاز السري للأخوان المسلمين.
ويا ليت الأمر اقتصر على هذا...
لقد أعطيت أوراق القضية للمحامين قبل المحاكمة بأربعة ايام! ولم يحدث شيء مثل هذا في تاريخ القضاء في العالم!
أربعة ايام فقط للاستعداد للمرافعة في قضية فيها حوالى الألف صفحة! وحدث ان كتبت نقط دفاعي، وأردت ان أسلمها أمام مأمور السجن الى محامي الدكتور محمد عبدالله.
وهذا ما يحدث دائماً في كل قضية.
واتصل مأمور السجن برئيس نيابة أمن الدولة... وإذا به يرفض ان أعطي دفاعي للمحامي... وطلب من المأمور ان أترك نقط الدفاع عنده 24 ساعة!
وفهمت ان رئيس نيابة امن الدولة يريد ان يطلع على دفاعي قبل ان يقرأه المحامي الذي سيترافع عني!
ورفضت ان أسلم فقط الدفاع لمأمور السجن، وقررت أن أسلم هذا الدفاع في الجلسة امام المحكمة.
وفي يوم الجلسة جاء الحارس يحاول ان يأخذ مني ورق الدفاع ليختمه!! فرفضت، وأصررت ان يتم الختم امامي، حتى لا يتمكن احد من ان يطلع النيابة مقدماً على نقط الدفاع!
ثم علمت انكم امرتم ان تكون محاكمتي سرية... ودهشت ان يكون اتهامي علنياً، وأن ينشر ويذاع بكافة طرق الإذاعة والتلفزيون والصحف، ويعقد وزير العدل مؤتمراً صحافياً لإذاعة التهم الموجهة إليّ، بينما أن دفاعي ممنوع من النشر والإذاعة!
وعندما علمت باهتمام صحافة العالم بمحاكمتي، طلبت من المحامي ان يوافق على سرية الجلسة.
ذلك لأنني لا أريد أن أحرج بلدي، ولا أريد أن أظهرها بصورة تضر دعايتها في الخارج، وقد كنت أحد الذين تقوم عليهم دعاية بلدي في الخارج.
قبلت هذه التضحية بسمعتي وكرامتي، وحقي الذي يمنحه لي أي قانون في أي بلد في العالم.
لقد نشرت المانشيتات الحمراء والصفحات الطويلة العريضة تحمل اتهامي وتدعي انني اعترفت... وتصورني بصورة الخائن المجرم.
ولم يسمح لي بأن أقول كلمة واحدة! كلمة واحدة فقط دفاعاً عن نفسي، بينما سمح بذلك للذين تخابروا مع إسرائيل، والذين تآمروا لقتل رئيس الجمهورية، والذين تآمروا لنسف قطار رئيس الجمهورية. كل واحد من هؤلاء نشرت صفحات مطولة من دفاعهم... ولكن مصطفى أمين وحده هو الذي ليس من حقه ان يفتح فمه... بل يجب ان يتلقى قرار تلويثه وتحطيمه صاغراً ساكتاً أبكم!
ومع كل هذا حرصت في دفاعي على ان لا أذكر كلمة واحدة ضد طريقة المحاكمة العجيبة، أو ضد تحقيق المخابرات، أو عن التعذيب، أو عن تحقيق النيابة المريب.
بل لقد شكرت المحكمة، وأنت تعلم كيف كانت المحكمة، وتعلم كذلك كيف ان الشعب كان يطلق على محاكمات الدجوي اسم محاكمات المهداوي!
وشكرت النيابة، بينما ان محاضر النيابة كانت كلها مؤامرة فيها تستر على التلفيق والتزوير. وشكرت المخابرات، التي جعلتني أقف عارياً، وضربني ضباطها، ونزعوا شعر صدري، وأوسعوني إهانات، وحرموني من الماء، وحرموني من النوم عدة ايام!
لقد حرصت على ألا أقول شيئاً مما حدث في المحاكمة، برغم انها سرية، لأنني أعرف ان ما يجري فيها سوف يتسرب الى الخارج، كما يحدث عادة من أمثال هذه المحاكمات السرية.
ولقد فضلت أن أكتم جروحي، وآلامي وعذابي، وأخفي الظلم الذي ارتكب ضدي، لأنني لم أرد، ولم اقبل ان يعلم العالم الهوان الذي تعرض إليه رجل خدم بلده، وخدم جمال عبدالناصر، وأنشأ صحافة عظيمة في الشرق الأوسط، وحارب في أعظم معاركها الوطنية.
لم أشأ ان يطرطش الطين على صورة بلدي، وأنا أنزع هذا الطين الذي لطختني به الأجهزة في بلادي!
