بالنظر إلى الرسومات الإلكترونية للقناة المائية المزمع شقها في وسط دبي وتعرف باسم القناة العربية، أو إلى خطط بناء أكبر مركز تسوق في العالم، يبدو الأمر وكأن انهيار السوق العقارية في الإمارات العربية المتحدة قبل ست سنوات لم يحدث قط. وأشارت تقديرات "سيتي بنك" في وقت سابق هذا العام إلى أن الإمارات تشهد تنفيذ مشروعات بناء بثلثي تريليون دولار. كان ذلك قبل أن يكشف حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم عن نماذج "مول العالم" وهي مدينة مغطاة بالزجاج فيها ميدان يشبه "تايمز سكوير" وشارع يضاهي "أكسفورد ستريت" إلى جانب أكبر ملاهٍ مغلقة في العالم. غير أن الأمور ليست كلها على ما يرام بالنسبة إلى شركات البناء التي وجدت مقداراً هائلاً من الأعمال، لكن مع هوامش ربح محدودة وتباطؤ شركات التطوير في سداد الفواتير. ويعني هذا أن بعض المشروعات الضخمة الجديدة والجذابة قد يتأخر استكماله عن الموعد المحدد. وتتعافى الإمارات بقوة من الأزمة المالية التي حدثت في 2008 - 2009 وعصفت بالسوق العقارية. وأعلنت الحكومات والشركات شبه الحكومية عن مجموعة من مشروعات الإسكان والبنية التحتية الضخمة في الأشهر الثمانية عشر الماضية. لكن مع توقف بعض شركات التطوير العقاري في دبي وأبو ظبي عن سداد ما عليها من مستحقات تلجأ شركات البناء الآن إلى الاقتراض والسحب من الاحتياطات النقدية لجمع الأموال اللازمة لتنفيذ المشاريع. وفي غضون ذلك، يجتذب ازدهار قطاع البناء مقاولين جدداً وآخرين من الباطن لتقديم عروض من أجل الفوز بالمشروعات أملاً بجني أرباح سريعة. لكن ذلك يقلص هوامش الربح. وقال العضو المنتدب في شركة البناء البلجيكية "بي.إي.اس.آي.إكس" فيليب ديسوي "أكبر التحديات التي يواجهها المقاولون هو أن الهوامش ما زالت تنخفض". وقال خبير إقليمي بشؤون القطاع طلب عدم ذكر اسمه نظراً إلى حساسية تعليقاته إن أرباح شركات البناء الإماراتية ستنخفض هذا العام، على رغم ضخامة حجم المشروعات. وأضاف: "تمرّ نشاطات المقاولات بمرحلة صعبة. سداد المستحقات يتأخر وهو ما يؤثر في شركات البناء التي تواجه الآن مشاكل في السيولة. وسيكون لذلك بالطبع تأثير في المشاريع". مستحقات تظهر التحديات التي تواجهها شركات البناء في شركات مثل "أرابتك" أكبر شركة مقاولات في دبي، والتي شيدت أطول برج في العالم. فقد ارتفعت قيمة المشروعات التي تضطلع بها الشركة، ولم تكتمل بعد إلى المثلين تقريباً لتصل إلى حوالى 26 بليون درهم (7.1 بليون دولار) في حوالى عامين. لكن الأموال المستحقة لها عند عملائها قفزت إلى 9.1 بليون درهم في النصف الأول من 2014 ارتفاعاً من 6.6 بليون درهم قبل عام. وفي غضون ذلك، انكمش الرصيد النقدي للشركة إلى 1.1 بليون درهم في حزيران (يونيو) من 2.7 بليون درهم في الربع الثالث من 2013. وقال محلّلون إن ذلك يرجع بالأساس إلى ارتفاع متطلبات رأس المال العامل، وأحجمت "أرابتك" عن التعليق. وقال مدير البحوث لدى "نعيم القابضة للسمسرة" ألين سانديب "إذا كانت "أرابتك" تريد الاستمرار على الوتيرة الحالية لتنفيذ المشروعات في الربعين أو الثلاثة المقبلة، فإننا نتوقع خروج تدفقات نقدية (رأس المال العامل الإضافي) مقدارها 500 مليون درهم في كل ربع". وأردف: "لا يعني هذا سوى أن سيولة الشركة قد تنفد وتضطر إلى جمع أموال أو إبطاء مشروعاتها التي تضطلع بتنفيذها". واضطرت "أرابتك" أيضاً إلى التعامل مع تغيرات في هيكل الإدارة مثل الاستقالة المفاجئة لرئيسها التنفيذي حسن اسميك في حزيران. وقال محللون لدى "إتش.إس.بي.