لن يلبي اغتيال لوران ديزيريه كابيلا رئيس جمهورية الكونغو الديموقراطية زائير سابقاً طموح جارتيه اللدودتين رواندا ويوغندا ومعهما العواصم الغربية في رؤية كونغو ديموقراطي جديد يخضع لمتطلبات النظام العالمي الجديد، خصوصاً مراعاة التعددية السياسية واحترام حقوق الانسان وتحرير الاقتصاد. مثل هذا الطموح يبدو بعيد المنال على المدى الزمني القريب على الأقل، إذ إن طبيعة الصراع الذي فجر الحرب الاهلية هناك منذ 6 آب أغسطس 1998 يتعلق أصلاً بالموارد والثروات، ثم يأتي بعد ذلك حلم الفوز بالسلطة عاملاً مساعداً للحصول على تلك الثروات في بلاد تساوي مساحتها مساحة أوروبا الغربية مجتمعة، وتعج بواطن أرضها الشاسعة بالذهب والماس واليورانيوم والفوسفات والنحاس. من عجائب المصادفات أن اغتيال كابيلا جاء في الذكرى الاربعين لاغتيال رائد الاستقلال الكونغولي باتريس لوممبا في 17 كانون الثاني أيار 1961 . ومن عجائب المصادفات أيضاً أن كابيلا نفسه دخل مبنى الرئاسة في كينشاسا ليتولى السلطة في 17 أيار مايو 1997. وأصدر في اليوم نفسه قراراً بتغيير اسم الجمهورية من زائير الى جمهورية الكونغو الديموقراطية. حين يتأمل خليفة كابيلا الارث الذي خلفه الرئيس الكونغولي سيجد أن الاخير تباطأ كثيراً في التجاوب مع النداءات الداعية الى ترسيخ الديموقراطية. فبعد أسبوع فحسب من توليه السلطة أقدم على حظر نشاط الاحزاب في 24 أيار 1997، وعين نفسه قائداً أعلى للقوات المسلحة والجهازين التنفيذي والتشريعي. وكان طبيعياً أن يشعر شعب الكونغو بأنهم إنما استبدلوا قيصراً بقيصر، وأن 32 عاماً من حكم موبوتو لم تحقق طموح الكونغوليين الى مستقبل مشرق. كما سيجد من يتصفح تركة كابيلا أن الاخير فضّل إدارة النزاع مع خصومه في دول الجوار على أسس عقائدية، وأنه فضّل قذف بيوت الآخرين بالحجارة ناسياً أن بيته الكونغولي مبني من زجاج! وهي إشارة الى الدعوة التي قدمها كابيلا الى الرؤساء الزيمبابوي روبرت موغابي والأنغولي دوس سانتوس والناميبي سام نجوما الى مساندة القوات الكونغولية إستناداً الى العقيدة الماركسية التي تجمع أولئك الزعماء الذين لبوا الطلب، مما أدى الى إنتشار جيوش خمس دول إفريقية في الاراضي الكونغولية. ومن الإشارات المهمة إدارة كابيلا الصراع على أسس قبلية لم يحسن توظيفها جيداً، فهو تناسى أن التوتسي الذين ينتشرون في رواندا المجاورة كانوا من أهم العوامل التي أدت الى الإطاحة بموبوتو، وتناسى أيضاً أن قوات رواندا توخت، وهي تتعقب مقاتلي الهوتو في شرق زائير، دنو لحظة سقوط موبوتو، فحاصرت العاصمة كينشاسا جنباً الى جنب قوات التمرد التي تزعمها كابيلا، حتى اضطر موبوتو تحت وطأة كبر السن وانتشار السرطان الى الهروب. وما إن تفجر العداء بين كابيلا وكل من رواندا ويوغندا، حتى عمد الاول الى استقطاب نحو 800 من اللاجئين الهوتو وقام بتسليحهم ليكونوا أداة ضغط بيده ضد التوتسي الذين يحكمون رواندا. وبالطبع