محافظ الخرج يرأس الإجتماع الدوري لرؤساء المراكز بالمحافظة    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين جراء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة إلى 34.789 شهيداً    طيران الإمارات توسّع اتفاقية الإنترلاين مع طيران ناس لتوفير رحلات ربط أكثر سلاسة من السعودية إلى العالم    آدم جونز يكشف إستراتيجيات ماستركارد لدعم التحول الرقمي في المملكة    أمير الشرقية يستقبل ضيوف الاثنينية و يدشن مقر الجمعية التعاونية الاستهلاكية    نائب أمير الشرقية : صعود القادسية سيضيف لرياضة المنطقة المزيد من الإثارة    استثمارات مليارية وفرص وظيفيّة كبيرة بملتقى المستثمرين الباكستاني- السعودي    تطوير المدينة تستعرض مواقع التاريخ الإسلامي في معرض سوق السفر 2024    أمير تبوك يستقبل المواطنين في اللقآء الأسبوعي    أرامكو السعودية تعلن عن النتائج المالية للربع الأول من عام 2024    الموارد البشرية تطلق خدمة "أجير الحج" لعام 1445    اهتمام عالمي بصعود القادسية إلى دوري روشن السعودي    تعليم الطائف يحقق المركز الأول في دوري الفيرست ليغو 2024    تعليم الطائف يكرم الطالبات الموهوبات    المملكة توزع 6.500 سلة غذائية للمتضررين شرق خان يونس    وغاب ضي البدر وضيّ الحروف    الأمر بالمعروف في جازان تفعِّل المصلى المتنقل خلال مهرجان الحريد    مركز التنمية الاجتماعية في حائل يُفعِّل اليوم العالمي للإبداع والابتكار 2024    مركز الحماية الأسرية وحماية الطفل في حائل يقيم مأدبة عشاء لمنسوبيه    الأرصاد: لاتزال الفرصة مهيأة لهطول الأمطار بعدد من المناطق    الهلال يحسم الكلاسيكو على حساب الأهلي    مالكوم: حققنا فوزاً ثميناً.. وجمهور الهلال "مُلهم"    "آيفون 15 برو ماكس" يحتل صدارة الأكثر مبيعاً    العُلا تنعش سوق السفر العربي بشراكات وإعلانات    ولي العهد يعزي رئيس الامارات بوفاة الشيخ طحنون    وزير الدفاع يرعى تخريج طلبة الدفاع الجوي    حظر ممارسة النقل البري الدولي بدون بطاقة التشغيل    المملكة وتوحيد الصف العربي    لصان يسرقان مجوهرات امرأة بالتنويم المغناطيسي    فهد بن سلطان يقلّد مدير الجوازات بالمنطقة رتبته الجديدة    «الدون» في صدارة الهدافين    عقوبات مالية على منشآت بقطاع المياه    «ستاندرد آند بورز»: الاقتصاد السعودي سينمو 5 % في 2025    مؤتمر لمجمع الملك سلمان في كوريا حول «العربية وآدابها»    «أحلام العصر».. في مهرجان أفلام السعودية    استقبل أمين عام مجلس جازان.. أمير تبوك: المرأة السعودية شاركت في دفع عجلة التنمية    هل تتلاشى فعالية لقاح الحصبة ؟    اختبار يجعل اكتشاف السرطان عملية سريعة وسهلة    وزير الحرس الوطني يستقبل قائد القطاع الأوسط بالوزارة    أنسنة المدن    ريادة إنسانية    موعد مباراة الأهلي القادمة بعد الخسارة من الهلال    الهلال يتغلب على الأهلي والاتحاد يتجاوز الابتسام    اختتام "ميدياثون الحج والعمرة" وتكريم المشروعات الفائزة والجهات الشريكة    فنون العمارة تحتفي بيوم التصميم العالمي    لاعب الهلال "الشهري" يحصل على جائزة أفضل هدف في الجولة 30    افتتح المؤتمر الدولي للتدريب القضائي.. الصمعاني: ولي العهد يقود التطور التشريعي لترسيخ العدالة والشفافية    أبو الغيط يحذّر من «نوايا إسرائيل السيئة» تجاه قطاع غزة    اكتشاف الرابط بين النظام الغذائي والسرطان    إنفاذًا لتوجيهات خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد.. وصول التوأم السيامي الفلبيني «أكيزا وعائشة» إلى الرياض    بكتيريا التهابات الفم تنتقل عبر الدم .. إستشاري: أمراض اللثة بوابة للإصابة بالروماتويد    جواز السفر.. المدة وعدد الصفحات !    