رياح وامطار على اجزاء من مناطق المملكة    أوكرانيا تعلن خططا لنشر مئات المسيرات    ميدان الجنادرية يشهد سباق اليوم الوطني السعودي للهجن    أوقية الذهب اليوم ب "3647.75 " دولار    أبراج مدن المملكة تتوشح بعلمي المملكة وباكستان    نائب أمير تبوك يكرّم الفائزين بجائزة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز للتميز في العمل الاجتماعي    نائب أمير تبوك يدشن حملة التطعيم ضد الانفلونزا الموسمية    "سدايا" تطلق معسكر إدارة الأنظمة السحابية    «بيئة مكة» تدرس إنشاء سدود حماية جديدة في شمال جدة    بوتين: أكثر من 700 ألف جندي روسي يقاتلون حاليا في أوكرانيا    "مسار كدانة"... وجهة ترفيهية مستدامة لسكان مكة المكرمة وزوارها    ارتفاع حصيلة القتلى جراء انفجار شاحنة صهريج غاز في المكسيك إلى 21    ثنائية راشفورد تنقذ برشلونة من فخ نيوكاسل بدوري أبطال أوروبا    أمسية شعرية وطنية للأمير سعد آل سعود تدشن احتفالات الهيئة الملكية بينبع باليوم الوطني السعودي ال 95    هالاند يسجل هدفا تاريخيا في انتصار سيتي على نابولي بدوري أبطال أوروبا    ماذا ستفعل في يوم الدوام الأخير؟    الخلود يكسب ضمك بثنائية في دوري روشن للمحترفين    "وزارة الرياضة" تطلق إستراتيجية دعم الأندية في عامها السابع    جلسات منتدى حوار الأمن والتاريخ... إرث راسخ ورؤية مستدامة للأمن والتنمية    هيئة الأدب والنشر والترجمة تستعد لتنظيم معرض الرياض الدولي للكتاب 2025    الأمير سعود بن طلال يرعى زواج 200 شاب وفتاة في الأحساء    جامعة الإمام تنظم ملتقى أبحاث التصميم الأول.. ومعرض يضم 20 مشروعًا بحثيًا مبتكرًاً    مجلس الدفاع الخليجي المشترك يقرر تحديث الخطط الدفاعية وتبادل المعلومات الاستخبارية    وزير الشؤون الإسلامية يدشن ترجمتين جديدتين للقرآن الكريم    أمير جازان يزور المركز الإعلامي الخاص بفعاليات اليوم الوطني ال95 بالمنطقة    أمير الرياض يستقبل أعضاء هيئة كبار العلماء    9 وجهات و1200 منتج سياحي بانتظار الزوار في شتاء السعودية 2025    ما مدى قوة الجيش السعودي بعد توقيع محمد بن سلمان اتفاق دفاع مع باكستا    نجاح عملية تفتيت تصلب الشرايين    أمير منطقة المدينة المنورة يرعى حفل تكريم الفائزين بجائزة جامعة الأمير مقرن بن عبدالعزيز للتميز    ضبط 83 كجم قات و61 كجم حشيش    بدد أموال والده في «لعبة».. وانتحر    قطر: حرب إبادة جماعية    السعودية تطالب بوضع حد للنهج الإسرائيلي الإجرامي الدموي.. الاحتلال يوسع عملياته البرية داخل غزة    بيان ثنائي: «اتفاقية الدفاع» تعزز الردع المشترك ضد أي اعتداء    في أولى جولات دوري أبطال أوروبا.. برشلونة ضيفاً على نيوكاسل.. وعودة عاطفية لدى بروين إلى مانشستر    في بطولة آسيا 2.. النصر يدك شباك الاستقلال الطاجيكي بخماسية    فرنسا: حملة تدميرية جائرة    فيلم «ظبية» يكشف كنوزاً أثرية سعودية    عسير تتصدر السياحة الثقافية    التشهير بشركة نظمت مسابقة تجارية دون ترخيص    أمير الباحة يدشن مشاريع صناعية ولوجستية    "سترونج إندبندنت وومن"    «البلديات» تصدر اشتراطات مراكز«التشليح»    العيسى والصباح يزفان عبدالحميد    زراعة «سن في عين» رجل تعيد له البصر    هيثم عباس يحصل على الزمالة    29% ارتفاعا بأسعار البرسيم    أوقاف إبراهيم بن سعيدان تنظم ورشة عمل حول التحديات التي تحدثها المصارف الذرية في الأوقاف المشتركة    سارعي للمجد والعلياء    الخدمات الصحية في وزارة الدفاع تحصد وسام التميز بجودة البيانات    الأميرة سما بنت فيصل تُقيم مأدبة عشاء ثقافية لضيوف تدشين مشروعات رسل السلام    نائب أمير تبوك يكرم تجمع تبوك الصحي لحصوله على جائزة أداء الصحة في نسختها السابعة    أمير جازان يرأس اجتماع اللجنة الإشرافية العليا للاحتفاء باليوم الوطني ال95 بالمنطقة    وجهة نظر في فلاتر التواصل    خطى ثابتة لمستقبل واعد    محافظ الأحساء يكرّم مواطنًا تبرع بكليته لأخيه    إطلاق مبادرة تصحيح أوضاع الصقور بالسعودية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد أمين.. سيرة عقل نهضوي
نشر في الحياة يوم 27 - 03 - 2012

أحمد أمين أحد عمالقة الثقافة العربية في عصر بنائها المؤسسي ووضع مداميك نهوضها العلمي. كاتب ومؤلف مصري عرفته الثقافة العربية محققاً للتراث ومؤلفاً في التاريخ وفي الفكر وفي النقد الأدبي وغيرها من مجالات. يعرفه البعض بثلاثية فجر الإسلام وضحاه وظهره، الكتب التي ظهرت في مجلدات عدة أبرزت باحثاً رائداً يتفق معه البعض ويختلف آخرون، لكن الجميع لا يستطيع أن ينكر قيمته، سواء في الكتابة عن تاريخ النهضة الإسلامية في عصور ازدهارها أم في التعريف بالثقافات المعاصرة لمساعدة العرب على اللحاق بما فاتهم في رحلة التحديث الطويلة.
