تحفل الحياة المعاصرة، لا سيّما في المدن الكبرى، بالكثير من الصخب والضغوط، ذلك أنّ السعي المحموم في سبيل تنفيذ الأعمال والبرامج والمشاريع المخطّطة يستوجب تفرّغاً إجباريّاً لها. في غمرة هذا الصخب والضغط والانشغال، يجد المرء نفسه يبتعد رويداً رويداً عن ذاته وعمّن حوله، ليتمحور الاهتمام حول ما يجب تنفيذه، وما ينتظر التحضير له، فيفقد من حيث يدري ولا يدري تواصله مع أقرب مقرّبيه، ليقع لاحقاً فريسة للوحشة والعزلة والغربة، لا تسعفه شبكة العلاقات التي ينسجها من حوله في تخليصه من حالته، لأنّ تلك الشبكة تكون محدّدة التأثير، ومحدودة النطاق، ومحكومة بمعايير استهلاكيّة، ولا يكتشف المرء حجم خسارته وفداحة مصابه إلاّ حين يقع له حادث يكون بمثابة تنبيه وإنذار له، ليعيده إلى حالته الإنسانيّة المنكفئة جرّاء تهميشها وإهمالها وتناسيها. عن التفتّت الاجتماعيّ والتفكّك الحاصل في المجتمعات الاستهلاكيّة، عن اغتراب المرء واستلابه، عن الفتور الذي يصِم العلاقات الحميمة، تقدّم الروائيّة الكوريّة الجنوبيّة كيونغ سوك شين روايتها «أرجوك اعتنِ بأمّي» (ترجمة أفنان محمّد سعدالدين، الدار العربيّة للعلوم ناشرون، بيروت، 2011). الرواية عن فقدان أمّ في محطّة سول لقطار الأنفاق، بعد أن سبقها زوجها مخلّفاً إيّاها خارج القطار. في ذاك اليوم، ذكرى ميلاد الزوجين، انقلبت حياة أفراد العائلة رأساً على عقب، وبدأت مسيرة البحث عن الأمّ المفقودة التي ضحّت بنفسها جسداً وروحاً لإسعاد الآخرين. الأمّ التي كانت شبه مغيّبة في حياتهم، ولا تكاد تحتلّ أدنى اهتمام من قبلهم، تبدأ بتصدّر واجهة اهتماماتهم وأولويّاتهم، إذ كانوا يعتبرونها من المسلّمات الموجودة في حياتهم، والتي لا تحتاج منهم إلى أيّ شيء، تلبّي لهم متطلّباتهم، تفتديهم، تضحّي من أجلهم، توقف لهم حياتها، من دون أن تطالبهم بشيء، بل على العكس، تحرص على عدم إشغالهم بأحوالها، تتكتّم على أوجاعها وأحزانها، تؤثر التألّم بصمت حرصاً على وقت أولادها وسلامتهم. الأمّ التي تتخلّف عن زوجها في المحطّة، تتوه في الزحام، تغدو الشغل الشاغل لأبنائها، بعد أن كانت منسيّة من جانبهم، يحاول أبناؤها البحث عنها بشتّى السبل. ينشرون إعلاناً في الصحف، يقومون بلصق الإعلانات في مختلف الأماكن، يبحثون في المشافي وعلى قوارع الطرقات. يتخبّطون في بحثهم عنها. تقسّم كيونغ سوك شين روايتها إلى أربعة أقسام: «لا أحد يدري، إنّني آسفة يا هايونغ تشول، ها قد عدت إلى البيت، مسبحة من خشب الورد»، تروي كيونغ روايتها على ألسنة رواة، تعتمد صيغة المخاطب، معتمدة ياء الفاعل حين توجيه الحديث من جانب الراوي إلى نفسه، والقارئ، تكون الراوية الرئيسة تشاي هون، وهي الابنة الثانية بين خمسة أبناء للمفقودة «بارك سو نيو»، تحتكر معظم مساحة السرد، تعمل في الكتابة، تؤلّف الروايات، تحضر الكثير من المؤتمرات، تظلّ دائمة التنقّل والانشغال، تسرد تشاي هون بطريقة مناجَاة، توجّه خطابها لنفسها بصيغة المتكلّم المخاطب في الوقت نفسه، تسترجع الكثير من التفاصيل الصغيرة التي كانت تزيّن علاقتها مع والدتها. تتذكّر كيف أنّها كانت تقرأ رسائل إخوتها إلى أمّها، وتكتب رسائلها إليهم، تؤنّب نفسها على إهمالها المريع لأمّها، واقتصارها في زياراتها على أوقات محدودة، إذ لم تكن تراعي مشاعرها الأموميّة، ولا يخطر لها التفكير في شوقها المتنامي إليها. الراوي الآخر يكون الابن الأكبر هايونغ تشول الذي حظي باهتمام مبالغ من أمّه، إذ كانت تأمل أن يكون نائباً عامّاً، لكنّه لم يفلح في تحقيق حلمها، وتوجّه إلى إدارة مشاريع خاصّة، وعلى رغم