الحرب على غزة.. محدودية الاحتواء واحتمالات الاتساع    أكذوبة «الزمن الجميل» و«جيل الطيبين»..!    وحدة الأمن الفكري بالرئاسة العامة لهيئة "الأمر بالمعروف" تنفذ لقاءً علمياً    هيئة الأمر بالمعروف بنجران تفعّل حملة "الدين يسر" التوعوية    في نقد التدين والمتدين: التدين الحقيقي    100 مليون ريال لمشروعات صيانة وتشغيل «1332» مسجداً وجامعاً    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخيون: كنت أظن الحديث عن التعصب الديني ممنوعاً في السعودية
نشر في الحياة يوم 13 - 03 - 2012

لا يمكن لأي تجمع ثقافي على مستوى تحضره ولا تجد الدكتور رشيد الخيون علامة فارقة فيه.. إما بصوته الشجي أو ب «اللوك» الجميل لشعره وبقية تفاصيله..
ضيفنا عراقي ولأن الجينات العراقية تسكنه فنحن على موعد مع كل شيء، صراعات فكرية وتاريخية، تفتيش في الدفاتر ونبش في الورق الأصفر.. عاش الفكرة واعتنقها ومارس المعتقدات وفقهها، قد تدوم طويلاً وقد تتغير بسرعة، ما يهمه هو فكره فقط..
يتخوف ضيفنا كثيراً من دخول العقائد للسياسة ويرى في ذلك وبالاً ما بعده وبال على المجتمعات..
نقاشاته مع أطياف المجتمع السعودي يرى فيها تناغماً جميلاً، ويمتدح توجهاتنا وينوء بنفسه عن التشدد والمتشددين عندنا..
من العراق إلى اليمن ومن ثم بريطانيا محطات صقلت صاحبنا ومنحته بياناً ما بعده يخرج وفق طقوس مجنونة من نوع الحبر للإضاءة وما إلى ذلك من تفاصيل تجعلنا نشعر أننا في حضرة مجنون عاقل فيلسوف.. من الأهوار كانت نشأته ومنها نتعلم أنه لن يغرق بسهولة.. ولكنه يمنح من يجلس إليه ويقرؤه غرقاً لا نبحث فيه عن طوق نجاة.. إلى الحوار.
أنت طفل نشأ في الأهوار.. تعلم المشي والحبو والسباحة في آن.. من الذي ارتكب جريمة تجفيف الأهوار؟
- للأهوار كبيئة تأثيرها الكبير في صقل النفس والبدن، فلها عالمها الروحي بما تعكسه طبيعتها المائية الخضراء، ولابن بطوطة في البيئات المائية، الذي زار العراق والشام، عبارة ذات مغزى وردت في رحلته: «سئمت كثرة الماء، حتى اشتقت إلى الظمأ»، وكان يقصد غوطة دمشق، والأهوار أغزر ماءً من الغوطة، ولو حصل وزارها الرَّحالة، الذي وقفتُ على ضريحه في زقاق مِن أزقة طنجة، لقال أكثر مِن هذا.
في تعلم السباحة مع تعلم المشي، هو ما تفرضه تلك البيئة على الإنسان، وهي غريزة في تلك الديار، والطفل إذا مشى ولم يجيد السباحة يقضي غرقاً. في هذا الأمر للمستشرقة البريطانية دراوور في «على ضفاف دجلة والفرات»: "وما أن يدرج الصبي إلا وتجده سابحاً في الماء، إنهم كطيور الماء».
لي بحث واسع في تاريخ الأهوار، فاكتشفت أن ماء المنطقة كان هدفاً لعشرات السلطات، بداية من العهد الفارسي وما بعده، منها لأغراض زيادة الخراج، ومنها لتسهيل مطاردة المعارضة، ففي الحرب بين أمير الأهوار ابن شاهين وبختيار البويهي عمد الأخير لغلق منافذ الماء عنها، فالمعارض هناك يجد طعامه وشرابه.
