تبدو بغداد للوهلة الأولى كهرم عملاق ضربته هزة أرضية صيّرت عاليه سافله ونثرت شظاياه رُكاماً في كل مكان. ما من شارع أو رصيف أو سوق أو بناء قائم أو نشاط خدمي، إلا بَصمت عليه الحرب بأصابعها العشرة وشم خراب ودمار. تحتويك عتمة مبهمة حتى وانت في عزّ نهار صيفي. عيون الناس زائغة، كمن ينتظر حدثاً جللاً سيحل بعد لحظة. يزيد الحيرة وطأة، منظر جنود الاحتلال يتجولون بسياراتهم في كل مكان، لهم الحق بتصويب النار وقتل من يشاؤون لمجرد الظن والشبهة بداعي محاربة الإرهابيين. والداهية الكبرى أن القاتل بمنأى عن المساءلة القانونية أو توقع أي عقاب. إنه يؤدي واجبه بحماية نفسه ورفاقه من الإرهاب! أما العراقيون فلهم رب يحميهم. وإذا كانت الانفجارات لم تتوقف يوماً واحداً. فإن الدخان الكثيف المتصاعد من أماكن حرق النفايات، صار سمة من سمات المدن العراقية والعاصمة بالذات. لكن هذا الدخان، وفي هذا المكان بالذات، يثير التساؤل ويبعث على الشبهات، والروائح الكريهة المقززة التي ينفثها في الجو تشبه روائح قبر مفتوح أو شياط جثث متفسخة محروقة. يقول سائق التاكسي: منذ أشهر عدة وعملية الحرق هنا لم تتوقف. تبدأ عند ساعات الصباح الأولى وتمتد إلى ساعة متأخرة من الليل. العوارض الكونكريتية الضخمة التي سيجت الجدران العالية للمبنى وسدت بابه الرئيسي تزيد من ثورة الشك. إنه مبنى الاستخبارات العامة القديم، الذي كان مجرد المرور أمامه يبعث الرعب في الأوصال. ترى ماذا يحرقون طوال هذي المدة؟ ومن يقوم بمهمة الحرق؟ وبأمر مَن؟ سؤال يتطلب اجابة، ولكن ما من أحد يسأل. ويبدو أن لا أحد يعنيه الأمر. هل المحروقات جثث حقاً؟ هل هي وثائق وشهادات استخباراتية ومعلومات؟ إن كان الجواب "نعم"، فيا لبؤس التاريخ العراقي المعاصر، وكل تلك الوثائق والمدونات والاعترافات والأسماء والتواريخ والأسرار والتي غطت حقبة تزيد على ربع قرن، لا تصوّر ولا توثق ولا تحفظ، ولا يشهد عنها شهود عدول، بل تحرق عمداً وتغدو رماداً في غمضة عين. مخدرات في بلد الوعي لا ينفي المسؤولون الأخبار المتواترة عن انتشار المخدرات في العراق بعدما أوشك أن يخلو منها في أواخر السبعينات. فالصحف ملأى بتصريحات هذا المسؤول أو ذاك، يقرّ بوجود الظاهرة ويتحسّب لتفاقمها، ويأمل بحل سريع وجذري للحدّ منها. وعلى رغم سوءات النظام السابق التي لا تُحصى، فإن توقيع عقوبة الإعدام بحق متعاطي المخدرات، شاربها وبائعها، كانت حائلاً جدياً دون انتشارها. اليوم ترك الأمر على الغارب. فأُغرقت السوق بالسموم. بعضهم يشير بأصابع الاتهام نحو جهات أجنبية - نظرية المؤامرة من جديد - تقوم بزرع الشارع العراقي بأنواع من هذه السموم، وتشجع على تعاطيها - مجاناً أول الأمر - فإذا استحكمت العادة والحاجة بالشارب، غدا مدمناً، وصار يطلبها بالحاح ولو دفع ثمنها غالياً، مادياً