شعوب العالم لها صفات مستقلة تميزها عن غيرها وأخرى مشتركة وصفات يمكن لهم أن يتواطؤا على تقبلها، على رغم كراهيتهم لها، وعندما توصف الشعوب تؤخذ الصفات التي تقف على نقيض ما بين الحسن والسيئ وكأنها تشكل لعبة الأرجوحة، تعلو قيم الحسن ولكأن هذا المجتمع مشتق من روح الملائكة، ثم تنهض قيم القبح حتى تطفو فوق السطح وكأنها بقعة زيت سوداء عائمة فوق صفحة بحر ساكن، فلا تنزع العين عن تأملها بشيء من الاشمئزاز والكراهية. الكاتب الأميركي الأشهر هنري ميلر في روايته «عملاق ماروسي» قابل أناساً على ظهر قارب مقبلين من الشرق الأوسط، من أتراك وسوريين ولبنانيين ومن شابههم، فوصف منطقهم بالرديء حينما عبروا عن الروح الأميركية بأبشع صورها، ومحور حديثهم مركز على وسائل التقدم والراحة التي ينعم بها الأميركيون من دون غيرهم من شعوب العالم، إذ بدت هذه القيم المغموسة بلغة الآلة هي مطمعهم وهي التي دفعتهم للهروب من بلدانهم بحثاً عن الحضارة الموهومة. يقول هنري ميلر تعليقاً على سطحيتهم وسذاجتهم ومنطقهم الغبي: هؤلاء المخدوعون لم يسألوا عن الملايين العاطلين عن العمل في أميركا، ولا الفراغ والقلق والبؤس الذي يتمرغ فيه الشعب الأميركي، على رغم وجود وسائل الراحة والرفاه الميكانيكية. ضحك ميلر وسخر من الشرق أوسطيين لأنهم نظروا إلى ما كان يطفو فوق السطح، وكما وصف ميلر العرب الذين قابلهم بالسذج والأغبياء وانحطاط منطقهم ونظرتهم السخيفة للأشياء، ختم كلامه معهم قائلاً: ليس لدي أي من تلك الأشياء وأنني سعيد من دونها، نظر آخرون إلى العرب بما هو أسوأ من السخرية، فمثلاً ماركيز في روايته «مائة عام من العزلة» صنّف العرب مع الغجر الأوباش الذين يمارسون ألعاب الخفة والسحر، وكما كان يصف خيانة إبراهيم نصار في قصته «موت معلن» واغتصابه للفتيات، وفي روايات أخرى عالمية تأخذ مكانها من الشهرة يبرز العربي بصورة تعميمية مزرية لحد القرف، أخشى ما أخشاه اليوم، على رغم مظاهر الحضارة التي يبحث عنها العرب وييممون من أجلها صوب الشرق والغرب، أننا قد اقتربنا كثيراً من بشاعة تلك الصور القبيحة لنا، التي كانت ولا تزال تقدمها السينما العالمية لشخصية العربي المبتذلة، وكيف وضعته في خانة الأفاقين والمقامرين المهووسين بالنساء والعهر والتهتك. رضينا أم أبينا، صمتنا أم تكلمنا، لن يجدي كل ذلك نفعاً مادمنا لا نقدم لأنفسنا أمام العالم شيئاً مختلفاً، ليس من أجلهم فقط أو على سبيل الدعاية وتحسين الصورة، وما إلى ذلك، ولا من الدعوات الساذجة والغبية لأن نتحلى بشخصية الإنسان «المودرن» كي يقتنع العالم بنا ويكف عن الازراء بنا وشتمنا، لنعالج أنفسنا ولكن ليس قبل أن نضع أصابعنا على مكمن الوجع والعلة. في البداية لنعترف صراحة باختلال موازين أخلاقنا لتبدو أقرب إلى السوء، وهذا ما أبعدنا كثيراً عن سلم الحضارة البشرية، الحضارة التي تبدأ من الأخلاق، لا أقول ذلك جلداً للذات أو تباكياً على ما فات بل محاولة لحل طوق خانق أدنف وجودنا بين الأمم المتطلعة، لنعيد صياغة سؤال معمر القذافي للثوار، من أنتم؟ ونوجهه لأنفسنا بثورة مناهضة للساكن فينا والمطمئن المنتظر للموت أملاً بالحصول على الجنة، من دون فعل أدنى تغيير يذكر، فمن نحن؟ فإن كنا أمة أخلاق، دينها يبشر بالأخلاق ورسولها «صلى الله عليه وسلم» يقول: «أتيت لأتمم مكارم الأخلاق»، وسلفه الصالح عمروا الأرض بأخلاقهم، فلم نحن اليوم في الدرك الأسفل من الانحطاط الأخلاقي والمعرفي، لنقترب من الصدق مع أنفسنا أكثر ونسأل: كم بيننا وبين أخلاق الصالحين لعمارة الأرض؟ هي الأخلاق المفقودة التي تبدأ من قول الصدق وتتخذه أساسها الأول للعمل، لماذا نستمرئ الكذب ونلونه بحسب أهوائنا حتى استشرى في كل تفاصيل حياتنا منذ أن نولد وحتى أن نحمل إلى قبورنا، ثم تتلاحق التبعات من تزوير وغش ورشوة ومماطلة وشعوذة ودجل وضحك على الذقون باسم الدين. ماذا تنتظرون من طفل يولد محاطاً بالأكاذيب، وينشأ على الأكاذيب الصغيرة، يستشعرها في ما بعد مثل ألعاب الخفة، يكذب ويضحك، حتى تصبح سعادته مبنية على أكذوبة، يغش في الامتحان، والأهم عند أبويه أن ينجح، يكبر وتكبر معه الكذبة حتى يزور الشهادات، وينال من الوسمة ما لا يستحق، ويصبح مديراً كبيراً ومسؤولاً وهو لا يستحق، ثم تكبر فيرتشي ويزور، ثم تكبر حتى يسرق بطرق ملتوية متحايلاً على الأنظمة، والأدهى والأمر أنه يلتمس لها توصيفات كثيرة، ويستعير من أجلها آية كريمة أو حديثاً شريفاً يؤولهما كيفما يشاء، والطامة متى كانت هذه الأكاذيب والتلفيقات صادرة من منتسب للتدين، تلقي لحيته بهيبة طاغية على المساكين من الأتباع، وتخفق القلوب لثوبه القصير، فهو في نظرهم الصادق المطاع، وأسألكم بالله أجيبوني بصدق كيف تسمعون لواعظ يسرق معرفة ويدان بها قضاء ولا تتحرك فيكم فضيلة الصدق وتنصفون المسروق منه، فأين أنت أيها المسروق المسكين من السارق الجليل؟ وويل لمن يطعن في صدقه. كيف بالله عليكم ستكون حال مجتمع نهض بنيانه على فسيفساء الكذب وحصباء التحايل حتى وصل إلى مرحلة التبلد وفقدان الإحساس... تريدون شهادة واقعية على ذلك نحن في موسم صيفي وفي هذا الصيف اجتمعت المتناقضات، أقوام يحتربون في الخنادق، وآخرون يجوبون مدن العالم في استرخاء ودعة بلا أدنى رسالة حضارية يحملونها، فريق منهم يخاف الله فيقضون صيفياتهم داعين إلى الجهاد في باريس ولندن ويفسقون الناس ويجهلونهم، وآخر ينذرون أوقاتهم بين الحانات والمراقص، بلا وازع من أخلاق أو قيم، ومنهم من ليس له من السفر سوى التجول بين الأسواق والملاهي والمطاعم بفوضوية فجة وتبذير وعشوائية تحرك مطامع الآخرين، ثم نسأل أين الأخلاق؟ لم لا نترك بصمة تدلل علينا في حلنا وترحالنا؟ ولكن وكما قيل «فاقد الشيء لا يعطيه»، فمن حياته مفرغة من الأخلاق لن يخلف سوى الرماد، وستكون شواهد حية على رداءة أخلاق بعضنا... إذاً علينا ألا نجزع أو تتفجر صدورنا غيظاً وحنقاً من كاتب يصفنا بالهمجية أو الرعاع... إذاً لنعلنها ثورة على الكذب ولنبدأ بأنفسنا. * كاتب وروائي سعودي. [email protected] almoziani