أما التجفيف الأخير فكان شراكة بين النظام السابق والدول التي تنبع منها الأنهر التي تمر بالعراق وتصب في الأهوار، وأعني تركيا وإيران، ولولا قلة الماء الوارد إلى الأهوار ما أضر بها التجفيف. كانت واحة وسط صحراء، وانقرضت أنواع من الحيوانات والطيور، أما العهد الحالي فلم يفعل شيئاً ذا أهمية. قرأت أن الشاعر بشار بن برد، الذي قُتل بحدود السنة 168 ه أخذ محمولاً من البصرة ورميت جثته في الأهوار، وأن الخليفة العباسي القادر لجأ إليها في أزمنة.
السومرية و الأهوار
بأصولك السومرية.. وأرضك الأهوار.. ريف الجنة.. كيف كان انتقالك لبغداد الحاكمة لدراسة الثانوية؟
- ما زالت الطبائع السومرية قائمة في المنطقة، مع أن الأهالي لا يعرفون ذلك التاريخ، وهو لولا بعثات التنقيب عن الآثار ما عُرف شيء عنها، فالمعروف هو اسم «أور» كونه ورد في التوراة، مع أن إبراهيم الخليل لم يخرج من أور المكان إنما خرج من نار الكلدانيين، هذا ما قرأته عند الأب أنستاس الكرملي، المتوفى 1947، كتب ذلك في مجلة «المشرق» العام 1900 وهو كان مراسلها ببغداد آنذاك، فمعنى أور في اللغات القديمة النار.
من الأثر السومري بيت القصب، وأسلوب الحياة، والعديد من المفردات، وكذلك طرق الغناء، فقد ظلت مكاناً بكراً بعيداً عن التأثير، حتى أن القبائل العربية التي هاجرت إليها تطبعت بطباعها وعاشت بأسلوبها.
فعتبة بن غزوان، أحد أبرز قادة الجيش الإسلامي العربي وقف عند حفات الأهوار في شمال البصرة وقال: «هذه ليست من أراضي العرب». هذا ما ورد في تاريخ ابن الخياط. وأن التعرف على طعام الرز كان بعد فتح البصرة، بحسب رواية صاحب معجم البلدان، وصاحب كتاب البلدان.
كان الانتقال إلى بغداد بحكم الدِّراسة، فنحن نعيش على الماء، تبدأ مدارسنا في أيلول (سبتمبر) أو تشرين الأول (أكتوبر)، وتنتهي عندما يفاجئنا الطوفان في آذار (مارس) ونيسان (أبريل).
وفي إحدى السنين كنا ندرس في الزوارق، ومع ذلك أكملت الرابع الثانوي بالأهوار، ولم يفتح الصف الخامس لقلة الطلبة، فاضطررت إلى الدراسة ببغداد. كان عليَّ أن أقرأ ضعف ما يقرأه الآخرون ممن درسوا ببغداد، بسبب تأخر الدراسة عندنا، فكان المدرسون المنتدبون إلى منطقتنا يحاولون التهرب لبعد المكان وبيئته المائية، التي لا يحسنون التعايش معها.
شيوعي في اليمن وليبرالي في بريطانيا.. ما المحطة التالية؟
- نعم، كنت لا أسمح بلفظة واحدة تقال ضد الاشتراكية، أو المادية الديالكتيكية والتاريخية. كنت أُدرِّس بريف اليمن الجنوبية اللغة العربية والدين، ولما انتقلت إلى عدن أخذت اُدرِّس الفلسفة الديالكتيكية في السنة الثالثة الثانوية وفي المرحلة المتقدمة المادية التاريخية. أخذنا الأمر بتعصب الموروث كأنه علاقة عشائرية. مع أن النظريات تخطئ وتصيب وتتغير مع الأزمان، ووجدت في ما نُقل عن الإمام أبي حنيفة، الذي قيل إنه قُتل السنة 150 ه، حكمة خالدة: «تبدل الأحكام بتبدل الأزمان»!
تعلمنا من بريطانيا سعة الروح واختلاف الرأي، فأنا تركت عدن، بعد سيطرة التيار الديني المتشدد فيها، بسبب مقالات عدة كتبتها في جريدة «صوت العمال» الاشتراكية، لكن الغلبة بعد الوحدة اليمنية صارت للتيار الديني، وكانت الاغتيالات جارية، وقد ردّ عليَّ أحد شيوخ التيار الديني في مقالات نشرها في «الصحوة» صحيفة حزب الإصلاح، وهو جماعة الإخوان المسلمين، فالزنداني كان أبرز قادته. ونشرت تلك الصحيفة مناشدات للعلماء بالرد على «هذا الكاتب المتطاول وتلك الصحيفة الحمراء».
ثم وصلتني رسالة تهديد سلمها طفل إلى زوجتي وهرب يبكي، فلم يبق أمامي سوى الرحيل، لكن هذه الرسالة وما كتب في «الصحوة» نفعني عند طلب اللجوء ببريطانيا. لسنوات طويلة أكتب بلندن وأنشر لم يعترض عليّ أحد، فمازال الأمر كلاماً وحروفاً فأنت حر. وليس هناك أثمن من الحرية! أتاحت لي لندن مراجعة نفسي وكبح تشنجها رويداً رويداً، حتى تعلمت كيف أنصت للآخر، وكيف أن العقيدة إذا دخلت السياسة تحجرت، واكتشفت أنني لست كائناً سياسياً، إنما كانت مكابرة.
العهد الصدامي
حسك الوطني المرهف هل يتفق مع إقامتك الآن في لندن لا سيما بعد زوال النظام الصدامي الذي هربت منه؟
- البعد عن الأوطان لا يؤثر برهافة الحس تجاهها، فمن يوم مغادرة العراق كانون الثاني (يناير) 1979، بعد أن ضاقت الأرض بي، وأنا اعتبر نفسي مسافراً. كنا ننتظر بزوال النَّظام يزول الفزع، ولكن مثلما ترى وتسمع قد تفاقم، وها هو الموت يجيء للعراقي من جهات عدة، بينما كان يأتي من جهة معروفة.
المجتمع العراقي القديم وثني نشأت فيه ديانات آشورية وبابلية وسومرية وأكدية. وعلى هذه الأرضية الوثنية انتشرت أديان أخرى توحيدية.. هل هذه الخلفية المتغايرة تفسّر لنا ثورة السلطة والعنف في العراق كل حين؟
- أبداً، ليس وجود تعدد الأديان سبب العنف بالعراق، بل البيئات المتعددة تكون أكثر ميلاً للسلام، لأنها تجيد فن التعايش. أما أن هذه الأرض وثنية فلي اعتراض. لأن سومر وبابل وآشور كانت تعرف الله، أما الآثار التي تجسّد المعبودات فهي مجرد رموز، أو قل هو الفن، وأنا لا أميز بين الأديان بهذه الطريقة: توحيدية ووثنية، كلها موحدة، ما زالت تشير إلى الأعلى.
وإذا كان العراق قد تعرض للعنف بسبب الوثنية! فبماذا يُفسر العنف في البلدان الأُخرى؟! التي كانت ومازالت توحيدية! أليست شريعة حامورابي وقصة الطوفان حاضرتين في الأديان كافة وهما من تلك الأرض! بل إن إسرائيل اليهودية سمت عملتها بالشيقل (الشَّيكل)، ولو قرأت شريعة حامورابي لوجدت الشيقل غرامة تفرض في المحاكم.
السلطة الصدامية السابقة والحصار والتوترات المؤلمة التي تطوف بأرض الرافدين ليل نهار.. كيف منحت عراق الثقافة ثقافةً من تراب الآن؟!
- نعم، وصل مستوى الثَّقافة العراقية إلى الانحطاط، مثلما عبرت عنها بالتُراب، لكن العراق ليس غيره، فيه مقومات النهوض، ولا أبالغ إذا قلت النهوض بسرعة فائقة، فعلى رغم ما ترى وتسمع من سيادة الشعوذة على العقل الجمعي هناك نهوض ملموس.
ولو قُدر لك وزرت معرض بغداد للكتاب لوجدت الإقبال الهائل على الفكر العلمي. هناك فنانون يتوالدون، ومسرح يعمل، وأدب يُكتب، وشعر يُلقى، مع كل الضيق الذي تعانيه الثقافة عبر الهيمنة الدينية والطائفية، أقول هناك مقومات منها الأُصول في الأرض، ومنها ثروات البلد وتعدده الاجتماعي.