ومعنوياً. وغالباً ما يجنّد بعضهم لأداء ما لا يمكن اداؤه تحت وطأة الصحو التام واليقظة الواعية. يقول استاذ جامعي - بعدما اكتشف بعض الحالات بين الطلاب - إنها حال استثنائية في وضع شاذ. وستنحسر مع انحسار الظروف الشاذة التي يعيشها المواطنون هنا. ويؤكد إذا كان العراقي - عموماً - يستأنس بتعاطي الكحول، فإنه غير تواق لتعاطي المخدرات. ويكفي أن تعود للقانون هيبته في انزال عقوبة صارمة بحق متعاطيها ومروجيها، كي يحد من الظاهرة ويسارع باختفائها. وفي مفارقة طريفة، يحكي أحد الأطباء في مستشفى مدينة الطب في بغداد كيف أن جنوداً أميركيين يطرقون باب الطبيب الخفر ليلاً، يسألون وبالحاح عن حقنة مورفين، ويلوحون بدفع الثمن مضاعفاً وبالدولار! ونظراً إلى القيود الصارمة، يقول الطبيب، المفروضة على صرف المورفين في المستشفيات، إلا للحالات السريرية المرضية، فإن الاعتذار وارد، لكن الجندي، أو الجنود بعد اليأس من الحصول على المورفين، يسألوننا حقنة من "الفاليوم". هذه حقيقة يتكتم عليها كثيرون من الأطباء على رغم انهم يصادفونها يومياً. من مناشئ عدة تدخل المخدرات إلى العراق، فالحدود مفتوحة على مصاريعها أمام المهربين، وأهم المنافذ هي تركيا وإيران التي تضخ في السوق أنواعاً أخرى كالكوكايين والهيروين إضافة إلى حبوب المورفين. يبلغ الأمر ببعض المدمنين - يقول الطبيب - تحت طائلة الحاجة لمخدر، أن يعمد لشرب قنينة كاملة من دواء الكودايين المتوافر في الأسواق بلا وصفة طبية، لتخفف من غلواء حاجته للمخدر. يعمد بعض الصبية لاستنشاق نوع من أنواع الصمغ لمنحهم بعض الخدر وبعضهم يتشمم البنزين لفترة طويلة، فيما لو عزّت زرقة المخدر. الفاكهة المحرمة لا يكتمل أي تحقيق صحافي عن العراق من دون التطرق إلى ظاهرة البغاء... "أقدم مهنة في التاريخ". مهنة بيع الجسد - أو تأجيره - ما عرفت البوار قط، لا في العهود السابقة ولا في عهد صدام حسين الذي راجت فيه هذه التجارة سراً وحوربت في العلن. أسأل أحد الشباب عن الظاهرة فيقول - وبتحفظ شديد - لا تزال ثمة بيوت في بغداد وأطرافها تمارس هذا النوع من النشاط. فأم عدنان وأم أميرة وأم جواد اسماء مستعارة مشهورات ومعروفات في تلك الأحياء. ولهن زبائن من مختلف الشرائح الاجتماعية، ويتراوح ثمن المضاجعة بين ألف دينار أقل من دولار وعشرين دولاراً، تبعاً لتعريفة المواصفات، بين المطلوب والمعروض. البغاء المقنع كان سمة من سمات النظام السابق. كان معظم المسؤولين - كباراً وصغاراً - يتخذون محظية أو أكثر، تستأجر لهن البيوت الفخمة وتزود بأفخر الأثاث والرياش. لا تخفي عشيقة مسؤول حزبي سابق حسرتها وهي تستعيد وتستمرئ ذكرياتها العذبة عن أيام العزّ. فتقول: "كان يدللني، ويغرق أهلي بالعطايا، ويغرقني بالهدايا. ذهب ومجوهرات وعطور. وكان يزورني لماماً. ولا يخبرني بموعد الزيارة مسبقاً تحسباً