هل كانت محض صدفة أن تستثنى بنايات القصر الجمهوري ببغداد من دون سائر البنايات من قصف الغارات الأميركية وما تبعها من تدمير وحرق وسلب ونهب لا لشيء إلا لغاية في نفس يعقوب؟ وهل كان صدام حسين من دون أن يدري يهيئ ويعد القصر الجمهوري ليكون مقراً آمناً لأكبر سفارة أميركية في الشرق الأوسط؟ بعد طول شد وجذب، وتأكيد ونفي. اعلن ناطق بلسان الادارة الأميركية ان بناية القصر الجمهوري السابق والواقعة في منطقة كرادة مريم، هي أنسب وأصلح الأماكن التي يمكن أن يقع عليها الاختيار لتكون مقراً لسفارة الولاياتالمتحدة الأميركية ببغداد، لأسباب عدة تضمنتها التقارير التي تداولتها اخيرا معظم وسائل الإعلام الغربية بشيء من التفاصيل "المتاحة". المنطقة المعنية والواقعة في جانب الكرخ من بغداد يطوقها نهر دجلة كسوارٍ من ذهب وفضة من جانبيها الشرقي والجنوبي. وأول الأسباب المعلنة هو موقعها الاستراتيجي، من جهة فهي في وسط بغداد وبعيدة عنها في الوقت ذاته ولسعة مساحتها من جهة أخرى، لتستوعب كثافة الوجود الديبلوماسي الأميركي الذي أعلن انه سيتجاوز الستة آلاف موظف، ديبلوماسيين وموظفين وعمالاً. وللترتيبات الاحتياطية الأمنية التي تتمتع بها الأجهزة الالكترونية التي تضمها وتحتويها، كذلك لاعتبارات نفسية وسايكولوجية تتعلق بطبيعتي الشعب الأميركي والعراقي: الاميركي لإشعاره بالقوة والسطوة، والعراقي لإشعاره بالهيمنة ووضع اليد. واللافت للنظر وهذه نقطة جديرة بالعناية والدراسة ان بناية القصرتكاد تكون البناية الوحيدة على طول بغداد وعرضها، التي لم تقترب منها الآلة العسكرية الحربية لقوات الاحتلال فلم تسقط عليها أية قذيفة ولم يضربها صاروخ، علي رغم مئات الآلاف من أطنان الراجمات التي دكّت شواهق بغداد. وهي البناية الوحيدة التي لم تنل منها النيران التي أحرقت عمداً وسهواً! أهم الوثائق والمستندات والكتب والمخطوطات وسجلات نزلاء مديرية الأمن العام. كما ان هذا الموقع هو القصر الرئاسي الوحيد الذي لم يلحقه سلب ولا نهب ولا تدمير ولا سرقة. الأمر الذي لم تنج منه أية بناية قائمة بما في ذلك المتحف الوطني والمكتبة الوطنية ومعظم قصور صدام التي يقال ان عددها بلغ 110 قصور، والتي خربت ونهبت موجوداتها وهدمت ودمرت بناياتها وقلعت أبوابها وأنزلت ثرياتها وانتزعت بلاطات حماماتها وصنابيرها الذهب. فهل كانت كل تلك المعطيات والمؤشرات مجرد صدفة أم انها خطة موضوعة سلفاً، ان تصان بنايات القصر الجمهوري مهما كلف الأمر. ولتكون بمنجى عن كل أنواع الدمار الذي لم يستثن أحداً لتغدو مقراً جاهزاً جغرافياً "مكانياً" وسياسياً واعتبارياً لسفارة أعتى دولة في العالم لأكثر المناطق سخونة في العالم؟ وهل كان صدام من دون ان يدري أو يحتسب، يهيئ للقادمين الجدد الأسباب المواتية ويعبد لهم طريقم من دون عثرات أو مطبات لتسلم منطقة القصر بكل عجائبه وغرائبه وتقنياته كمقر نموذجي جاهز ومؤهل للعمل والسكنى؟ القصر مؤهل من جوانب عدة: فالمساحة المكانية حوالى 400 دونم، يمكنها استيعاب أكبر عدد ممكن من ديبلوماسيي السفارة ورجالاتها وحراسها والقائمين على ادارتها. والذين قد يبلغ عددهم ستة آلاف منتسب حسب آخر التسريبات. والأبنية داخل حدود الأربعمئة دونم تتوزع توزيعاً هندسياً بالغ الرفعة والذوق، يتيح لسكانها العيش برغد وأداء الأعمال بأعلى كفاءة. تضم المساحةهذه الى جانب القصر الرئيسي ومقر الرئيس، حدائق غناء بأشجار وزهور وعرائش بعضها نادر. وأحواض سباحة مكشوفة ومسقفة صيفية وشتوية، بمياه باردة ودافئة، بكل مواصفات المسابح العالمية في الدول المتقدمة وباشراف مختصين. كما تضم أبنية القصر حديقة حيوانات صغيرة تحوي نوادر الطيور والقردة، والنمور التي كان بعضها يرافق عدي أثناء تجواله في العاصمة، قبل نقلها اخيراً الى حديقة حيوانات بغداد، ويقال ان هناك حظيرة لتربية الأغنام يشرف عليها أطباء بيطريون متخصصون، إذ كثيراً ما كان يحلو لصدام أن يمارس هواية الرعي أثناء نزهاته الراجلة. ويبدو سعيداً إذ يهش على قطيع الغنم المعفّر صوفها والمطيب بالمسك والزعفران بعصا مصنوعة من خشب الابنوس المطعم بالصدف. ويقول أحد سكان المناطق القريبة من القصر انه طوال سنوات عدة انه لم يلمح حشرة أو ذبابة أو بعوضة، على رغم كثافة الأشجار والبرك والمساحات المائية، وذلك بسبب حملات التعفير وتنقية الأجواء التي تتولى القيام بها طائرات خاصة ترش المبيدات والمطيبات على المنطقة مما يمنع توالد أو تكاثر الحشرات أو الهوام. في رحبة القصر الجمهوري ملعب فسيح للتنس، ودار سينما وقاعة بلياردو، كما تضم احدى البنايات مدرجاً لمطار صغير تجثم على أرضيته طائرة عسكرية صغيرة جاهزة للاقلاع على الفور الى جانب طائرتي هليكوبتر جاهزتين للتحرك ساعة الطلب. داخل الرحبة التي تضم أكثر من مستقر واحد للرئيس السابق هناك اجهزة انذار مبكر مبثوثة ومنصوبة قرب الأبواب الرئيسة ومنعطفات الطرقات وفوق السطوح. أما بعض الأبواب فمصممة بطريقة تقنية بالغة التعقيد لا تفتح الا بمفاتيح وكارتات الكترونية أو كلمة سر، ولا تغلق إلا بها. وهي محكمة البناء بحيث لا يمكن اختراقها حتى لو بدبابة أو مجنزرة. الى جانب كاميرات المراقبة المبثوثة في أماكن ظاهر بعضها وخفي بعضها وتصور كل حركة وسكنة تجري داخل أسيجة القصر. في الباحة ثمة ممرات تحت الأرض تنفذ الى خنادق طويلة أو تفضي الى نهر دجلة، الى جانب منافذ مفتوحة تقود الى النهر، حيث تقبع زوارق بخارية حديثة فيها كل وسائل التقنية المتطورة جاهزة للانطلاق عند أول اشارة. وجود المنطقة على ضفة النهر يعطيها موقعاً متفرداً ومتميزاً، مما يؤهل القصر الي ان يصبح صرحاً أميركياً يشار اليه بالبنان، وان تحتل السفارة الاميركية الموعودة مكاناً محصناً يشرف على احدى اجمل بقاع بغداد