لا مفرّ للسائح الآتي من لبنان الى سويسرا إلا أن يستسلم للعبة المقارنة الطريفة بين سويسرا الغرب وهي الاصلية و"سويسرا الشرق" وهو اللقب الذي حمله لبنان قبل عام 1975 تاريخ اندلاع الحرب اللبنانية. وسويسرا هي أشبه بحديقة واسعة من العشب الاخضر، تسرح فيها الأبقار التي ترن في اعناقها اجراس معلّقة تحميها من الضياع، ولا يكتمل الجمال الاخضر إلا حين يلتقي باللون الابيض الناصع الذي يكلّل جبال الألب التي تتكئ سويسرا في احضانها او هكذا تبدو. يتكرر هذا المشهد في سويسرا كلها ويبدو اسطع ظهوراً خارج المدن، لكن المساحات الوسيعة الخضراء حاضرة أينما كان، خصوصاً ان الكثافة السكانية متوسطة، ومعلوم ان سويسرا تعد زهاء 7 ملايين ونصف المليون نسمة يتوزعون على مساحة 41285 كلم مربع. وسط هذا الجو الطبيعي الجميل، كيف لا نلاحظ الاختلاف الكبير بين مدن بلدنا العالم ثالثي والمدن السويسرية، لا سيما العاصمة الصناعية زوريخ والعاصمة الرسمية برن: من المساحات المكتظة بأبنية الاسمنت، الى الحدائق المشجرة التي تشكل متنفساً طبيعياً للسكان، من أرتال السيارات المزدحمة على طرفي الشوارع الى المواقف الموزعة في بنايات خاصة والمقسمة الى طبقات عدة، من اشارات السير المعطلة والمتجاهلة من قبل المواطنين، الى الاشارات المحترمة والفسحات الخاصة بالمشاة الذين يشكل مرورهم اشارة توقف إلزامية للسيارات المارة او الدراجات الرائجة في كثرة. من الأنفاق المظلمة الى الأنفاق المضاءة، من الابنية المبنية في شكل عشوائي الى التنظيم المدني الواضح الذي يحافظ على طابع البلد المميز ببيوته القرميدية ذات السقف القرميدي الذي يحميها من الأمطار والثلوج. عاصمتان حزينتان المدن السويسرية تتميز بالهدوء التام، لا سيما في ايام العطلة، اذ يقصد السكان الجبال وتنعدم الحركة تماماً بين الواحدة والرابعة بعد الظهر وقت القيلولة. نادراً ما تلتقي بالشباب في سويسرا حيث معدل الحياة هو 79 عاماً ومعدل الولادة ولدان لكل عائلة. تستقبلك زوريخ بوجه باك، الامطار في كل مكان والحركة خفيفة إلا من بعض المارة المتقدمين في السن الذين يجرون كلابهم الكبيرة وراءهم، يتكرر هذا المشهد في معظم انحاء البلد ويتبدل قليلاً في جنيف حيث مقر معظم المنظمات الدولة والمؤسسات الرسمية. زوريخ هي مدينة المصارف وشركات التأمين في سويسرا، وكانت في العصور الوسطى مركزاً لصناعة الحرير، ويمتد هذا الكانتون على تلة يبلغ ارتفاع أعلى نقطة فيها 871 متراً، وتضم بحيرة زوريخ ويجتازها نهر الرين. كل اليافطات واللوحات الموجودة على الطرقات باللغة الألمانية وهي اللغة الرسمية في هذا الكانتون، ومعظم السكان ينتمون الى الديانة المسيحية البروتستانتية، والمعروف ان ثمة عصبيات في سويسرا بين الثقافتين الفرنسية والألمانية. أما اللغات الأربع التي تدرس في المدارس فهي الألمانية، الفرنسية، الايطالية، الرومانشية. تضج المدينة بالمتاحف والأبنية الجميلة، منها القصر الأحمر، وتتميز بأنماط البناء المختلفة