فإن الحكومة الرواندية تسيطر عليها قبيلة التوتسي التي تعتبر أقلية في تلك البلاد التي يمثل الهوتو نحو 85 في المئة من سكانها. وتثير محاولة اغتيال كابيلا عدداً من الأسئلة حول دور الأممالمتحدة وما إذا كان تلكؤها في تنفيذ قراراتها في شأن الكونغو متعمداً. وكانت المنظمة الدولية اتخذت قراراً في 24 شباط فبراير 2000 يقضي بارسال قوة قوامها 5537 من قوات حفظ السلام للإشراف على تنفيذ اتفاق لوساكا 1999 القاضي بوقف النار وبدء عملية السلام. وفي 16 حزيران يونيو الماضي قرر مجلس الأمن الدولي سحب جميع القوات الأجنبية من الأراضي الكونغولية، لكن القرار لم يحدد موعداً قاطعاً للتنفيذ. ولم يعف ذلك الاممالمتحدة من اتهامها بالتعامل بمعايير مزدوجة، إذ سارعت الى احتواء أزمة كوسوفو في البلقان بالتعاون مع حلف شمال الأطلسي، فلماذا تراها أحجمت عن مساعدة الكونغو الذي تعادل مساحته أراضي أوربا الغربية؟ مواقف الاممالمتحدة حيال الازمة الكونغولية دفعت بعدد من القادة الافارقة لقول بوجود مؤامرة دولية تعزى الى صراع النفوذ بين واشنطنوباريس في منطقة البحيرات الكبرى. ويعزز هذا التأويل دخول جنوب إفريقيا على الخط في معمعة رحيل موبوتو، وهي الاقرب الى واشنطنولندن، وما تلاها من محاولة جر كابيلا الى محور لندنوواشنطن باعتبار أن باريس وبروكسل هما المستعمران السابقان اللذين يتحملان مسؤولية اطالة عمر نظام الرئيس موبوتو، خصوصاً أن باريس - بوجه خاص- ظلت تدعم شرعية موبوتو وآلته العسكرية بالوكالة، وهي إشارة الى وقوف مصر على عهد الرئيس الراحل أنور السادات والمغرب على عهد ملكها الراحل الحسن الثاني مع نظام موبوتو أثناء التمرد الذي حدث في إقليم شابا الزائري كاتنغا في 1976 و1977. ولصراع النفوذ بين واشنطنوباريس في افريقيا حيثياته وجذوره. فقد كان الرئيس بيل كلينتون أول رئيس أميركي يزور القارة السمراء منذ 20 عاماً. واختار في زيارته الاولى لافريقيا التي تمت في نيسان ابريل 1998 العاصمة السنغالية داكار، وهي مستعمرة فرنسية سابقة، وعرج منها على كمبالا حيث جمع رؤساء 16 دولة افريقية، معظمها من الدول الفرنكوفونية. لقد دفع الكونغو فواتير الجغرافيا والظروف الجيوسياسية مثلما دفع ثمن غناه الفاحش بالموارد، خصوصاً الماس واليورانيوم والذهب. وثمة من يقطعون بأن الوجود الأجنبي على الاراضي الكونغولية مرتبط أساساً بتمويل ذلك الوجود من تجارة الماس. وفي المحصلة يبدو أن غياب كابيلا يمثل انتصاراً لرواندا ويوغندا وحركات التمرد الكونغولية الثلاث التي تحظى بمساندتهما، وللعواصم الغربية التي تعتبر كابيلاً وجهاً آخر للزعيم اليساري موغابي. غير أنه يمثل أخباراً محزنة لقوى أخرى كانت على علاقة وطيدة بنظام كابيلا، منها السودان وليبيا والدول الثلاث المتورطة في الحرب الاهلية الكونغولية الى جانب الجيش الكونغولي. وهكذا فإن غياب كابيلا يمثل حجراً ثقيلاً ألقته الأحداث في البحيرات الكبرى