هيمنة العقل الديني وتدخله في خصوصية الأفراد اليومية.. وتوزيع صكوك الغفران..هل أطاحت بالمجتمع العراقي الذي لا يرتضي التسلط؟
- ترى المجتمع العراقي يقاوم ذلك الاستبداد وبقوة، وعلى مدار الساعة. ولهذه الهيمنة أسباب هي نفسها التي تفضلت وسألت عنها، الحروب والحصار والطغيان، في تفاصيل هذا الثلاثي تحيا الهيمنة الدينية. ومِن طبيعة الهيمنة التدخل في الخصوصيات. لكن تلك الهيمنة تحولت إلى مضاحك بين العراقيين.
أيهما أشد ثقافة.. فعاليات الجنادرية.. ومعرض الكتاب أم اللقاءات الهامشية مع المستضافين فيها؟
- حضرت موسمين مِن مواسم الجنادرية، فهذا العام لم أحضره، وموسمين مِن مواسم معرض الكتاب بالرياض، العام الماضي وهذا العام، هناك اختلاف بين طبيعة الفعاليات، فهنا ندوات محصورة بمواضيع معينة، وأنا أسهمت فيها وأخذت حريتي في الجدل بأمور العنف والتعصب الديني، وظننت أن ذلك غير مسموح به، لكن تبقى للجنادرية قيودها قياساً بمعرض الكتاب.
فهنا عالم الكتب والندوات المفتوحة، والفعل الثقافي المستمر طوال المعرض، مع ما يحصل في المعرض من تضييق، يمارسه الشباب المتدين، وحصل معي شخصياً، وقد هالني الإقبال في معرض الكتاب. لكن تبقى اللقاءات الهامشية هي المهمة، لأنها طليقة تجري من دون موانع أولاً، وثانياً تسودها الحميمية، وهذه نقطة مهمة في الجدل أو الحوار.
مجتمعكم عفوي
عاصرت ألواناً من المجتمع السعودي.. هل من وصفة في فن التعامل معها ثقافياً؟
- استأنس جداً مع المثقفين السعوديين، ومع بقية الناس، مجتمع مملوء بالحيوية والعفوية، ويعترف بالآخر بكل كرم وتواضع، أما المتشددون فلا يقربونني ولا أقربهم. أثبت ذلك في كتابي «عمائم سود بقصر آل سعود»، وهو كتاب رحلات اعترفت فيه للمثقف والليبرالي السعودي بالقوة، كم يذكرنا بليبراليي ومثقفي العراق الأشداء في الخمسينات.
ما هي المكتبة الجنة التي تتمناها؟
- غرفة واسعة، أرص على رفوفها الكتب التي تشعرني أنني موجود، وفيها طاولة عليها دواة حبر أخضر، وقلم باركر 51.
لا تكتب إلا بسيد الأقلام كما سميته ذات مرة ..باركر 51...هل هذا نوع من التكلف لترضي نزعة مخبوءة لديك؟
- إنه معي منذ المدرسة الثانوية. أجده يُسهل الكتابة، ويريح اليد، وفيه أصالة، وله قصة صناعة، ويحمل من الحبر ما لا يُخجل الكاتب إذا كانت الدواة بعيدة عنه. لديَّ عدد منها أصطحبها بالمراوحة، وأخيراً حصلت على الباركر 61 وهو سيد أيضاً. يكفي أنه أحمله معي، وأقوم بإدامته.
ولديّ عدد كبير من المحابر، خشية من انقطاعها من السوق، لشيوع استعمال الكيبورد. لا أبالغ إذا قلت إن الباركر 51 ينبه على الخطأ الإملائي أو النّحوي، بينما الكيبورد يغش، ولا يكون صاحباً لأحد.
لا تكتب في النور بل في الظلام.. ونور مركز على الورقة.. بلا استفاضة أشعة..هل هذا يدفعك لمحاربة الظلام المحيط بنور عقلك المتدفق؟
- نعم، حتى في الظهيرة ومع سطوع الشمس على الطاولة لا بد من الإنارة مركزة على الورق تماماً، ويمكن مثلما تفضلت محاولة عفوية لدرء الظلام، وفي حوارات الأولين ورد الظَّلام شيئاً مثلما هو النُّور، أي ليس هو انعدام النُّور.