لم يكن أحمد أمين ممن تعرفت عليهم في بداية قراءاتي، فقد احتل زميلاه طه حسين وعباس العقاد وإلى حد ما الرافعي، المكانة الأولى، وأظن أن مناهج التعليم السعودية حالت دون ذلك التعرف أو لم تشجعه، ربما لعدم تميز أحمد أمين في الكتابة الأدبية، أو لأنه كان في نظر المربين المحافظين مدافعاً عن نزعات عقلية في الإسلام وفي الفكر الحديث، وسهل دفعه عن أنظار التلاميذ بقدر أكبر من السهولة التي كان يمكن بها دفع طه حسين أيضاً لولا أن هذا الأخير كان له أدب آسر ونتاج يلح على قرائه ويدنيه إلى حيث لا يدنو أمين الذي لم يعرف بجمال الأسلوب أو العناية بما هو مطلوب من التراث.
هذه الإلماحات يجدها القارئ لسيرة أحمد أمين «حياتي» التي صدرت طبعتها الأولى عام 1950 ثم أعيدت في طبعة ثانية مزيدة عام 1952، وهي الآن في طبعة أخرى لم تذكر دار الشروق سوى أنها طبعة الدار الأولى عام 2008 وفي النص ما يشير إلى أنها أعدت عام 1953، أي قبل وفاته بسنة.
حين تمضي في هذا الكتاب - السيرة يتبين لك أنك أشبه بمن يسير في دهليز قصر كبير تفضي الأبواب الكثيرة على مساره إلى عوالم مختلفة يمكن أن تقضي في كل منها ردحاً من الوقت تتعلم وتتأمل. فحياة كحياة أحمد أمين، تماماً مثلما هي حياة بعض مجايليه وغير مجايليه من صناع الثقافة الكبار، هي في نهاية المطاف حياة مرحلة كبرى من حياة الثقافة يرويها من عاشها وشارك في صنعها عن قرب وبقوة. فكل الناس يعيشون المراحل التاريخية لكن نصيبهم في التأثير فيها يتفاوت وأكثرهم ليسوا أكثر من متفرجين، بل ومتفرجين تلهيهم الأحاديث الجانبية فلا يرون حتى ما يجري. أما الأفراد من طراز أمين وطه حسين والعقاد وغيرهم سواء في تلك المرحلة أم ما عداها من مراحل فحياتهم مكتنزة بالتحولات الكبرى التي ترسم خطاً بيانياً لحياة من حولهم وللأفكار والأحداث والمنجزات وكذلك الخيبات والهزائم التي عاشوها واشتركوا في صنعها ثم حللوها واتخذوا المواقف منها وحكموا عليها. يقول أحمد أمين في نهاية سيرته: «لو استعرضت حياتي من أولها إلى آخرها لكانت «شريطاً» فيه شيء من الغرابة وفيه كثير من خطوط متعرجة، فما أبعد أوله عن آخره، وما أكثر ما فيه من مفارقات، وتغير في الاتجاهات، ومخالفة للاحتمالات». وهو مع انشغاله في هذا التقويم بحياته فإن ما يقوله لن يقل دقة لو سحب على تطور الحياة في مصر وما حدث للثقافة العربية في تلك الفترة في مصر نفسها حيث صنع الكثير من تلك الثقافة.
في قراءة السيرة سواء كانت ذاتية أم غير ذلك لا يبحث القارئ عادة عن الأحداث العامة التي رافقت حياة الكاتب بقدر ما يبحث عن تلك الحياة نفسها، عن التفاصيل الشخصية، أما الأحداث فتأتي أهميتها من أنها تتصل بتلك التفاصيل، بالمؤلف ومراحل نموه وتطور تفكيره ومشاعره، أي من الزاوية التي نظر من خلالها إلى العالم.