لم أرد ان أقول في الجلسة العلنية ما قاله غيري من الذين تعرضوا للتعذيب لأنني أعرف انني بهذا أعطي خصوم بلادي فرصة للطعن على هذا الوطن، الذي رفعته فوق رأسي، وكنت درعاً من دروعه، وسيفاً من سيوفه، وقلعة من قلاعه!
لم أرد ان أنظف صورتي بتلويث صورة العدالة في بلادي، وأن أتحدث عن طغيان تعرضت له، فيؤخذ كلامي هذا حجة ضد قضايا وطن، وضد كل ما حاربت من اجله طوال هذه السنين. شعرت ان اليد التي أدفع بها عن نفسي سوف تصيب أمتي، فآثرت ان لا أرفع هذه اليد، وأبقى أتحمل اللطمات، والطين، والاتهامات الكاذبة.
ولقد كانت هذه هي المحنة الحقيقية التي تعرضت لها: صراع بين قدرة الأجهزة على البطش، وقدرتي على الاحتمال. صراع بين ايماني ببلدي وبين شعوري الشخصي بأن الظلم الذي أتعرض له لم يحدث له مثيل.
ان الذي حدث كان امتحاناً لإيماني، واختباراً لوطنيتي، وأعتقد أنني نجحت في هذا الامتحان رغم قسوته.
وقد دفعت في هذا الامتحان ثمناً غالياً، من دمي وأعصابي، وكرامتي وسمعتي، ومع ذلك فقد هانت عليّ نفسي، ولم تهن بلادي، ظلمتني امتي وأنصفتها، وحاكمتني حكومة وطني، وبرأتها! ودافعت عن ثورة اتهمتني. رفعتها فأذلتني. وحاربت من اجلها فحاربتني. وأعطيتها عمري وحياتي وشبابي ودار اخبار اليوم، فأعطتني قيداً من حديد وزنزانة في سجن الاستئناف.
ولم يسألني احد، ولم تسألني انت ما هي القصة.
القصة في منتهى البساطة هي انني لاحظت في الشهور الأخيرة ان العلاقات بيننا وبين حكومة الولايات المتحدة تتدهور. ولعلك تذكر انك بعد ان خطبت خطابك في بورسعيد وقلت ان المعونة الأميركية على الجزمة، اتصلت بك تلفونياً، وأبلغتك أثر هذا الخطاب في الدوائر الأميركية، وأن السفير الأميركي في القاهرة فكر في الاستقالة، وقلت لك ان من رأيي ان تقوم باتصالات من اجل المعونة، دون ان يؤدي ذلك الى ان نغير سياستنا أو نذل قيد شعرة عن مبادئنا، وقلت لك ان المسألة اكبر مني، وأن من رأيي ان يشترك معي اكثر من شخص في ذلك، ووافقت يومها سيادتكم على وجهة نظري وقلت لي أن لا مانع عندك من ان أقوم باتصالات مع اعتقادك ان لا فائدة من ذلك.
ولم أرد ان أذكر في التحقيق شيئاً من هذا الحديث، لأنني اعتبرته من اسرار السياسة العليا في بلادنا.
ولاحظت ان بروس اوديل الملحق السياسي بالسفارة على اتصال وثيق بالسفير. ورأيت انه ممكن استعماله في هذه المحاولات. وبدأت أتحرى عن الأسباب التي جعلت اميركا تسحب معونتها. وعلمت ان الأسباب هي:
أولاً: ان الحكومة الأميركية تتصور ان علي صبري شيوعي، وأنه كرئيس للوزارة يميل بالبلاد الى الشيوعية، وأن التقارير التي لديهم تؤكد ذلك. وفشلت جميع محاولاتي في تغيير هذه العقيدة وراحوا يؤكدون ان علي صبري مفروض عليك، فاختلقت حكاية وهي انك تفكر في تغيير علي صبري. وأنك تفكر في بغدادي وزكريا محيي الدين. وفي ذلك الوقت لم تكن تفكر في شيء من هذا وأذكر انني سألتك عن إشاعات تغيير الوزارة فأكدت لي أن علي صبري باق، وطلبت مني ان أكتب ذلك، وفعلاً نشرته مانشيت في الأخبار.
ولكني رأيت ان المصلحة ان أوهم أميركا ان هناك تغييراً في الوزارة وأنك تفكر في التغيير حتى أحطم العقيدة التي لديهم بأن علي صبري مفروض عليك.