سي" في حزيران إن مغادرة عدد من كبار المديرين والموظفين ستتمخض عن "تأخيرات كبيرة في المشروعات". وأكّدت الشركة أن كل مشروعات البناء التي تتولاها تمضي في مسارها. غير أنها عملت على تقليل التزاماتها وتخلّت عن خطط لتدشين شركتها العقارية وقلصت استراتيجيتها الخاصة بتقديم عروض للفوز بمشروعات للنفط والغاز في المنطقة. وبلغت المدفوعات المستحقة لشركة "دريك آند سكل" في دبي 5.3 بليون درهم في النصف الأول من العام الحالي بما يتجاوز مثلي إيراداتها في النصف الأول والبالغة 2.35 بليون درهم. وزادت قيمة المشروعات قيد التنفيذ إلى 14.3 بليون درهم من 7.4 بليون درهم قبل عام، وأحجمت الشركة عن التعقيب. وقد تؤدي هذه الضغوط إلى تأخر مجموعة من المشروعات في الإمارات ربما من بينها مشروعات بارزة مثل متحف اللوفر أبو ظبي الذي طال انتظاره وتشيده "أرابتك" وبعض الشركات الأخرى. وحتى الآن لم يكتمل سوى 55 في المئة من أعمال بناء المتحف الذي يضم واحدة من أكبر القبب في العالم، على رغم أن من المقرر استكماله في العام المقبل. وقال رئيس قسم البنية التحتية في شركة التطوير والاستثمار السياحي المملوكة لحكومة أبو ظبي جاسم الحمادي، والتي تنفذ المشروع "ينبغي إنجاز الكثير من العمل الشاق للوصول إلى خط النهاية. إنه أمر صعب لكننا نعمل على الالتزام بالموعد النهائي". أموال شهد العامان الأخيران طفرة دفعت أسعار العقارات السكنية في دبي إلى قرب مستوياتها إبان الفقاعة العقارية التي شهدتها قبل انهيار سوق الإمارة في 2008. وأشار تقرير أصدرته شركة "نايت فرانك" العقارية إلى أن إيجارات المساكن الفاخرة في دبي حالياً لا تقل سوى عشرة في المئة عن ذروتها في 2008 ومع ارتفاع الإيجارات وأسعار المنازل بنسبة 30 في المئة في دبي تشير التقديرات إلى أنها سجلت أعلى وتيرة نمو في العالم خلال النصف الأول من العام بعد ارتفاعها 25 في المئة في 2013. وربما بلغت السوق أخيراً ذروتها حيث تباطأت الزيادات في الأشهر القليلة الماضية. ويشكو السكان ومعظمهم مغتربون من آسيا وأوروبا من ارتفاع تكاليف المعيشة ويتساءلون عما إذا كانت هذه الطفرة ستستمر في المدينة التي تتباهى بجذب الموهوبين بما توفره لهم من حياة طيبة. وعلى رغم ازدهار السوق ما زالت شركات التطوير العقاري تتذكر الأزمة التي نشبت قبل ست سنوات وهو ما يدفعها لتوخي الحرص والحذر في شأن دفع مستحقات مقاولي البناء. ويقول مسؤولون تنفيذيون بالقطاع إن بعض شركات التطوير العقاري تتمهل في دفع المستحقات وتسددها على مراحل بدلاً من دفع مبالغ كبيرة مقدماً لشركات البناء. وصحيح أن الحكومات المحلية، خصوصاً حكومة أبو ظبي الغنية بالنفط لا تفتقر إلى الأموال لكن العقبات البيروقراطية واللوجيستية قد تؤخر سداد مستحقات شركات البناء. وقد يصبح تراجع أسعار النفط العالمية مبعث قلق آخر إذا طال أمده. وعلى رغم تهاوي الأسعار إلى أدنى مستوياتها في أربع سنوات خلال الأشهر الأخيرة فما زال من المعتقد أن أبو ظبي تتمتع بفائض في الموازنة، ولا توجد علامات تشير إلى إلغاء مشروعات مدعومة من الدولة. غير أن مسؤولين تنفيذيين بالقطاع يعتقدون أنه إذا ظل خام برنت قريباً من مستوى 80 دولاراً للبرميل لمدة عام أو عامين، فإن الإنفاق على المشروعات قد يتباطأ. أما شركات البناء التي تسعى إلى الحصول على تمويلات، فإن سوق السندات الإماراتية لم تنضج بعد، ومن ثم فإنها تعتمد بدلاً من ذلك على البنوك في المقام الأول. وأظهرت بيانات البنك المركزي أن قروض قطاع البناء في الإمارات العربية المتحدة ارتفعت 40.1 في المئة في كانون الأول (ديسمبر) الماضي عن مستواها قبل عام لتصل إلى 181 بليون درهم. وفاق ذلك نسبة النمو البالغة 8.8 في المئة في إجمالي القروض المصرفية. وبالتزامن مع ذلك، يضغط التنافس الشديد في قطاع البناء على هوامش الربح وهو ما يعني أن الأرباح المحتجزة لا يمكن أن تمول المشروعات الكبرى. وأعلنت "أرابتك" نمو صافي أرباحها 11 في المئة فقط على أساس سنوي في الربع الثاني من العام، على رغم ارتفاع الإيرادات 51 في المئة. وسجّلت "دريك آند سكل" هبوطاً نسبته 41 في المئة في الأرباح الفصلية. وقال سانديب بن نعيم: "على رغم نمو حجم الأعمال كان هناك انخفاض بين ثلاث وأربع نقاط مئوية في الهوامش على مدى العامين أو الثلاثة الأخيرة وهو ما يؤثر في المقاولين".