كتب التراث
أنت وكتب التراث ما سر العشق بينكما؟
- لا قدرة لي على الكتابة بلا شاهد تراثي، كأنه العظم لقوام المكتوب، وجدت في التراث ضالتي، وأنا متفائل بالماضي، وما وجدت ظاهرة إلا ولها في التراث حضور، والشَّواهد لا تُعد ولا تُحصى. كانت البداية مع «البيان والتبيين» للجاحظ، ومنه تدرجت إلى أبي حيان التوحيدي، مع أن الثاني يُحسب جاحظي النزعة في الكتابة، لكنه أصعب منه، هذان الكاتبان أصل في ما لدى الناس من أساليب واحترافات في فن الكتابة.
نحن أمة الوسط مبتلاة بماضيها.. فلا هي تنعمت بحاضرها ولا هي تطلعت لمستقبل يليق.. ما سر النزعة الماضوية فينا؟!
أرى الشرق بالكامل متصلاً بماضيه وبقوة، وليس مبتلى به، السبب هو ألق ذلك الماضي، فاليابان والصين والهند لم يمنعها التعلق بماضيها من النهوض والتطور كما ترى، لكننا مزجنا الماضي بهالة قدسية، فتشكل لدينا من الدين والمذهب والعشيرة مركب عائق، وسر النزعة الماضوية، بجانبها السلبي، هو الخوف على الهوية، الخوف من الافتراس فليس لدينا ما نحتمي به.
من ذا أضر بصاحبه أشدّ.. الفكر الإسلامي أم الحضارة العربية؟
- يصعب الفصل بينهما، فما كان قبل الإسلام دخل فيه، من دون الاعتراف بفضله، وخذ معنى الجاهلية عند الكثيرين على أن العرب لم تكن لهم حضارة، بينما كان هناك انفتاح ديني وفكري، بحدود ذلك الزمن. من جانب آخر الإسلام أدخل إلى العرب ما لدى الأمم والأقوام الأُخرى من حضارة.
ما الفرق بين العلم البشري والعقل البشري.. وهل تفوقت عليهما الكفاءة الإلكترونية؟
- كل عِلم هو عقل، وليس كل عقل هو عِلم. هناك عقول تعيش وتموت بلا علم ترثه أو توّرثه. أما الكفاءة الإلكترونية فهي ابنة العقل، وليست لها كفاءة بلا مُبرمجها البشري.
ما هي حدود المقدس عندك؟!
- العقل ولا أضيف!
إخوان الصفا
تعتبر أن «إخوان الصفا» نقطة مضيئة في تاريخنا.. هم قد سبقوا كل أحد بالتفرقة بين الإسلام الديني بمكة والملكي بالمدينة.. لماذا تم التعتيم عليهم؟
- «إخوان الصفا» بنى ابن خلدون مجده على رسائلهم، وهم في تفريقهم هذا يفصلون بين الدين والسياسة، وهذا أعتبره ذروة النضج. وهم طرحوا الليبرالية الفكرية منذ القرن الرابع الهجري، وحببوا الموسيقى، ومع ذلك في رسائلهم الشطحات. أما التعتيم عليهم فله ألف سبب وسبب.
«إخوان الصفا» سبقوا داروين بالعلاقة بين الإنسان والقرد.. لماذا لم يحدث هذا الربط المبكر في العصر الإسلامي أيام ابن رشد حراكاً يستحق الفلسفة؟
- كذلك سبق المعتزلة إسحق نيوتين في طرح قضية سقوط الأجسام، واستخدموا التفاحة مثالاً، وكنت كتبت بحثاً بعنوان «تفاحة المعتزلة». لم يكن ابن رشد حراً كإخوان الصفا، وربما لم يقرأ رسائلهم، على رغم وصولها إلى الأندلس بحسب رواية ابن صاعد في كتابه «طبقات الأمم».
انشغل ابن رشد بأرسطو وهو كان شارحاً له، والرجل كان فقيهاً وقاضياً، لكن له مأثرة رده على الغزالي في «تهافت التهافت». يضاف إلى ذلك كان التحاسد قائماً بين مشارقة ومغاربة.
