استشهاد 27 فلسطينيًا في قصف الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة    القيادة تهنئ رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية بذكرى استقلال بلاده    السمنة مرض مزمن لا ضعف إرادة    لمسة وفاء.. سلطان بن أحمد السديري    "وزارة الصناعة" تعلن عن ضوابط واشتراطات ممارسة الأنشطة الصناعية    الاحمدي يكتب.. جمَّلتها ياهلال    هيئة الموسيقى السعودية وعازف البيانو الصيني وأول برنامج صيفي لتعليم البيانو في المملكة    البيعة الثامنة لولي العهد بلغة الثقافة والفنون    سعد الصقير أول طبيب أمراض جلدية من دول الخليج يحصل على وسام القيادة الدولية في الأمراض الجلدية لعام 2025    كندا تلغي ضريبة الخدمات الرقمية    تراجع أسعار النفط    الملكية الفكرية ليست مائدة نقاش ديني.. بل مبدأ لا يُمس!    نتائج قوية تتجاوز مستهدف رؤية 2030.. 2.8 % معدل البطالة في المملكة خلال الربع الأول    مطار الملك عبدالعزيز الدولي يوفر وسائل نقل رسمية متنوعة    بحثا جهود الحفاظ على أمن واستقرار المنطقة.. وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان الإيرانية يستعرضان العلاقات    تلقى رسالة خطية من سيرجي لافروف.. وزير الخارجية ونظيره الجيبوتي يبحثان تنسيق العمل المشترك    مدرب تشيلسي ينتقد الفيفا ومونديال الأندية    ترسيخ الحوكمة وتعزيز التكامل بين الجهات ذات العلاقة.. السعودية تقفز إلى المرتبة 13 عالمياً في حقوق الملكية الفكرية    التعليم في ميزان المجتمع    توقيف شخصين ظهرا في محتوى مرئي بسلاحين ناريين    نقل 1404 مرضى داخل المملكة وخارجها عبر 507 رحلات إخلاء    نائب أمير مكة والقنصل العراقي يناقشان الموضوعات المشتركة    وزارة الخارجية تُعرب عن تعازي المملكة لجمهورية السودان إثر حادث انهيار منجم للذهب    انطلق في مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية.. "جيل الابتكار".. يعزز ثقافة البحث لدى الموهوبين السعوديين    ما عاد في العمر متسع للعتاب    مادتا التعبير والخط    أكد أهمية مناهج التعليم الديني.. العيسى يشدد: تحصين الشباب المسلم من الأفكار الدخيلة على "الاعتدال"    رئيس "الشورى" يبحث تعزيز العلاقات البرلمانية في كمبوديا    تصعيد متبادل بين العقوبات والمواقف السياسية.. روسيا تشن أعنف هجوم جوي على أوكرانيا    دواء جديد يعطي أملاً لمرضى السكري من النوع الأول    "الصحة العالمية" تفشل في تحديد سبب جائحة كوفيد- 19    أخضر السيدات يخسر أمام الفلبين بثلاثية في تصفيات كأس آسيا    استعراض أعمال الشؤون الإسلامية أمام أمير تبوك    بعنوان "النمر يبقى نمر".. الاتحاد يجدد عقد مدافعه "شراحيلي" حتى 2028    فاطمة العنزي ممثلة الحدود الشمالية في لجنة المسؤولية الاجتماعية بالاتحاد السعودي للدراجات    سعود بن بندر يستقبل مديري "صحة الشرقية" و"وقاية"    الواجهة البحرية بالوجه.. متنفس رياضي وترفيهي    أمير الشرقية يكرم الداعمين والمشاركين في «ربيع النعيرية»    أمير جازان يكرّم الفائزين بجائزتي المواطنة المسؤولة و"صيتاثون"    انطلاق أعمال «المؤتمر الدولي للصيدلة السريرية» بحائل    أمين القصيم يفتتح ورشة «تعزيز التخطيط العمراني»    «الشؤون النسائية بالمسجد النبوي» تُطلق فرصًا تطوعية    "الملك سلمان للإغاثة".. جهود إنسانية متواصلة    المملكة تواصل ضرباتها الاستباقية ضد المخدرات    الأحوال المدنية المتنقلة تقدم خدماتها في خمسة مواقع    خمس شراكات لدعم مستفيدي «إنجاب الشرقية»    وزارة الرياضة وهيئة الطيران المدني توقّعان مذكرة تفاهم للتنسيق والإشراف على الرياضات الجوية    أمير تبوك يطلع على التقرير السنوي لاعمال فرع وزارة الشؤون الاسلامية بالمنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل القنصلَ العام لجمهورية العراق    بيئة نجران تعقد ورشة عمل عن الفرص الاستثمارية بمنتدى نجران للاستثمار 2025    جمعية "وقاية" تنظّم معرضاً توعوياً وندوة علمية بمستشفى وادي الدواسر    قطاع ومستشفى النماص يُنفّذ فعالية "اليوم العالمي للأنيميا المنجلية"    الشؤون الإسلامية في جازان تنفذ جولات ميدانية لصيانة جوامع ومساجد المنطقة    انطلاقة عام 1447    الترويج للطلاق.. جريمة أمنية    وكالة الشؤون النسائية بالمسجد النبوي تُطلق فرصًا تطوعية لتعزيز تجربة الزائرات    ترامب يحث الكونغرس على "قتل" إذاعة (صوت أمريكا)    أقوى كاميرا تكتشف الكون    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جوانب من سيرة المجتمع المفخخ
نشر في الحياة يوم 30 - 10 - 2011

منذ أيامه الباكرة حكم نظام الأسد سورية ب «المسيرات الشعبية العفوية»، وبالمهرجانات الخطابية والهتافات، وبالصور واللافتات، وبالتماثيل، بقدر ما حكمها بالمخابرات والتعذيب والسجون.