بين القديم والحديث. وتكثر في زوريخ تماثيل الأسود، والأسد هو شعار المدينة، ومعلوم ان لكل كانتون شعاره الخاص به. هنا الكاتدرائية ذات القبة الاكبر في المدينة، وهنا جامع زوريخ وهنا السيارات الكهربائية التي اقتناها بعض الأغنياء في المدينة. التراموايات والقطارات تملأ شوارع المدن، وفي القطار بين السويسريين الذين لا يرفعون رؤوسهم عن كتاب او مجلة انتقلنا الى العاصمة برن وشعارها هو الدبّ! بيوت القرميد والزهور تلاقي الزائر وساعات كبيرة مزروعة على قبب الكاتدرائيات التي لا تحصى، اللغة الألمانية هي السائدة ايضاً، الابنية تبدو اكثر قدماً كلها منحوتات وللمدينة طابع ريفي. وفي برن يقع مركز الحكومة الفيديرالية وهي مدينة لا تتمتع بالشهرة والاهمية التي تتمتع بها جنيف ولوزان. لوزان ومقبرة الكلاب من العاصمة الباهتة هي اليوم الشتائي الطويل، انتقلنا الى العاصمة الأولمبية لسويسرا وهي لوزان، وفيها بحيرة ليمان اكبر بحيرة في جبال الألب وعبرها تبدو فرنسا وتحديداً منطقة لاهوت سافواي. تعتبر المدينة لوحة طبيعية حقيقية، يطغى عليها اللونان الأخضر والأزرق، وفيها نداء للراحة بين حدائقها العامة وهي تعتبر المدينة الاكثر اخضراراً في اوروبا كلها. بنيت مدينة لوزان على مجموعة من التلال لذا تكثر فيها الطلعات والنزلات، لغتها الفرنسية وهي مدينة المؤتمرات وتحوي على الملعب الاولمبي الضخم وتعتبر العاصمة الاولمبية على رغم ان الالعاب الاولمبية لم تنظم فيها مرة واحدة. وفي لوزان يوجد اصغر قطار انفاق "ميترو" في العالم، وفيها آثار رومانية وأمام بحيرة ليمان يتجمهر الناس امام الزوارق ليبحروا في البحيرة الواسعة غير آبهين لزخات المطر القوية. والجدير ذكره ان معظم هؤلاء هم من السياح الذين يبلغ عددهم في سويسرا سنوياً زهاء 11 مليون سائح. وتشتهر لوزان بكاتدرائيتها الجميلة ذات الشهرة العالمية التي يعود بناؤها الى القرن الثالث عشر والقائمة على تلة من تلال المدينة القديمة، وتتميز بفسيفسائها ولوحاتها ومنحوتاتها التراثية الرائعة وزجاجياتها التي تعود الى العصور الوسطى. أطرف ما شاهدناه في لوزان مقبرة للكلاب تقع في الحديقة الوسيعة لأرقى فندق في العالم هو فندق البوريفاج المجاور لمتحف لوزان الأولمبي الذي بناه بيار دو كوبرتان عام 1915. في حديقة هذا الفندق الذي تبلغ تكلفة الليلة الواحدة فيه 700 دولار أميركي ومعظم نزلائه من الأثرياء العرب، خصصت مساحة لدفن كلاب الزبائن التي تموت اثناء وجودها في الفندق، وتتميز المقابر بالبلاطات الخاصة بكل كلب وبالزهور المزروعة حولها! هدوء فريبورغ الممل في الطريق الى فريبورغ كان لا بد من التعريج على "رومون" Romont، مدينة الزجاج حيث يوجد متحف رائع للزجاجيات وفريد من نوعه في العالم، يحتوي على أشغال تاريخية من الزجاج، وعلى "لوحات" زجاجية لفنانين سويسريين ومن العالم اجمع، وقرب المتحف مركز للأبحاث حول هذا الفن الرائع المنتشر في الكاتدرائيات الكبيرة. في الطريق الى فريبورغ الكانتون الفرنسي رافقنا قوس قزح اجتاز الخضار والمراعي الوسيعة كان كالحلم الذي يتحقق على الموسيقى الفولكلورية السويسرية الناعمة والمرتكزة على عزف الأكورديون الجامع بين الفرح والرقي في آن واحد. في كانتون فريبورغ تبدو الطبيعة في تجليتها كلها، وتتميز مدينة فريبورغ بكاتدرائيتها الجميلة التي يتطلب الوصول الى قبتها صعود 368 درجة على ارتفاع 80 متراً. ويتمتع من يملك القدرة على صعودها بمنظر عام للريف، ويزورها سنوياً زهاء 9 آلاف زائر. وفي المدينة القديمة يتمتع الرائر باكتشاف الطرق القديمة والمباني المنحوتة، وعلى رغم المسافات الطويلة لا يمكنه التوقف إلا لالتقاط صورة تحت جسر تسرح تحته المياه وتظلله الاشجار الوارفة. مملة هي فريبروغ، بسبب هدوئها الكثيف، وسكانها الذين يقفلون الابواب والنوافذ ولا يخرجون إلا نادراً. الهدوء الممل يدفع للهروب الى جنيف، هناك في هذا الكانتون الجنوبي الغربي المتاخم للحدود الفرنسية كان الازدحام والحركة، ومعظم سكانه من الأجانب الذين تبلغ نسبتهم 38.8 في المئة من عدد السكان. وإذا كانت الكروم الجميلة تنتشر في أماكن عدة في جنيف، فإن المدينة تعتبر صناعية في معظمها. فيها الصناعات التقليدية مثل النسيج، وصناعة الساعات، والمجوهرات، وفي المدينة معظم المنظمات الدولية والمعروف ان جنيف هي العاصمة الديبلوماسية لسويسرا منذ 50 عاماً. كانت جنيف تعتبر من بين المدن التجارية الأهم في اوروبا وسميت "روما البروتستانتية" منذ الإصلاح وتنتعش فيها الحياة الليلية. مدينة الجبنة والبحيرات الساحرة من غير الجائز زيارة سويسرا من دون التعريج على منطقة لاغرويير الشهيرة بصناعة الجبنة المتعددة النكهات، فهناك يقصد الفلاحون مصنع الجبنة مرتين يومياً لتسليم الحليب، وتستمر صناعة الجبنة يومياً من الساعة التاسعة صباحاً الى الثالثة بعد الظهر. وفي البلدة الريفية الخضراء يوجد قصر لاغرويير الذي يعود الى العصور المتوسطة ولم يبق منه سوى جدران البرج التي تعود الى القرن الثالث عشر، والصالونات التي أعاد بناءها عام 1493 لويس الثاني وكلود دي سيسيل ويعتبر القصر الأول الذي بني الى شمال جبال الألب التي تبدو كلها بقممها المكللة بالثلوج. يقدم هذا القصر بانوراما حقيقية لخمسة قرون من التاريخ، كل صالة فيه خاصة بطبقة اجتماعية معينة وبنمط معين، وقد عمل فيه فنانون كثيرون. وبعد تذوق الجبنة السويسرية كان لا بد من رحلة رومانطيقية الى منطقة البحيرات الثلاث: مورا، نوشاتيل، وبيان في باخرة مخصصة للسياح. وبين المناظر الطبيعية الخلابة والكروم الخضراء وتحت المطر المنهمر بكثافة وعلى عزف الأكورديون وصلنا الى مدينة استفاير لولاك Estvayer le lac حيث تذوقنا الطعام السويسري التقليدي من الحلويات المصنوعة من الجبنة والسكر، الى انواع الاسماك المختلفة، الى الخضار اللذيذة والفواكه المختلفة. وهذه القرية هي رائعة طبيعية يعود تاريخها الى العصور الوسطى، ويقام فيها الكثير من الأعياد والمهرجانات الثقافية.