متى تكون العلمانية الفاصلة بين الدين والدولة انتهازية؟
- دعني أقول إن العلمانية ليست تعني الإلحاد، إنما هذا اتهام الإسلام السياسي لها، لأنهم يريدون أن يحكمونا باسم الله. الفصل بين الدين والدولة لا انتهازية فيه، إنما هو صون الدين واحترامه، وحماية الدولة من الاستبداد الديني، وهو بحسب الكواكبي أشد من الاستبداد السياسي.
تكون العلمانية انتهازية عندما تُعلن في ظلها حملات إيمانية، مثل محاولة الإسلام السياسي تبني شعارات علمانية من أجل انتهاز الفرصة. أجد أبيات معروف الرصافي التالية في الصميم، ويقصد توظيف أُحبولة الدين لشأن حزبي:
أُحبولة الدِّين ركت من تقادمها
فاعتاض عنها الورى أُحبولة الوطن
ترى أن الشيعة الزيدية والسنة الشافعية في اليمن هما أجل صور الطائفة الجميلة في عالمنا العربي بعد أن عملت معهم 11 عاماً.. فلا نزاع ولا شقاق مثل حالهم في العراق مثلاً.. ماا لفرق بين الشيعة في العراق وغيرهم كاليمن أو إيران على سبيل المثال؟
- الزيدية والشوافع يصلون في مسجد واحد، ولا فرق إلا في الأذان، فالزيدية تؤذن ب «حيّ على خير العمل»، الشوافع أهل حديث، والزيدية أهل رأي، فهم معتزلة بغداد، اعتبرهم الوسط بين الشيعة الإمامية والمذاهب السُّنية، فهم يؤمنون بالوصية لكن منهم من يقول إنها وصية العلم لا السياسة، ويؤمنون بالإمام الفاطمي، الذي يظهر في جيله، والفقه لديهم قريب إلى الحنفي. أما الفرق بين شيعة إيران والعراق فلا فرق سوى ما تركته الفترة الصفوية لدى الإيرانيين، وتشددها ضد أهل السُّنة، أما من ناحية أخرى فبعد الثورة الإسلامية صارت مرجعية إيران تسير على طريق ولاية الفقيه، بينما مرجعية العراق – النجف لا تؤمن بذلك.
ترى أن الشيعة السبئية هي فئة خيالية لا وجود لها.. وتجاهلت الإسماعيلية في حين احتفيت بالشيعة العلوية رغم قلتهم.. فهم فئة لا تتجاوز الألف وهي ليست من شيعة العراق.. فلم هذه الانتقائية؟
- تقصد في كتابي الأديان والمذاهب بالعراق، نعم السبئية لا وجود لها، وعبدالله بن سبأ شخصية خيالية، وهذه قصة طويلة، وأعتقد أن باحثاً سعودياً سنياً كتب في «الحياة» يؤكد خرافة هذه الشخصية. أنا لم أهمل الإسماعيلية إنما لا وجود لهم بالعراق، أما العلويون فلأنهم ظهروا بالعراق، وكتابي خاص بالأديان والمذاهب العراقية، ولا عبرة لي بالعدد، إنما عليَّ بالوجود.
تحدثت عن المذهبين الشافعي والحنفي لشهرتهما في سنة العراق.. وذكرت أن المذهب الحنبلي عراقي المنشأ.. فلماذا برأيك أتباعه أكثر خارج العراق بل لا يكاد أحد يتبعه في أرض الرافدين؟
- هناك أمران الأول يتعلق بطبيعة المذهب الحنبلي، وتبنيه من قبل جماعات متشددة، أضرت كثيراً ببغداد العباسية، فصارت حروب بينهم وبين الشافعية، والشيعة، والأشاعرة، فاتخذ الخلفاء العباسيون موقفاً منهم، وهم جماعة البربهاري المعروفة، ثم ظهور فتاوى من داخل هذا المذهب يصعب القبول بها في بيئة بغداد. الأمر الآخر يتعلق بالمغول وإعدام عدد من علماء الحنابلة، مثل آل الجوزي عند سقوط الخلافة العباسية السنة 656 ه، فلم يبق لهذا المذهب أتباع، ولم يتبنَّه حاكم ببغداد.