من المجهول. وهكذا، كان عليّ في كل ليلة أن أبقى على استعداد لاستقباله، وتلبية مطالبه، فيما كان سائقه الشخصي يقبع غير بعيد، في المنعطف، ينتظر حتى ينتهي سيده من مهمته ليعيده إلى بيته الشرعي، حيث زوجته، التي غالباً ما كانت تعرف عن علاقاته خارج بيت الزوجية وتسكت على مضض". ينفي أحد الزملاء المحامين علمه بحصول حالات اغتصاب قام بها جنود أميركان سجلتها المحاكم كادعاء. لكنه لا ينكر حصول بعض التحرشات من قبل الجنود المرابطين في عرباتهم ودباباتهم قرب المدارس والبيوت، حتى أن بعضهم عقد صداقات مع أهل البيوت التي يرابطون قريباً منها. وتتخذ ظاهرة عقد الصداقات مع جنود الاحتلال افقاً أوسع في مدينة البصرة، لكنها عموماً - في بغدادوالبصرة - صداقات محفوفة بالمخاطر، إذ ينظر إليها بعض الأهالي بعين الشك والريب، وقد يفسرها بأنها قبول ورضى بقوات الاحتلال الأجنبي وتعاون معه، وقد يلاقي حتفه من يستقبل بعض الجنود كضيوف، إذ تبلغ العقوبة أقصاها وتنفذ في الحال، قتلاً، أو احراق دار أو تفجير مخزن. السلطة الرابعة بلا سلطة كبيوض الجراد فقست الصحف في العراق، إذ اندفع من دون هوادة كل من وجد في نفسه القدرة على كتابة جملة، مفيدة أو غير مفيدة، لملء هذا الكم الهائل من الأوراق بالغتّ والسمين. تشبيه فيه كثير من التجني والسوداوية. انني لأرى الظاهرة كمن رأى النور بعد عمى، يظل فترة يعشو، ويتلمس الأشياء ليقارن ما كان يراه في الظلمة بما يراه تحت الشمس. فهذا العدد الهائل من اسماء الكتّاب والصحافيين والكم الكبير من الصحف دلالة عافية إلى أن تنقضي فترة النقاهة التي - لا شك - لن تطول. لا سلطة تشريعية رسمية. لا سلطة تنفيذية بصلاحيات. لا سلطة قضائية باستقلال تام. تتصدر السلطة الرابعة المنبر، وتكتب بأعلى نبرة، وبهذه الأعداد الوفيرة من الأسماء الصحافية المخضرمة والشابة، والتي ربما تجرّب الكتابة للمرة الأولى. يشاع أن 150 صحيفة يومية وأسبوعية ودورية تغزو شوارع بغداد، قيمة النسخة 250-500 دينار. فإذا جازف متقاعد بشراء نسختين أو ثلاث، فمعنى ذلك أن ثلث راتبه التقاعدي يهدر على نزوة القراءة هذه، لهذا ترى جمهرة من الناس تتحلق حول الصحف المنشورة على الأرصفة، يقرأ المتابع مانشيتات الصفحات الأولى وينصرف. وقد يشتري واحدة يرى في عناوينها إثارة أو معلومة أو خبراً عاجلاً. أسأل بائع الصحف: أي الصحف أكثر مبيعاً؟ - ما من واحدة على وجه التحديد، فالمبيعات تتغير كل يوم. وأصدقه. فالشوط ما زال بعيداً جداً لخلق قارئ عراقي يدمن على صحيفة معينة يتلهف لقراءتها، ويتناولها - كحاجة ماسة - مع قهوة الصباح. بعض الصحف أعاد للأذهان أسماء غابت كجريدة "حبزبوز" الساخرة وأخرى غيّب أصحابها النظام السابق مثل جريدة "المنار" التي يصدرها سعود بركات، نجل عبدالعزيز بركات الذي يقال إن السلطة ذوبته في الأحماض