في قبو لا تزيد مساحته على ال90 متراً مربعاً في مدينة جرمانا تعيش ثلاث أسر لأشقاء من عائلة واحدة أتوا من الزبداني التي شهدت نزاعاً عنيفاً بين الجيش النظامي السوري والجيش الحر في فترة سابقة من شهر آذار (مارس) الماضي. أكثر من عشرين شخصاً نصفهم من الأطفال يتقاسمون ثلاث غرف صغيرة ويتشاركون المرافق نفسها. هو سجن صغير لكنه أفضل من البقاء تحت الخطر. يقول أبو زاهر الشقيق الأكبر الذي يمتلك ميكرو باص بات اليوم مخصصاً لتنقلات أسرته وأسر شقيقيه بعد أن تحول العمل على خط الزبداني - دمشق إلى مهمة انتحارية كما يصفها. يضيف: «قتل ابن شقيقتي بسبب مشاركته في التظاهرات، واعتقل ابن أخي مدة ثلاثة أسابيع، ناهيك بالوضع الأمني المرعب الذي عرفته عائلاتنا فقررنا مغادرة البلدة كي لا نواجه المزيد من المتاعب». بالكاد تخترق أشعة الشمس النوافذ العالية لذلك القبو، لكن الأطفال المنقطعين عن مدارسهم منذ أسبوعين وجدوا ما يلهون به في القبو المقابل لهم الذي يستثمر كصالة ألعاب «بلاي ستيشن» يسمح مالكها للأطفال باللعب مجاناً، بينما تأمل العائلات الثلاث بأن لا تستمر فترة «اغترابها» وابتعاد أطفالهم عن المدارس مدة طويلة. السرّ الكبير وفي حيّ آخر، لم تشأ أم هشام أن تُعلم الجيران بالمكان التي نزحت منه، لكن ابنها الصغير أبلغ صاحب الدكان ب «سرها الكبير». فهي تخشى أن يجلب الأمر مشكلات «هي بالغنى عنها»، ففضلت إخفاء الأمر، لولا زلّة لسان الشقي الصغير. تقيم ام هشام وأطفالها الثلاثة منذ أشهر في غرفة صغيرة في إحدى ضواحي العاصمة دمشق، ولا تعرف الكثير عن وضع زوجها، لكن يُعتقد انه في عداد الفارّين أو ربما من عناصر الجيش الحر. ويقول صاحب الدكان إنها ترفض أن تأخذ منه شيئاً من دون مقابل، وأنها في كل مرة كانت تعود لتدفع ثمن البسكويت الذي يعطيه لابنها على رغم وضعها المادي السيء. ويضيف: «آخر مرة شاهدتها في الحي قبل ان تغادر، كانت تبكي بحرقة وكان أطفالها يبكون وهم يمسكون بذيل ثوبها. لم أعرف لماذا، لكن الجيران قالوا لاحقاً إنها تلقت أخباراً سيئة عن زوجها». عائلات كثيرة تعتبر انها اليوم دخلت أتون الحرب الأهلية، بعد أن عرفت بعض المناطق اندلاع أحداث ذات طابع طائفي، وعائلات كثيرة تعرّضت بيوتها للتدمير أو السرقة أو الحرق، لكن عائلات أخرى تنكر كل هذا، وكأنها تعيش في القسم الآخر من الأرض، وتصرّ على أن استديوات الفضائيات المغرضة المتخمة بالمجسمات هي التي تختلق كل هذه الأقاويل والإشاعات. حرب أهلية؟ ويعيش المجتمع الدمشقي تناقضاً غريباً، ففي الوقت الذي تعرف بعض مناطق دمشق وأحيائها أو البلدات المتاخمة للعاصمة دمشق أوضاعاً انسانية مزرية وانتشاراً أمنياً كثيفاً، تشهد مناطق أخرى أوضاعاً شبه اعتيادية على رغم أنها لا تبعد عن المناطق المشتعلة أكثر من بضعة كيلومترات أو أقل من ذلك. فالقادم من داريا أو المعضمية أو حي القدم المنتفض على النظام والذي يشهد نشاطات احتجاجية متواصلة، سيجد صورة أخرى لما شاهده في تلك المناطق، فما إن يقترب من طريق المتحلق الذي تنتشر بالقرب منه حدائق صغيرة مبعثرة سيجد عشرات العائلات الدمشقية الهاربة إليها من مساكن المخالفات الخانقة، وكأن ما يجري لا يعنيها، سيجد أن تلك العائلات تفترش الأرض وتمارس حياتها بشكل شبه طبيعي غير آبهة في الظاهر بما يدور في أحياء جيرانها. صحيح أن الحذر والتوجس باتا من العلامات الواضحة على وجوه السوريين أينما وجدوا، لكن هناك تفاوتاً كبيراً بين أوضاع العائلات السورية، وفقاً لدرجة انخراطها في الأحداث الدائرة ووفقاً للمناطق التي تسكنها، ومن هذا التناقض يمكن فهم المفارقات الكبيرة في موقف السوريين من هذا الحراك، فالأسر التي نأت بنفسها عنه لديها موقف مختلف عن موقف الأسر التي وجدت نفسها في قلب الأحداث، والعائلة التي غادرت منزلها مرغمة أو فقدت قريباً أو تعرّض أفرادها للاعتقال، لا يمكن أن تنظر الى الأمر بالطريقة نفسها التي تنظر إليها عائلة أخرى لا تزال تأخذ موقف «المتفرج» مما يجري.