نص التكفير كيف ترى قوته أمام نص التفكير؟
- أراه ضعيفاً ومحصوراً في الفشل وانعدام القدرة على الجدل، أما التفكير وهو ليس نصاً إنما هو فكر قادر على الديمومة.
العلمانية والمعتزلة
لماذا ترتبط العلمانية بالوصف الإلحادي وتحارب بختم الأجندة الخارجية؟
- هناك علماء دين علمانيون، لأنهم يفصلون بين الدولة والدين، وهي ليست أجندة خارجية، وهذا اتهام الإسلام السياسي لها، كسلاح في معركته السياسية من أجل السلطة، العلمانية كاسم وفعل موجود في منطقتنا، ومفردة «عَلما» سريانية آرامية وتعني الناس أو الدنيا، واصطلاحاً العلمانية هي إدارة شؤون الدنيا، والحديث النبوي مشهور: «إِن كَانَ شَيئًا مِن أَمرِ دُنيَاكُم فَشَأنُكُم بِهِ»، على ما أظن ورد في السنن. أليس هذا حق للإنسان بإدارة أمور دنياه، فهذه هي العلمانية لا أكثر. وقد توسعت في ذلك في كتيب «رسالة العلمانية».
كيف يمكن تحول النص المقدس إلى فتوى قاتلة؟
- عندما يجري رفعه لافتة حزبية أو سياسية.
هل هناك بقية باقية للفكر الاعتزالي في الفكر العربي المعاصر أيامنا هذه؟
- وجود المعتزلة داخل عدد من المذاهب، مثلاً زيدية اليمن يعتبرون معتزلة، وإباضية عُمان يتخذون أصولاً معتزلية، لكنَّ هذين المذهبين تحولا إلى الفقه، بينما المعتزلة كانوا مذهباً فكرياً ومدرسة تنويرية، وكل النفحات العقلية التي نجدها اليوم عند عدد من المذاهب والشخصيات هي متصلة بهم.
ما السر وراء تمجيد ابن عربي.. والغزالي على خطاه ولم يحظ بمثل الحفاوة التي رافقت الأول؟
- لامس ابن عربي العواطف، ومال إلى الحريات في الاعتقاد الديني، وتراه أَول النصوص لصالح الانفتاح، إلى جانب صوفيته الفكرية الطاغية، فكثر المهتمون به. أما الغزالي فكان عنيفاً وصوفيته غير واضحة، وقدم نفسه عدواً للفلسفة والعلم الدنيوي، قيل مات بمرض الاكتئاب، وكان يسمَّى بالغنط.
ما هو الفرق بين الإسلام الفقهي وذاك السياسي؟
- هناك فرق كبير، الأول للعبادة والعابد مخلص بمعتقده لله، والثاني للسياسة وتوظيف الدين من أجلها.
هل نقضت الغربة غَزْلها فيك؟
- نعم، نقضتني ونقضتها، وصارت مزمنة لا بد من التعايش معها، وكثيراً ما تمنحني الحرية.
ما الفرق بين المؤرخ والباحث في التراث؟
- التراثي مَن يوظف الحدث التراثي، والمؤرخ مَن يسجله.
كيف أفلتت ثورة ليبيا من الإخوان المسلمين في حين وقعت مصر في هذا الفخ؟
- مصر هي الصانعة للإخوان، ففيها الفرع الأم، أما ليبيا فإخوانها كانوا شبه أولاد خُدج. أنا لا أراه فخاً إنما عن طريقه سيكون الخلاص منهم.
زواجك من مسيحية كلدانية عراقية بدأ بإغلاق أبيك الباب عليك.. إلى أين وصل بك هذا الزواج؟
- زوجتي مسيحية كلدانية عراقية، وهم الأصل ببلادنا، وأبي لم يغلق الباب بوجهي كان رجلاً فوق الطائفية. مات أيام 1995 وهو يلهف لرؤيتي. زواجي ما زال أكثر من رائع، وها نحن نطوي 33 عاماً، فبدأ بقصة حب وسط الملاحقة بالموت، ولم يكن معي إلا هي، من التختل عن الأمن في أزقة بغداد، إلى أوهاد اليمن، معي في الضراء والسراء، وجودها علمني كيف أروض قلبي للآخر، وأقتل في داخلي جرثومة التعصب، ما زالت هي دواء الغربة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.