نجاحه في حياته، إلاّ أنّه يظلّ متألّماً لأنّه لم يحقّق لوالدته حلمها الذي كان حلمه في فترة معيّنة من حياته. ثمّ يكون الراوي الثالث زوج المفقودة، يسرد تفاصيل علاقته الزوجيّة، يبالغ في التأثّر وهو يستذكر تضحيات زوجته في سبيل عائلته، بينما هو كان مشغولاً بنفسه وملذّاته. كما تحضر الابنة الأخرى التي تعمل صيدلانيّة، ولها ثلاثة أبناء، تكتب رسالة لأختها تشاي هون، تعبّر لها عن مكنوناتها تجاه أمّها، وعمّا لم تجد وقتاً لتبوح به لأمّها، تصف عظمة الأمومة، وأنّها لا تستطيع أن تبلغ تضحيات أمّها مهما فعلت في سبيل أبنائها. يسترجع الجميع الساعة التي فقدوا فيها أمّهم، كانت تشاي هون تنتقل في الصين من معلم إلى آخر، تستمع مع رفاقها، تمضي معهم أوقاتاً سعيدة، بينما كان هايونغ تشول يأخذ حمّاماً ساخناً، ليلوم زوجته في ما بعد أنّها تسبّبت بعدم ذهابه إلى المحطّة لاستقبال والديه اللذين كان يفترض بهما أن يقصدا منزل أخيه. أمّا الزوج فيلوم نفسه على سرعته الدائمة وتسرّعه مع زوجته التي كانت تلومه دائماً على سرعته أثناء المشي معها، حيث كانت تخجل نتيجة تأخّرها عنه، وكانت المفارقة بين السرعة والبطء، ليشكّلا العامل الحاسم في فقدانها الأليم. بعد أن اختفت الأمّ أصبحت حاضرة في حياتهم، وكأنّهم يستطيعون مدّ أيديهم إليها ولمسها. باتوا يتعرّفون إليها من جديد، يستذكرون خصالها وتصرّفاتها وتضحياتها، تعيد إليهم التوازن بغيابها كما كانت تفعل بحضورها، تفيدهم بكلّ أطوارها، يتحوّل فقدانها إلى نقطة تلاقٍ وتباحث دائمة، ترغمهم بغيابها على الالتفات إلى أنفسهم وإليها. يكون الفقدُ مرآة، يكشف لهم عريهم وعظمة أمّهم، يكتشفون أنّها كانت تتبرّع بمعظم المبلغ الذي كانوا يرسلونه إليها لدار الأيتام، وكانت تتكفّل بتعليم يتيم سمّته كيون على اسم أخي زوجها، الذي اتّهمت بالتسبّب بموته، وبأنّها السبب في عدم إكماله دراسته. الرجاء في العنوان موجّه إلى الله، عسى أن يعتني بالأمّ الغائبة الفقيدة، تتوسّل إلى الله بعد أن تفقد الأمل إثر المحاولات المتكرّرة الفاشلة. حيث تكون تشاي هون في زيارة إلى روما، تبحث في الفاتيكان عن هديّة لأمّها، تعيش مرارة الفقد المتعاظم في روحها. تخجل من الترفيه عن نفسها في ظلّ غياب أمّها، كما أنّها تبالغ في ردّ فعلها حين تكتشف أنّ أخاها يمارس حياته الطبيعيّة ويلعب الغولف، كأنّ أمّهم ليست مفقودة، أو كأنّهم عادوا إلى تناسيها وإهمالها مرّة أخرى. تقدّم الكاتبة وهي من أشهر الروائيّين الكوريّين، لقطاتٍ ومشاهدَ من تاريخ كوريا الجنوبيّة، تروي جوانب من الحرب التي دارت بين الكوريتين، والتي تسبّبت بكوارث فظيعة، كما تصوّر مشاهد من الطقوس والشعائر، التي لا يزال الكثير من السكّان الأصليّين يعتقدون بها ويمارسونها، ويحرصون غاية الحرص على تأديتها حفاظاً منهم على مكتسباتهم وسلالاتهم. وذلك كلّه بالموازاة مع تصويرها للتبدّل الذي يجتاح النفوس في المجتمعات الاستهلاكيّة، حيث يطاول التغيّر البنية النفسيّة والاجتماعيّة للإنسان، فيخلخل ميزان القيم، لتتراجع القيم الإنسانيّة، وتتقدّم الأنانيّة وتكاد تسود. تؤكّد عبر سردها أنّه لا يوقف تصاعد ذلك التغيّر السلبيّ سوى حدث جسيم يعيد التوازن، وينبّه المرء إلى ضرورة التكاتف الأسريّ، وإيلاء الاهتمام الواجب للأسرة. وعلى رغم ما قد يتبدّى من جانب وعظيّ، إلاّ أنّ سوك شين، تمكّنت من تغليف النبرة الوعظيّة بنبرة التأنيب وجلد الذات، ما أوحى بأنّها تقدّم فصولاً من التقريع الذاتيّ ردّاً على الاستهانة بالقيم الاجتماعيّة، التي من شأنها المحافظة على السلامة الفرديّة والجماعيّة.