ثانياً: ان الاتحاد السوفياتي لن يعطينا معونة أكثر بعد قطع المعونة الأميركية وأنهم سيمتنعون عن إعطائنا اسلحة. فرحت أختلق ان الروس سيضاعفون لنا المعونة، وسيعطون لنا أسلحة، وأنا لا أعرف شيئاً عن العلاقات بيننا وبين الروس، ولكن رأيت ان المصلحة ان أفهم اميركا انه نتيجة قطع المعونة ان الروس ستضاعف لنا المعونة، إذا زاد تأييدنا لها في فيتنام وفي سان دومينغو.
ثالثاً: ان الأميركيين يقولون انهم لن يعطونا معونة طالما نحن في اليمن. ورحت اختلق على لسانك انك تريد ان تنسحب من اليمن، وأنك لا تزيد قواتنا في اليمن، وأنه لولا ان قواد المعركة يرون ان الانسحاب يستغرق عاماً لانسحبت قواتنا.
قلت هذا في الوقت الذي أعرف اننا زدنا قواتنا، ولم يكن هذا سراً، فإنك أعلنته في خطب رسمية.
رابعاً: ان الأميركيين يقولون انهم لن يعطونا معونة طالما نرسل اسلحة للكونغو. فرحت اختلق حكايات لا اساس لها أننا أوقفنا المساعدة للكونغو.
خامساً: اردت ان أثبت اننا لسنا تحت سيطرة الروس، فرحت أختلق لبروس ان الروس طلبوا كذا ونحن رفضنا وطلبوا كيت ونحن رفضنا.
سادساً: اردت ان أشعر الأميركيين بأن لنا اهمية دولية كبرى، وأننا الذين نتوسط بين الهند وباكستان، وبين الصين والهند، وبين الصين والاتحاد السوفياتي.
وأنا لا أعلم شيئاً، لا من قريب ولا من بعيد، عن احاديثك مع هؤلاء من رؤساء الدول، ولكن اردت ان أشعر الولايات المتحدة بأهميتنا، وأننا نستطيع ان نضر وأن نفيد. وهذا فيما افهم اساس كل مناوراتنا السياسية، والسبب في النجاحات التي حصلنا عليها طوال السنوات الماضية. وقد تبين من التحقيقات والمحاكمة ان تسعين في المئة من الأخبار التي قلتها لبروس اوديل، هي اخبار اخترعتها، ولا مصدر رسمي لها، كما ثابت من الأشرطة والتحقيقات، وأن العشرة هي أخبار منقولة عن الصحف، أو أذيعت في الإذاعة قبل ذلك ومن الغريب ان وكيل النيابة قال في المحاكمة ان القانون يعاقب مصطفى امين بتهمة التجسس حتى لو قال أخباراً سبق إذاعتها في الإذاعة! لأن الإذاعة أذاعتها وعندها تصريح كتابي! ومصطفى امين قالها بعد ذلك، وليس لديه تصريح كتابي! ومعنى ذلك انه لا يجوز لأي إنسان ان يكرر ذكر خبر أذاعته الإذاعة المصرية، لأنه يكون بذلك أذاع سراً حربياً، أو سراً اقتصادياً، أو سراً سياسياً!
فلا يوجد في كل كلامي مع بروس اوديل أي خبر نقلته عن مصدر رسمي، أو أي سر ائتمنت عليه، أو أي كلام لم يكن منشوراً في الصحف العربية في مصر أو البلاد العربية، أو الصحف الأجنبية، أو كان يردده مراسلو الصحف الأجانب ووكالات الأنباء!
وقد تحديت المخابرات ان تجيء لي بسر واحد أذعته، أو بشيء قاله لي مصدر مسؤول، ونقلته الى أوديل أو غيره، فلم تستطع ان تجيء بأي شيء!
ولقد كان المقصود بكل هذه الاتصالات ان أوهم بروس اوديل ان مصر تستطيع ان تضر وأن تنفع. وجاء في مقال محمد حسنين هيكل، اثناء المحاكمة، أن سر حصول مصر على المساعدة الأميركية والمساعدة الروسية، انها تثبت انها تستطيع ان تضر وأن تنفع. وهذا ما قلته في التحقيق قبل ان ينشر مقال هيكل بعدة شهور. وواضح من الأشرطة – حتى بعد تزييفها – وبالأمثلة والصفحات، انني كنت أخترع الأخبار، لأثير بروس، ولأجعله ينطق بالأسرار عن نوايا الحكومة الأميركية السرية نحو مصر.
وعدد من الأخبار التي حصلت عليها من بروس اوديل نشرتها في صحف اخبار اليوم، وعلى سبيل المثال (خبر تفاصيل المعونة) وقد نشرته في الصفحة الأولى من الأخبار، واستفدت من برقية شفرية وصلت الى السفارة الأميركية عن الحالة في إيران، ونشرت في الموقف السياسي (...).