تندرج المسيرات وأخواتها في جهاز رمزي ضخم، عابر لأجهزة الدولة جميعاً، أو هو أحد وجوه عملها، بما فيها المدارس والجامعات والإدارات الحكومية والجيش. وليس الجهاز الإعلامي غير أحد العناصر الظاهرة في هذا الجهاز أو المركب الجهازي الرمزي. التلفزيون والإذاعة والصحف السورية متمركزة بصورة كلية حول «النظام»، أي الرئيس والمخابرات. الحكومة تنتقد، والإدارات كلها، لكن ليس «النظام». وكان من الشائع حتى وقت قريب أن يقال لصحافيين شباب يعملون في مواقع انترنت مقربة من النظام إنه يمكنهم أن ينتقدوا الجميع بحرية، من العطري (رئيس الوزراء السابق) فما دون.
والوظيفة العامة لهذا المركب الجهازي الرمزي هي الحب، أو استعراض حب الشعب للرئيس. وبلغة اقل عاطفية هي صنع الإجماع، أو مظهره على الأقل. قد لا يطمح النظام جدياً إلى الفوز بقلوب السوريين، لكنه لا يتسامح بأي تعبير علني عما في القلوب. عليهم أن يتصرفوا كما لو أنهم يحبونه على نحو ما حللت الأمر ليزا ودين في كتابها «السيطرة الغامضة». أما وظيفة المخابرات فهي منع الانشقاق أو حراسة مظهر الإجماع الذي لا يكف عن بثه المركب الجهازي الرمزي الجسيم. وهي المتعهد العام للخوف في المجتمع السوري، أو ببساطة القاتل الشرعي. صدقية القمع تقتضي قتل بعض المنشقين، وتعذيب أكثرهم، وتخويف الجميع.
والمخابرات أيضاً اسم عام لمركب جهازي لا يقتصر على أجهزة الأمن المعروفة وغير المعروفة. فهناك بعد أمني أيضاً لحزب البعث و «المنظمات الشعبية» والنقابات والمدارس والجامعات والجيش، فضلاً عن المخبرين و «كتبة التقارير» المبثوثين في كل مكان. إذا هتف تلاميذ الصف الثامن في إحدى المدارس الشعب يريد إسقاط النظام فإن مدير المدرسة هو من يسارع إلى حبسهم في الصف، والاتصال بالمخابرات لتولي أمرهم. وإذا أدخلنا في حساب عديد المخابرات كل من لهم وظيفة أمنية في الحزب والدولة والمجتمع، فربما نخرج برقم مليوني.
ويشكل هذا المركب الجهازي شبكة عصبية هائلة، لا تترك موضعاً في سورية خارج رقابتها وتدخلاتها. ومثله أيضاً المركب الجهازي الرمزي. فليس هناك مكان يتجه إليه المرء في سورية لا تصادفه فيه صور الرئيس الحالي وتماثيل أبيه، وإيحاء الرقابة والحصار المرتبط بهما. وما يميز المقرات الأمنية هو وفرة صور الرئيس وتماثيله في مكاتبها الفخمة من جهة، ووفرة المعتقلين والتعذيب في أقبيتها المرعبة من جهة ثانية.
وبمحصلة هذا الاختراق الجهازي المزدوج آل المجتمع السوري إلى وضع المجتمع المفخخ، الذي قد يحطم نفسه إذا عمل على تغيير وضعه، لكنه يموت ببطء إذا لم يغير وضعه.
وفي هذه البنية المحكمة يتمثل الفارق الأهم بين النظام السوري والنظم العربية الأخرى. فإذا أضفنا أيضاً التكوين الاجتماعي الثقافي للمجتمع السوري، وتلاعب النظام المزمن بالفوارق الدينية والمذهبية بين السكان، ظهر لنا أن النظام السوري يكاد يكون نسيج وحده بين النظم العربية. وهو ما يبدو أن المسار المتمادي والدامي للثورة السورية يؤكده على نحو مشؤوم.