وإن نسي القارئ أن يبحث عن ذلك فإن عنواناً مثل عنوان أحمد أمين كفيل بتغيير وجهته. فحين يكون عنوان السيرة «حياتي»، فإن القارئ سيسحب سحباً إلى خصوصية الكاتب وذاتيته الصارخة بأناها، الحادة بحضورها، المشرئبة بتفاصيلها. وهو ما يضع ذلك العنوان بمنأى عن سير أخرى تستدعيك ولكن برفق وهدوء كما في «الأيام» لطه حسين حيث العنوان الشديد العمومية وضغطه على عنصر الزمن العام في مقابل الزمن الخاص للكاتب أو للفرد، فهو ليس «أيامي» وإنما «الأيام».
في «حياتي» يتجاوز أحمد أمين مسألة الاستحواذ على انتباه القارئ في العنوان ليحاصره بتقويم حياته، وكأنه يريد أن يغنيه عن اكتشاف طبيعة تلك الحياة على المستوى العقلي، كما في قوله قرب نهاية السيرة: «ثم لي نزعة صوفية غامضة، فأشعر ببعض اللحظات بعاطفة دينية تملأ نفسي ويهتز لها قلبي»، أو قوله «ومزاجي فلسفي أكثر منه أدبياً. حتى في الأدب، أكثر ما يعجبني منه ما غزر معناه ودق مرماه». والحق أن الوصف الأخير بشكل خاص هو ما تبين لي صدقه، فقد شعرت وأنا أتابع تطور تلك الحياة الغنية بأنني أمام رجل عقل أكثر مما أنا أمام رجل عاطفة أو خيال. أما الصوفية فقد تأتي من باب سعي أمين للتوفيق بين عقلانيته وتربيته الدينية، فالتصوف في ما ينطوي عليه من توحيد للوجود يبرز طبيعة متجاوزة للإنسان يقترب بها من الألوهية. نجد ما يذكر بذلك في بدايات السيرة حين يروي قصة ولادته إثر وفاة أخت له اشتعلت فيها النار فحزنت الأسرة. يقول أحمد إنه كان في بطن أمه حين حدث ذلك «فتغذيت دماً حزيناً ورضعت بعد ولادتي لبناً حزيناً، واستقبلت عند ولادتي استقبالاً حزيناً، فهل كان لذلك أثر فيما غلب علي من الحزن في حياتي فلا أفرح كما يفرح الناس ولا أبتهج كما يبتهجون؟» أما صلة ذلك بما أشير إليه من نزعة عقلية وميل للتصوف ففي النتيجة التي يخلص إليها: «علم ذلك عند الله والراسخين في العلم». ففي هذه العبارة يتغير الوقف في الآية الكريمة ضمناً ليأتي بعد «العلم» بدلاً مما هي عليه الحال في المصاحف التي نقرأ لتصير: «وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، يقولون آمنا به» الآية. استعمال أمين لكلمة «الراسخين» بالنصب يجعله يميل مع بعض فلاسفة الإسلام مثل ابن رشد في «فصل المقال» إلى جعل الراسخين في العلم عالمين بتأويل المتشابه وليسوا مؤمنين به فحسب كما هو منطوق الآية إذا وضعنا الوقف بعد لفظ الجلالة وجاءت «الراسخون» مرفوعة.
نحن إزاء كاتب عقلاني ألّف في الفلسفة وعني من التراث بالعقلاني منه كما يقول هو. لكن هذه العقلانية لم تأت إلا بعد نقلات تربوية وفكرية متعددة في حياة الرجل، كما يقول هو عن نفسه. جاء أول تلك النقلات حين نقله والده من التعليم الابتدائي إلى التعليم الديني في الأزهر لتأتي نقلة أخرى حين ترك الأزهر ليدخل مدرسة القضاء ويعين قاضياً، ثم جاءت أخرى حين ترك القضاء لينضم للجامعة أستاذاً وعميداً. ومع أن من هذه النقلات ما عرفه بعض مجايليه مثل طه حسين، فإن الاختلاف هو أن أحمد أمين لم يتح له الاستمرار في أي منها إلى منتهاه، فهو لم يكن تراثياً أو أزهرياً تام الأزهرية ولا تحول إلى التعليم الحديث تمام التحول، بل ظل يحمل شيئاً من هذا وشيئاً من ذاك بالقدر الذي أتاح له أن يرى كل هذه المجالات فيعرفها لكن من دون أن ينضوي تحت لواء شيء منها تماماً الانضواء. ولعل من أبرز ما عانى منه في تلك النقلات شعوره الدائم بضعفه في اللغات الأجنبية، فهو لم يبتعث مثل طه حسين فيتقن لغات أوروبية وظل يحاول تعلم الإنكليزية فترة طويلة إلى أن أجاد منها قدراً لا بأس به، ويروي في ذلك قصة طريفة مع معلمته الأجنبية إلى جانب قصص أخرى طريفة تستحق المزيد من الاستماع والتأمل أؤجلها لجزء آخر من هذه القراءة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.