لا قضية كقضية تحرر المرأة تعكس الطابع المعقد للتحديات المختلفة التي تعيشها مجتمعاتنا العربية في مواجهة فكرة الحداثة الغربية. فهي، منذ ارتفاع الأصوات المنادية بها قبل اكثر من قرن، وفّرت الحقل التطبيقي والمؤشر النظري لصراع القيم الثقافية والخيارات التاريخية. في خضم المواجهات بين تيارات التجديد والممانعة القديمة والمعاصرة، برهنت القضية على انها اكثر من مجرد وهم من أوهام الدعاة الأوائل للنهضة والتطور والتغيير، وأبعد عن ان تكون شعاراً فارغاً بيد ايديولوجيات التحرر السياسي والاقتصادي والاجتماعي في النصف الثاني من القرن العشرين. وعلى الرغم من تغير سياقها، وتشعب ابعادها، ومسالك معالجتها، بقيت قضية المرأة، في جوهرها، موضوعاً ساخناً للصراع بين المجتمع المدني والدولة، بين العقلية الأبوية التسلطية والعقلية الديموقراطية المساواتية، وبين القوى التقليدية وقوى التحديث. ولخصت، من جانب آخر، اشكالية مفهوم التحرر ذاته بين كونه معطى نظرياً شاملاً وبين كونه معطى عملياً مرتبطاً بشروط ثقافية وتاريخية محددة. ووجه الاشكال هنا لا يقتصر على القبول بالمفهوم او رفضه، ولا على الاختلاف في تحديد أصوله ومبادئه، بل يشمل ايضاً معايير تحققه التدريجي على ارض الواقع. فإذا كان من الواضح ان وضع المرأة العربية قد تغير كثيراً منذ أن وضع قاسم أمين كتابه الشهير "تحرير المرأة" العام 1899، وان ممكنات التعليم والعمل امام النساء العربيات اليوم قد تزايدت عما كانت عليه في أي وقت مضى، فإن ذلك لم يثن بعضهم عن النظر الى ما تحقق كمنجزات كمية لا ترتقي الى ما هو مطلوب. والمطلوب، برأي هذا البعض، إحداث نقلة نوعية في دور المرأة العربية ترسي أساساً صلباً ومستديماً لتحررها ومساواتها بالرجل في الحقوق والواجبات وفي الفرص والمسؤوليات، وتكون شرطاً لقيام مجتمع ديموقراطي. حول هذا التشخيص تتفق اغلب المقالات التي ضمها كتاب "المرأة العربية بين ثقل الواقع وتطلعات التحرر" الصادر عن "مركز الدراسات العربية" في بيروت... اذ يقدم بلغة التحليل الاجتماعي المعزز بالاحصاءات والمقارنات صورة عامة محبطة لوضع المرأة العربية في مجالات التعليم والعمل والتشريعات القانونية والمشاركة السياسية. فتعليم المرأة العربية كما تلاحظ مريم سليم يتسم بأن "نسبة تسجيل الإناث في جميع مستويات التعليم أقل من الذكور". مع ذلك يمكن اعتبار هذه النسبة متقدمة اذا ما قورنت بمجال العمل والنشاط الاقتصادي التي تهبط الى "أدنى النسب في العالم" سيما في القطاع الانتاجي، يضاف الى ذلك التمييز بين الجنسين في مجالات العمل. أما في مجال التشريعات القانونية فتشير الباحثة الى ان المرأة العربية لم تحرز "حقوقها المدنية الكاملة، وإن كانت قد احرزت نظرياً حقوق التجارة والملكية الخاصة... وحقوق اجراء العقود والموجبات...". ومن علائم ذلك النقص الكبير في حقوقها المهنية والأسرية والسياسية التي تفرض، من ناحية، ضرورة مراجعة التشريعات العربية لتواكب مواثيق الأممالمتحدة ذات الصلة، ومن ناحية ثانية، ردم الفجوة الواسعة بين الحقوق الشكلية المتضمنة في الدساتير والواقع الفعلي لوضع المرأة. وتلعب التقاليد دوراً أساسياً في ترسيخ وإدامة الوضعية المذكورة، الأمر الذي يدفع بعبدالقادر عرابي الى تشخيص المشكلة من زاوية عدم تحديث أنماط القيم السائدة لتواكب التحولات التقنية والاجتماعية التي حصلت في