وما هي الأسرار العسكرية التي طلبت النيابة الحكم علي بالإعدام من أجلها؟
انني قلت لبروس عن رحلة الفريق صدقي محمود الى روسيا والصين. وثابت من الشريط ان بروس سألني عن هذه الرحلة فقلت انها منشورة في الصحف. وسألني مرة ثانية عن هذه الرحلة، فقلت أنني لا أعرف عنها شيئاً. والنيابة سجلت هذا في تفريغ الأشرطة وقالت «يبدو ان مصطفى امين قال انه لا يعرف شيئاً»! فكيف تجيء النيابة وتقول انني الذي أذعت هذا السر العسكري!
وقالت النيابة انني أذعت سراً عسكرياً هو سقوط طائرة وثابت من الشريط ان بروس هو الذي قال لي عن الخبر وسألته عن مصدره، فقال انه سمعه من مراسلي الصحف الأجانب، وأن وكالات الأنباء أذاعتها.
ولا يمكن لعاقل في الدنيا ان يقبل نظرية النيابة التي قالتها في المحكمة بأنه اذا حدث وأذاعت محطة الإذاعة المصرية خبراً عسكرياً، ثم قلت انا هذا الخبر بعد ذلك، فأكون عرضة للعقاب، لأن محطة الإذاعة عندها تصريح كتابي بإذاعة هذ السر، وأنا ليس عندي تصريح كتابي بأن أقول ما قالته محطة الإذاعة!
وفي التفريغ فضيحة... جاء فيه انني قلت لبروس: إذا حدث انقلاب شيوعي فسوف أترك مصر، وإذا حدث انقلاب غير شيوعي فسوف أترك مصر ايضاً لأنهم سيكتشفون انني اميركي! بينما الذي جاء في الشريط أنني سأترك مصر لأنهم سيكتشفون انني ناصري! وعندما قفشت هذا التزييف في التحقيق قال المترجم ان درجة استماع هذه الكلمة كان خمسة في المئة، ولهذا وضع امامها ثلاث علامات استفهام. وكيف يكتشف القاضي من علامات الاستفهام الثلاث ان المترجم يقصد ان درجة الاستماع خمسة في المئة. وكيف تتحول كلمة ناصري الى كلمة أميركي! وجاء في تفريغ الشريط الذي عرض عليك انني قلت لبروس اننا لا نريد حكومة ديكتاتورية، نحن نريد حكومة قومية فيها امثال فلان وفلان، وإذا يظهر انهم زيفوا الشريط.
فأنا كنت أروي لبروس حكاية حدثت في ايام العدوان ان الإنكليز ألقوا علينا منشورات من الطائرات تقول: «لا نريد هذه الحكومة، لا نريد حكومة ديكتاتورية، نريد حكومة قومية، فيها امثال فلان وفلان، وذكروا اسماء اثنين من الوزراء المصريين كانوا قد ماتوا قبل العدوان بسنتين!
وهي قصة مشهورة كتبتها قبل ذلك في سلسلة مقالات عن العدوان التي نشرت عام 1960 في اخبار اليوم والأخبار. وقد أثبت هذا في التحقيق رغم محاولة رجال المخابرات عدم تصحيحها. وثبت من سياق الكلام انني قلت هذا حرفياً. فما الذي يجعل المخابرات تدعي انني قلت لبروس اوديل اننا لا نريد هذه الحكومة، نريد حكومة قومية، اللهم إلا انها تقصد ان توغر صدرك عليّ، وتتصور أنني تآمرت مع اميركا ضدك! ومع ذلك لم يعلق المحامون على هذه الفضيحة في المحاكمة، ولم يقولوا ان هذا سوء نية، بل قلنا لعل السبب في هذا التصرف العجيب هو العجلة وكثرة أعمال النيابة!!
وبقيت هناك مسائل صغيرة. وأنا أؤمن انك رجل كبير، ولا يمكن ان ترضى بهذه المسائل الصغيرة...
إن علي امين هو الذي أدخل عيد الأم في بلادنا. هو الذي أسعد الملايين بهذا العيد في مصر، وفي الشرق العربي كله. وإذا بقرار يصدر بتغيير اسم عيد الأم الى عيد الأسرة! لماذا؟ حتى لا يبقى لعلي امين أي ذكرى في بلاده! وسوف يذكر الناس اسم عيد الأم مهما تغير اسمه. فالناس تسمي عيد الأضحى «العيد الكبير» وعيد الفطر «العيد الصغير». ليس لهم ان يختفي الاسم رسمياً. أن اسم عيد الأم سيعيش في كل بيت، فليس المهم كما قال علي امين ان يطلق اسم جديد على فكرة ناجحة. المهم ان تعيش الفكرة تحت أي اسم، ولا يهم علي امين ان يعيش اسمه مع العيد، كل ما يهمه انه اضاف عيداً لأعياد بلاده، فإن من السهل ان تقيم مآتم في بلادنا، ولكن من الصعب ان تضيف عيداً الى أعيادها.