والأكاسيد. الخيط الرفيع الذي يجمع هذه الصحف، ان لا ضوابط عليها، لا قوانين تحكمها أو تنظم اصدارها، لا حقوق مهنية للكتّاب فيها، الرواتب فيها متدنية، وأحياناً يكتفي الكاتب باسمه منشوراً من دون المطالبة بمكافأة مادية. مدارس سقراط "لو اسندت لي مهمة الإصلاح، لبدأت بالمدارس"، هذا القول الحكيم الذي ينسب للفيلسوف سقراط لا يجد له صدى في الوزارة المعنية ولا في المدارس بعد عام على سقوط النظام. ولو ضربنا صفحاً عن فقر المناهج وشحة الكادر التعليمي، فإن المدارس عموماً تشكو من فقر مقدع في كل شيء. معظم المدارس مهدمة أو آيلة للسقوط. النوافذ بلا زجاج، محشورة فتحاتها بأكياس "البلاستيك" لصد الروائح المنبعثة من الساحة المدرسية التي غرقت بالأزبال ومياه المجاري الطافحة من بيوت الحي. معظم الطلبة يجلسون على الأرض ويكتبون عليها، ليست هناك مياه صالحة للشرب. في مدينة الصدر - مثلاً لا حصراً - والتي تشغل حوالي 25 كيلومتراً مربعاً ويسكنها حوالي مليوني نسمة، هذه المساحة تضم 296 مدرسة. يزيد عدد طلاب الصف الواحد فيها على الخمسين طالباً! ينحشرون في الصفوف حشراً، ولا يستوعبون من الدرس إلا أقله، وبعضهم يتغيب عن الدوام بحثاً عن رزق يسد به بعض نفقات العائلة. ضارباً عرض الحائط بنود قانون الأحداث الذي يحرّم تشغيل الأحداث قبل سن البلوغ. في حضرة كل هذا الخراب يحلو للبعض المقارنة بين زمن صدام الفاجع وهذا الزمان البغيض. ما انصف من يقارن بين العهدين. وهل تصحّ المفاضلة بيت الموت والردى أو بين جهنم والجحيم؟ الهروب الى الهزل بعد إلغاء عقوبة الإعدام التي كانت سمة سائدة في العهد الصدامي، يحق كل من يتهكم أو يلقي نكتة تمس الذات العليا للرئيس أو عائلته أو أحد كبار المسؤولين في الدولة. وفي ظل التضخم الاقتصادي والضنك والبطالة والخوف من المجهول، يهرب العراقي إلى عالم السخرية والهزل حيث شاعت ظاهرة "النكتة" سواء في الصحف أو أحاديث الناس. وراجت النكات السياسية وناشت كل فرد من أفراد السلطة ولم تستثن أحداً أبداً. بعض النكات فاضح وليس ميسوراً ايرادها في هذا المقام: تحرش جندي أميركي بعراقية قالت له اغرب عن وجهي وإلا جعلت منك "خبراً عاجلاً". يقال إن الحزب الشيوعي اتحد مع حزب "الدعوة" وكوّنا حزباً اطلقوا عليه اسم "اشدعوه"! لقي بوش كلينتون، فقال له الأخير ساخراً: ألا قل لي بالله عليك ماذا ستفعل بشيعة العراق؟ رد بوش جاداً: سأفعل بهم ما فعلته أنت بمونيكا لوينسكي، امسك الصدر!! أصدر بريمر قانوناً يقضي بتفتيش النساء العراقيات بحثاً عن الصدر. سألوا صدام حسين لماذا اختبأت في الحفرة؟ قال لم اختبئ، نزلت ابحث فيها عن عزة الدوري. قيل لأحمد الجلبي: لماذا تخلت أميركا عنك؟ قال: اسألوا صدام فهو أعرف مني إذ جربها قبلي. ما الفرق بين "اللمبة" ورئيس الجمهورية العراقية؟ الأولى نفطية والثاني غازي!