بلداننا. ورغم اعترافه بالتغير الذي طرأ على ثقافتنا وعاداتنا، الا انه يصفه بالشكلية وفقر المضمون مقارنة باستمرار قوة الممانعة". يرجع عرابي اسباب الفجوة بين ما يسميه نسقي القيم التقليدية والعصرية الى عوامل عدّة كالبنية الأبوية، التخلف الثقافي، التنشئة الاجتماعية والعادات والتقاليد. هذه العوامل تعكس ازدواجية موقفنا من الحضارة الغربية التي نرغب في الاستفادة من منجزاتها معرفة واستهلاكاً، ونعزف عن تحمل تبعاتها الثقافية او التعامل الجريء مع تحدياتها الفكرية. وظاهرة الازدواجية والانفصام تتناولهما ليلى عبدالوهاب بالتحليل باعتبارهما سمتين ملازمتين للفكر العربي الحديث والمعاصر، مستعرضة التجربة التاريخية في مصر التي تمثل نموذجاً لصراع الثقافتين الحديثة والمحافظة. فتفسر صعود ما تعتبره فكراً سلفياً بمنطق الثنائية والتوفيق الذي وضع اسسه رواد التنوير والإصلاح، مشيرة انه يستجيب في العقدين الاخيرين لمصالح البرجوازية الكومبرادورية. وعند استعراضها أفكار قاسم أمين، تلاحظ ان قضية المرأة اليوم شهدت تراجعاً جلياً ساهم الخطاب الأصولي في ترسيخه وتبريره. فالتركيز على رفض الفساد الاخلاقي إدّى عملياً إلى حجب "التناقضات الاجتماعية والأسباب الحقيقية للتدهور والتخلف والتبعية". أما ظاهرة التراجع والنكوص في وضع المرأة، فيعالجها باقر سلمان النجار الذي يقرن ظاهرة الانحسار "نحو التشكلات القرابية التقليدية" بسيادة نمط من التحديث التابع والاستهلاكي منذ منتصف عقد السبعينات. فهذا النمط فرض قيماً لا تعبّر عن مشاغل العدالة والمساواة، وساهم في تصفية عدد من المنجزات التي حققتها قضية المرأة في مرحلة الخمسينات والستينات، أي المرحلة التي شهدت صعود المد القومي التحرري الهادف الى تنمية اقتصادية واجتماعية مستقلة. وتذهب دلال البزري في دراستها عن "المرأة في العمل الأهلي العربي" الى التشكيك بجدوى كل من خطابي التحديث الاستهلاكي الشكلي واللجوء الى التقاليد البالية، لأنهما برأيها يرتبطان بعلاقة تقوية متبادلة لتشويه قضية المرأة، وتعميق ازمة التحول والتنمية في مجتمعاتنا. فإذا كانت قضية المرأة لا تنفصل عن تأمين الحريات العامة، فإن مواجهتها تحديداً تتطلب اثارة "نقاش تنيره كتابات جديدة، تتبنى الواقع المجتمعي وتراثه خلفيةً للنهوض بالتقليد من وظيفة تسويغ هذا الواقع.. الى وظيفة تشريع تغييره". وتشير في هذا الصدد الى كتاب "الحريم السياسي" لفاطمة المرنيسي، وكتابات الشيخ محمد الغزالي. وإلى جانب العرض الشامل للأوضاع والمشاكل التي تواجهها قضية المرأة العربية، يفرد الكتاب ثلاث دراسات لحالات قُطرية، وذلك من باب كشف جوانب الاختلاف والتشابه. ويكاد الجانب الاخير يطغى رغم تنوع السياقات وتفاوت مستويات التطور من مكان الى آخر، لهذا تنحو المقترحات المقدمة لمعالجة القضية منحى واحداً: ضمان حق التعليم والعمل وفسح فرص اوسع لمشاركة المرأة في الحياة الاقتصادية والسياسية، وإعادة النظر في التشريعات والمفاهيم السائدة لكي تتمتع المرأة فعلياً لا اسمياً بحقوقها كإنسان وكمواطنة. وهذه مبادئ عامة لا يعني الاتفاق عليها افتراض نموذج جاهز، لأن الجواب الأخير، من زاوية التحليل الاجتماعي، يتشكل عبر صيرورة تاريخية تتناوب فيها لحظتا التحقق والتأجيل، والتكرار والمغايرة. وما الحداثة التي تجابهنا دوماً بأسئلة الهوية والوجود، الا هذا الأفق المفتوح