الرسالة التي وجهها قادة الطلاب الإيرانيين الى الرئيس محمد خاتمي، تبرز بوضوح مدى الاحتقان الذي تعيشه الساحة الإيرانية. فقد وجه الطلبة شبه انذار أخير، معتبرين ان هذا هو "الحوار الأخير بين الحركة الطلابية ونظام الجمهورية الاسلامية. فإذا ما انهار الحوار ورئيس الحركة الطالبية، فإن ما سيأتي هو فتنة كبرى ستعمّ البلاد". وشمل تهديد الحركة الطلابية "جميع المسؤولين، سواء كانوا في مواقع تنصيبية ام انتخابية"، ودعت الحركة الطلابية الرئيس خاتمي بالذات الى الخروج عن صمته او الاستقالة، وليتركها تواجه السلطة! ان التمرد الطلابي في إيران هو جزء من حال عامة تعاني منها البلاد وتطرح تساؤلات واشكاليات حول الأسباب التي أوصلت الأمور الى هذا المنحى. فالتمرد، وصراع اليمينيين والاصلاحيين والتهديدات الأميركية لطهران والمأزق الجيو - سياسي والايديولوجي الذي تمر به إيران اليوم، كل هذا يكشف حدود التمرد الطلابي في آفاقه الحالية كما يكشف محدودية الرؤية الشمولية لدى المسؤولين الإيرانيين محافظين وإصلاحيين إذ يغيب عن كثيرين منهم دور الجغرافيا السياسية لإيران التي تحدد أهدافها الاستراتيجية وسياستها الخارجية وتشرح وتفسّر مأزقها التاريخي الحالي بوجهيه: الداخلي والخارجي. أولاً: حدود التمرّد الطلابي في قراءة لما حدث داخل قطاع الطلاب الإيرانيين اخيراً يمكن ايجاز الأمور على الشكل الآتي: 1- إن ما حدث في الجامعات الإيرانية هو أكثر من تظاهرة وأقل من ثورة هو علامة من علامات الاحتجاج بل التمرد. 2- إن الأوساط الطلابية، في جميع أنحاء العالم، خصوصاً الجامعية، هي الأكثر تحسساً بهواجس الشعب وقضاياه ومشاكله ومآسيه. لذا تكون دائماً رأس حربة في الاعتراض والتمرد على القوى الحاكمة. 3- إن فعالية الحركة التمردية، ليست في رأي المراقبين، من العمق بحيث تتمكن من اسقاط النظام الاسلامي، ولكنها نسخة بارزة عن مشاعر الشارع الإيراني. 4- إن المفارقة في هذه الحركة انها موجهة، ليس فقط ضد المحافظين في السلطة، بل وحتى ضد جماعة الاصلاحيين وعلى رأسهم الرئيس خاتمي، لأنهم، في نظرها، خانوا الثورة وآمال الشبيبة في الاصلاح والتطور واستسلموا بسهولة لاملاءات رجال الدين. 5- صحيح ان السلطة تراجعت أمام الحركة الطلابية في موضوع "خصخصة الجامعة" لأنها تطرح مسألة ديموقراطية التعليم الجامعي في بلد معروف بتوقه الدائم للعلم والمعرفة، ولكن السلطة لم تقدم للحركة الطلابية، في العمق، أي تنازل. 6- إن الحركة الطلابية لا تملك جذوراً تنظيمية داخل المجتمع المدني، وليس لديها تنظيم فعال على مستوى البلاد، اضافة الى افتقادها الى طرح ايديولوجي واضح والى قيادة كاريزمية قادرة على تعبئة الجماهير. 7- إن الإيرانيين، لم تعد لديهم "شهية" كبيرة للسير في الحركات الثورية بعد التجارب التي حملتها اليهم تداعيات الثورة الاسلامية 1979 وما آلت اليه حالياً من رفع المتاريس بين المحافظين والإصلاحيين من دون حسم الامور لمصلحة أي من الجانبين، وذلك على حساب مستقبل البلاد ونموها الاقتصادي وعلاقاتها الاقليمية والدولية. 8- سبب آخر يثبّط من عزائم دعاة الاصلاح وهو الاكتفاء مرحلياً بما تحقق حتى الآن وعدم فسح المجال أمام القوى المحافظة لزيادة ضغوطها وقمعها بما يتخطى الطلبة الى الإصلاحيين أنفسهم، والحجة بالتخوين والتكفير جاهزة: يكفي ان يهنئ الرئيس جورج بوش والوزير كولن باول الحركة الطلابية ويشجعانها كي تصبح "طابوراً خامساً" وأداة بيد "الشيطان الأكبر"! 9- مشكلتان كبريان تواجهان إيران اليوم وفي مستقبل قريب وهما: وجود عدد مهم من قيادات "القاعدة" في إيران بيد السلطة. وهذه الورقة الكبرى ستكون جزءاً من التفاوض مع الولاياتالمتحدة. يضاف اليه ان "مشروعية" النظام الإيراني ستطرح عما قريب على بساط البحث بوجهيه الاصلاحي والمحافظ لدى انتخاب رئيس جديد للجمهورية اذ ليس لدى اي من الجهتين شخصية كاريسمية قادرة على استقطاب الجماهير الإيرانية خلف مشروع سياسي مقنع وواضح؟ وهذا الواقع يعكس "محدودية الرؤية" اي ان بعض المثقفين الإيرانيين لديهم رؤية شمولية واستراتيجية للوضعية الإيرانية هي أفضل بكثير مما لدى المسؤولين الإيرانيين. ثانياً: رؤية استراتيجية للوضعية الإيرانية إن إيران، الدولة والجغرافيا والتاريخ والكيان، تقدّم أحد أفضل النماذج عن الجغرافيا السياسية للدولة المعاصرة: - فهي دولة ذات خصوصية في تركيبتها الجغرافية، تنعكس حكماً على سياستها الخارجية. وتطرح مشكلة علاقة إيران بجيرانها، كما تبرز مشكلة العلاقة بالغرب. وانطلاقاً من هذه الوضعية تصبح للجمهورية الاسلامية اهدافها التي يمكن اختصارها بثلاثة: الأول: الدفاع عن سيادة البلاد واستقلالها والعمل على تطورها ونموّها. الثاني: الدفاع عن المسلمين في جميع أنحاء العالم ومناهضة الغرب عموما، خصوصاً أكبر قوتين "استكباريتين" هما: اسرائيل وأميركا. الثالث: السعي بكل الوسائل لإقامة نظام اسلامي بآفاقه الشيعية. الا ان تحقيق هذه الأهداف يفرض على إيران مستلزمات كبرى يصعب عليها الايفاء بها ومنها: الامكانات الكبرى المادية والمالية والاقتصادية والعسكرية والفكرية والتكنولوجية. ثم ان تحقيق هذه الأهداف يفترض على ايران قيام تعاون وتنسيق اقليمي ودولي مع جيرانها أولاً ومع الدول الكبرى ثانياً. لكن إيران دولة شيعية بين مجموعة دول سنّية. وهي من هذه الناحية تفتقر الى "انسجام" كامل مع محيطها. يضاف اليه انها لا تستطيع الائتلاف مع الحكومات والمعارضات في آن واحد. ومثل هذا الوضع يخلق عادة توتراً بينها وبين محيطها بحيث تتفق مع الدول المجاورة على الهدف الأول وتختلف معها على الهدفين الباقيين لأن النظام الاسلامي السنّي بشكل عام ليست له النظرة الإيرانية الى الغرب وأميركا. ولعل المفارقة المذهلة هي ان لإيران علاقة حميمة تاريخياً بالغرب، لأن الشعب الإيراني يعود الى الجذور الأندو - أوروبية ولغته أقرب الى أوروبا منها الى الفرع السامي. فهي دولة تميل بحكم تركيبها البشري والثقافي اللغوي الى الثقافة الغربية. وتطرح علاقة إيران بالغرب في طهران على مستويين: الأول: مستوى الصراع مع الغرب في الميادين الأخلاقية والفلسفية والسياسية. الثاني: مستوى التعاون مع الغرب في الميادين العلمية والاقتصادية والتكنولوجية. وهذا التقسيم يبقى نظرياً في أذهان الإيرانيين أنفسهم. فالغرب، وعلى رأسه الولاياتالمتحدة، ليس في وارد دعم إيران تكنولوجياً وتسلّحياً أزمة المفاعل النووي في حين تعمل إيران ضد السياسة الأميركية على طول الخط! إن إيران بموقعها الجغرافي وتركيبتها البشرية وثرواتها الطبيعية النفطية والمائية تجد صعوبة، بل استحالة لخلق ائتلاف إقليمي تكون لاعباً أساسياً فيه. وإن علاقتها بسورية تظل علاقة تكتيكية أكثر منها استراتيجية. فهي من جهة لا تستطيع الا ان تقيم تعاوناً اقليمياً ودولياً للدفاع عن أهدافها، وهي من جهة ثانية غير قادرة على إتاحة مثل هذا التعاون الا على حساب حريتها وسيادتها ومصالحها القومية. وهذه هي مأساتها الدائمة، وما أسماه أحد المؤرخين: "قدرية التدخل الأجنبي في إيران"! والخلاصة ان الوضعية الإيرانية الحالية، لا ينظر اليها من خلال الاحتجاجات التي تقوم بها الحركات الطلابية. فهذه الحركات هي تعبير عن ارهاصات تحرك الضمير الإيراني المشبع بروية العلم والثقافة والميل نحو التطور والتحرر. فهذه الحركات هي جزء مما يخترق المجتمع الإيراني من تيارات فكرية تريد ان تدخل عصر الحداثة مستفيدة من الغرب من دون ان تنسخه او تكون أسيرة له. ولا شك في ان ضعف السلطة في إيران الناتج عن التجاذب الدائم بين توجهين متناقضين أضعفها كثيراً. ان الجغرافيا السياسية الإيرانية المعقّدة تفرض حكماً ان يحكم إيران رجال لهم نظرة شاملة عالمية. فإيران ليست بلداً سهلاً وهامشياً، انها بلد مركّب ومعقّد، بلد "دولي" بتركيبته لا يُحكم الا بواسطة قادة من ذوي الآفاق غير المحدودة