منذ بداية الثورة اعتمد النظام على هذين المركبين الجهازيين. تجندت وسائل الإعلام السوري لبث روايات تجمع بين التقليل من شأن الاحتجاجات الشعبية ومن نسبة المشاركين فيها، والقول إن الأوضاع طبيعية في البلد، وفي الوقت نفسه الكلام على عصابات مسلحة ومجموعات إرهابية. الغرض هو صون مظهر الإجماع من جهة، وتسويغ القمع الواسع النطاق من جهة ثانية. وبموازاة ذلك حرص النظام على تحريك مسيراته «العفوية» بغرض تأكيد الإجماع ذاته. العفوية صناعة عريقة في سورية الأسد. ويعرف السوريون جميعاً أن طلاب المدارس والجامعات وموظفو الإدارات، وكثير من العاملين في مؤسسات خاصة، لا يستطيعون ألا يشاركوا في المسيرات «تحت طائلة المسؤولية». وقد أتيحت في الشهور الأخيرة غير وثيقة نشرت على صفحات «فايسبوك»، تتضمن تعليمات موجهة إلى دوائر حكومية بوجوب مشاركة موظفيها في مسيرات الولاء للرئيس. هذا لا يلغي أن للنظام نواة من الموالين، لكن هذه بالذات فاقدة للمبادرة الذاتية وللتماسك الذاتي، ولا تفعل شيئاً من تلقاء نفسها.
ولم يعن تسيير النظام للموالين له في شهور الثورة توقفاً عن قتل المعارضين الذي يتولاه المركب القمعي، أو استعداداً لخوض مباراة عادلة في التظاهر بين الموالين للنظام ومعارضيه. بالعكس، كانت «المسيرات الشعبية العفوية» بمثابة إضفاء شرعية شعبية على القتل، وقد سارت معه يداً بيد منذ بداية الثورة. تخرج المسيرات إلى الساحات الكبرى للمدن، حاملة صور الرئيس، والموالون يرقصون ويغنون، بينما يجري استهداف المحتجين في الشوارع الجانبية للأحياء والضواحي. وعليه، ليس من التجاوز القول إن المسيرات «العفوية» هذه استمرار للقتل المتعمد بوسائل أخرى. الفاعل السياسي وراءهما واحد، هو النظام. والغرض منهما واحد، تثبيت احتكاره القتل و «التسيير» العام.
وفي وحدة الحال بين مسيرات الموالين وقتل المعارضين ما يفسر أن «العصابات المسلحة» و «الجماعات الإرهابية» التي يفترض أن النظام يواجهها لا تستهدف أبداً التجمعات الموالية له، بل تهاجم بصورة مفارقة مظاهرات الثائرين ضده حصراً. المفارقة تتبخر حين نرى أن المسيرات والقتل وجهان لسياسة واحدة، ووراءهما فاعل واحد.
وعلى كل حال تظهر الثورة السورية وعياً قوياً بوحدة هذين المركبين الجهازيين. استهدف المتظاهرون صور النظام. وتماثيله وأيقوناته، ويدخر جمهور الثورة (وأكثرية كبيرة من السوريين) أعنف مشاعرهم ضد أجهزة المخابرات. لأسباب ظاهرة، لم يتعرض أي مقر أمني لهجوم المتظاهرين، لكن من المحتم أن تكون الهدف الأول للجماهير حين تلوح علائم انهيار النظام.
وستقاس فاعلية الثورة على كل حال بالتخلص الكامل من مركبي النظام الرمزي والقمعي. هذا ما يقتضيه تحرر سورية من شرط المجتمع المفخخ، المعرض للانفجار إذا تحرك، وللموت البطيء إذا ظل ساكناً. الثورة العامة هي المخرج من هذا الشرط المميت.
وستكون علامة رشد طيبة للثورة السورية والشعب السوري لو يستحدث متحف للتاريخ السياسي السوري المعاصر، يضم جناحاً للتماثيل والصور واللافتات والشعارات، وأغاني الحب للقائد، والأشرطة المصورة لمسيرات الولاء... التاريخ السياسي لسورية، وفي الزمن الأسدي بخاصة، لا يفهم دون النظر في هذا الجانب. ولعل «قصر الشعب» المنعزل عن مدينة دمشق، والمتعالي عليها بالمعنى الحرفي للتعبير، صالح لأن يكون متحفاً. من شأن ذلك أن يكون فرصة لأن يطلع السوريون على ما وراء أسوار ذلك المكان المنعزل المهيب. الشعب يريد أن يرى ما في قصر... الشعب!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.