جمالاً. كانت المنطقة المحيطة بالقصر قبل أن يصبح كما هو عليه الآن، مزارع وبساتين كثيفة لأشجار معمرة كالنخل والزيتون والتين والتوت والنبق "السدر" وكان المتنزهون والسابلة من كل أطراف بغداد يقصدونها للنزهة والتريّض، ولقطف ما كان يتدلى من أغصان أشجارها النافرة خلف الأسيجة من تلك الأطايب ورطيب الثمار. في منتصف السبعينات جاءت جرافات ورافعات، هدمت أسيجة البساتين البدائية المبنية بالطوب واللبن واستولت على معظم الدور والمزارع في المنطقة. وجرى تعويض أصحابها وملاكها بأثمان بخسة. ومن رفض منهم البيع انتزعت منه الأرض غصباً، أو سيق للسجن ومن ثم للتعذيب مداناً بشتى التهم. القصر الجمهوري بشكله الأولي وهندسته البسيطة وبمساحته المحدودة، لم يبنَ في عهد حزب البعث في العراق، بل كان العمل يجري به على قدم وساق ابان حكم الزعيم عبدالكريم قاسم ليكون مقراً للبرلمان الذي لم يرَ النور، أو مثابة لرئاسة الجمهورية التي لم يكتب لها سكناه. بعض ذوي الذاكرة، من المخضرمين، يؤكد أن المبنى كان ضمن مخططات مجلس الإعمار الذي أسس في العهد الملكي، والذي اعتزم تمويله من واردات النفط، واعتمدت ميزانيته لإعمار العراق. وكيفما كان الأمر، فإن القصر لم يكتسب أهميته الحالية "من مواصفات تقنية عالية وعالمية"، إلا في زمن صدام، الذي يقال إنه كان مقرّه المفضل لاسيما قاعة الرئاسة، والمسنّاة التي على النهر، حيث كثيراً ما كان يحلو له التمشي على الضفة وممارسة صيد السمك في بعض الأحيان. وسيّج الجانب الآخر من النهر المقابل للقصر، وحظر على السابلة الاقتراب منه وحرم الصيادون من الصيد فيه، وهناك مفارز رصد وحراسة دائمة التجوال طوال اليوم وطوال أيام السنة. ما يُطلق اليوم على القصر الجمهوري إنما يطلق مجازاً على أبنية عدة تبدو للرائي منفصلة وهي ليست كذلك، فكثير منها متصل ببعضها عبر دهاليز وأنفاق وأروقة داخلية، لا يعرف مداخلها ومخارجها إلا قلة قليلة من حراسه وخدمه وحاشيته والعاملين الذين يوثق بهم ويعتمد عليهم. ولأن معظم بنايات القصر الجمهوري لا تتعدى الطوابق الأربعة، فقد حرم تحريماً باتاً على سكان المناطق المجاورة أن يعلو بناؤهم على الأربعة أدوار أو يتجاوزها، خشية من اطلالة أو "شرفية" على القصر وأبنيته. ما أن يقودك الجسر المعلّق نحو نهايته من جهة الكرخ، حتى ينتابك شعور مبهم بالخطر. تشعر أن أمراً غير عادي يطبق على المنطقة ويطوّقك. كما لو أن الجو قد تكهرب فجأة بآيونات أو ذبذبات غير منظورة، وتتسلل اليك عبر مساماتك شحنة من الرعب تتقاذفك وتقذف بك نحو كل الجهات. رجال غليظو الملامح بملابس مدنية يتدلى التهديد من شواربهم الكثّة. نفر من الشرطة الرسمية ورجال المرور ينظرون اليك بعين الشك والريب. والويل لك إن أبطأت لو كنت ماشياً أو جالساً خلف مقود سيارة، والويل الويل لك إن تعطلت سيارتك أو انفك شريط حذائك وانحنيت