ثم هناك مسألة ثانية... خيرية خيري لا ذنب لها إلا انها زوجة علي امين، وعلي أمين لا ذنب له إلا انه شقيقي. وقد ألفت خيرية فيلماً باسم «النوبة». وضعت فيه عصارة فكرها وجهدها وكفايتها وسنوات من عمرها. وإذا بأمر يصدر برفع اسمها من الفيلم! إنني لم أشك لأن اسمي واسم علي امين حذف من اخبار اليوم والأخبار... لأنني أعلم ان اسمنا سيقترن بها كما اقترن اسم طلعت حرب ببنك مصر، وكما اقترن اسم خوفو بأهرام الجيزة. ولم أشك ان أمراً صدر بحذف باسمي كمؤلف فيلم «معبودة الجماهير». ولكنني تألمت لهذا الصغار الذي اصاب زوجة أخي...
ثم هناك مسألة ثالثة... ان سكرتيرتي زينب النحاس كانت تحضر لي الطعام يومياً الى السجن، ولفت المسؤول في اخبار اليوم نظرها وطلب منها ان تمتنع عن هذا العمل الإنساني، ثم طلبت بعض صحف أخبار اليوم اثناء محاكمتي السرية لأدافع بها عن نفسي، وأحضرَتها من اخبار اليوم، وهي خدمة تقدمها اخبار اليوم لكل إنسان وفي كل القضايا. وإذا بقرار يصدر بفصلها من اخبار اليوم. كأنه لا يجوز لإنسان ان يكون وفياً لإنسان، ولا أن يمد يده لمخلوق في محنة. كأنه من اجل لقمة العيش يجب ان نلغي كل الروابط الإنسانية بين الناس. لم يكف ان أشتم في الجرائد التي أنشأتها! لم يكف ان توجه لي الطعنات والاتهامات، وأنا مكمم لا استطيع الدفاع... لم يكف ان توجه كل اجهزة الإعلام للتشهير بي، ولمحاولة تحطيمي، ثم بعد ذلك تصبح جريمة ان يحمل لي شخص عزيز طعاماً، أو جريدة أنا محتاج إليها لإثبات براءتي. إنني لا أصدق انك تعلم بهذه الصغائر، وأنك ترضى بها، وأنك تسكت عليها... ومع كل ما أنا فيه لم أيأس مطلقاً!
لقد تصورت في يوم عيد الجلاء انك ستفرج عني، لأنك ستتذكر دوري، الذي أشدت به في مفاوضات الجلاء. وتصورت في يوم عيد النصر انك ستفرج عني، لأنك تعرف دوري في معركة العدوان. وتصورت انك ستفرج عني يوم وقعت اتفاقية المعونة، لأنك ستذكر ما قمت به من ادوار في الحصول على المعونات الماضية. وتصورت انك ستفرج عني عندما جاء عبدالسلام عارف الى القاهرة، لأنك ستذكر دوري في المعركة ضد عبدالكريم قاسم. وتصورت انك ستفرج عني عقب مؤتمر القمة لأنك لا تنسى انني حملت على كتفي عبئاً ضخماً من معاركنا العربية. وفي كل حدث يحدث، أتذكر مواقف معك، وأتصور أنك لا يمكن ان تنسى ما قدمته لبلادي من خدمات وخدمات. لأنني لا تصور مطلقاً أنني أضعك على رأسي، فتدوسني بقدميك. وأشهر السيف لأدافع عنك فتغمده في صدري. (...)
مصطفى امين قُبض عليه بجرم التجسس في 21 تموز (يوليو) 1965. وأفرج عنه الرئيس الراحل أنور السادات في كانون الثاني (يناير) 1974. وتوفي في العام 1997.
علي امين أُبعد عن جريدة «أخبار اليوم» في 3 ايار (مايو) 1965، وعُين مراسلاً لجريدة «الأهرام» في لندن. سافر الى بيروت وعمل فيها (1971 – 1972). وتوفي في آذار (مارس) 1976.
* صحافي لبناني حفظ الرسائل من مرحلة زمالته لعلي أمين في مؤسسة «دار الصياد» الصحافية في لبنان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.