لربطه، فإنك لا ريب ستقضي ليلتك تلك في مفرزة من مفارز الأمن، ولا ينقذك من المحنة أو السجن أو التعذيب إلا أن يشفع لك أحد "الأولاد بعد أن تدفع المقسوم"، وهو مقسوم باهظ الكلفة لا يقدر على دفعه إلا القلّة. كل ذلك وأنت بعيد عن السياج الرئيسي والبوابة الرئيسية بما لا يقل عن 200 متر. قليلون من العامة من اتيحت لهم زيارة القصر الجمهوري، ناهيك عن التجوال فيه. وهؤلاء القلة بعضهم من أفراد الحرس الجمهوري أو الحراس الشخصيين للرئيس أو أصدقائهم. يذكر أحد الزوار أن من يدخل مدارات القصر، ينبهر منذ الخطوة الأولى لولوج الرحاب. كأنما انتقل المرء من قلب جهنم إلى أطراف الفردوس، حدائق على مد البصر، نافورات مياه، أضواء ملونة، العشب مشذب بعناية خبير، زهور نادرة، بوابات على شكل أواوين مرتفعة، أبواب خشب مزخرفة ومطعمة بالصدف، مقابض الأبواب من معدن يتوهج، يقال إنها من ذهب، جدران بأكملها من فسيفساء، ثريات ضخمة فخمة مدلاة من السقوف العالية، ستائر من مخمل وساتان، أثاث ليس له شبيه حتى في الأفلام، كل ما في داخل القصر يلتمع وينبض بالذوق والنظافة وحسن الاختيار. "يقال إن شركة فرنسية هي التي أشرفت على تأثيث القصر وهي التي تشرف على إدامته". أثناء وجود صدام في مقره الرئاسي، ذي الأجهزة التقنية المتطورة، يستطيع الاتصال بأي وحدة عسكرية عبر جميع مناطق العراق بمجرد الضغط على زر واحد. كما يمكنه - لو اراد - الاستماع إلى أجهزة اللاسلكي التي يتحاور بها أفراد مديريات الأمن أينما كانوا، سواء في دوائرهم أو خارجها. قريباًَ من القصر الجمهوري يقبع مستشفى ابن سينا الذي استولى عليه وغدا المستشفى الخاص لمنتسبي القصر، وسيكون بلا شك المستشفى الخاص لمنسوبي السفارة الأميركية المقبلة. أما ما يقع على امتداد الجهة الشمالية للقصر، فقد كانت بناية لما يطلق عليها بالمجلس الوطني، إلى جانب بناية لوزارة الداخلية القديمة ومستشفى الطفل العربي الذي الحق بالقصر أيضاً. وفي حين كان محظوراً الاقتراب من بوابات القصر لأقل من 200 متر من جهة الجسر المعلّق، و400 متر من جهة جسر الجمهورية، فإن المرور الآن بات أكثر صعوبة ومشقة، نتيجة لاغلاق الجسر المعلّق ومقترباته، وسيجت المنطقة برمتها بأسيجة من الكونكريت بالغة الارتفاع. قد يبلغ طول الجدارية الواحدة عشرة أمتار. وأما قبل... وأما بعد... فذلك هو قصر من لم يصن الأمانة وفرّط في حقوق شعب ووطن. وتلكم هي المثابة "الدائمة" لمن سيتولى شؤون العراق سراً وعلانية، عن قبول أو اذعان. البارحة، رحل سكان القصر القدامى تاركين كل شيء حتى صورهم الشخصية وهوياتهم وجوازات سفرهم، وكل تلك الحكايا السوداء والذكريات المرّة المريرة. واليوم، سيحل في المبنى أناس جدد غرباء. سيجدون كل شيء ممهداً للإقامة والعمل. وستنبثق حكايات جديدة "ملونة يقولون!". وغداً... هل يدري أحد ماذا يحمل لنا الغد من مفاجآت