بعد تسع جولات من المحادثات الفوقية من وراء الكواليس، انتخب البرلمان الروسي الجديد عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي غينادي سيليزنيوف رئيساً لأربع سنوات. وصعد سيليزنيوف لرئاسة البرلمان هذه المرة على أكتاف كتلة الكرملين التي امتنعت عن ترشيح من قد يمثلها ضده. وكان قد صعد المرة السابقة بتأييد من الأكثرية الشيوعية واليسارية. إلا ان الشيوعيين اليوم لا يشكلون أكثرية، مما جعل الرأي العام في روسيا يدهش لتطور الأحداث على هذا النحو المثير. وجرى انتخاب مرشح الشيوعيين صورياً في الواقع بعد ان بقي وحده في الساحة، اذ انسحب في آخر لحظة باقي المرشحين، وبينهم رئيسا الوزراء السابقان يفغيني بريماكوف وسيرغي ستيباشين، احتجاجاً على "التواطؤ الديكتاتوري" بين الكرملين والشيوعيين، على حد تعبير بريماكوف الذي تكلم من المنصة منفعلاً للغاية. ولم يضبط آخرون أعصابهم فقاطعت الجلسة أربع كتل برلمانية من أصل تسع تشكل ثلث البرلمان وتمثل 20 مليون ناخب، وبينها كتلة اتحاد القوى اليمينية بزعامة سيرغي كيريينكو رئيس الوزراء السابق المؤيد لرئيس الجمهورية المرشح فلاديمير بوتين. إلا ان النصاب ظل مكتملاً، فبقي في القاعة 294 نائباً من أصل 440. وانتخب سيليزنيوف بإجماع الحاضرين 285 صوتاً. وكانت حصة الشيوعيين من الحقائب البرلمانية ال26 تسع لجان أساسية، وحصة "دببة الكرملين" سبع لجان، فيما خصصت لكتلة بريماكوف لجنة ثانوية واحدة رفضها رئيس الحكومة السابق في الحال. ونتيجة لهذه التطورات تبدل اصطفاف القوى جذرياً في البرلمان وربما في البلاد، وحدث انعطاف من يمين الوسط الى يساره، فقد كان المتوقع ان تتعاون القوى اليمينية مع الكتلة السلطوية في مواجهة تعاون بريماكوف مع الشيوعيين. الا ان العكس هو الذي حصل. واتفق كيريينكو ويافلينسكي وبريماكوف على تشكيل مجلس تنسيقي في البرلمان قد يؤدي الى ائتلاف كبير نسبياً ضد "الدببة - الشيوعيين"، والى تأييد مرشح واحد لرئاسة الجمهورية، قد يكون يافلينسكي، اذ يبدو ان بريماكوف لن يرشح. ويبدو ان تأييد الكرملين لمرشح الشيوعيين لرئاسة البرلمان جاء نكاية بالسياسي المخضرم بريماكوف مرشح كتلة "الوطن الأم" النيابية زعيمها خارج البرلمان محافظ موسكو يوري لوجكوف. وبالطبع ثمة حسابات أبعد من النكاية والثأر، فالكرملين لم يعد يخشى الشيوعيين بعد ان بقي نفوذهم على مستواه طوال الفترة الأخيرة. ويستبعد ان يتمكنوا من العودة بالبلاد الى عهد الاتحاد السوفياتي البائد. اما الخطر الاساسي الذي يتهدد الكرملين فينبعث من حركة لوجكوف البيروقراطية وبريماكوف ضمناً. فلو ان بريماكوف تحالف مع زعيم الشيوعيين غينادي زيوغانوف في الانتخابات الرئاسية لخلق صعوبات جدية أمام بوتين، خصوصاً اذا تضاءلت شعبية هذا الأخير بسبب الاخفاقات المتوقعة على الجبهة الشيشانية. وكان ثمة احتمال آخر يتمثل في ان يتفق الكرملين مع بريماكوف على انتخابه رئيساً للبرلمان، شرط ان يتخلى عن المشاركة في الانتخابات الرئاسية، فيضمن لبوتين الفوز من الجولة الأولى. الا ان بوتين نفسه كذب رسمياً هذا الخبر، وقال ان الكرملين لم يجر محادثات مع بريماكوف في هذا الشأن. وهكذا جاء انتخاب مرشح الشيوعيين لرئاسة البرلمان بمثابة آخر ضربة لحركة لوجكوف - بريماكوف قبل الانتخابات الرئاسية المقرر اجراؤها في 26 آذار مارس المقبل. فقد ألغى تعاون الكرملين مع الشيوعيين احتمال التحالف بين بريماكوف وزيوغانوف أو جعله غير منطقي على أقل تقدير. أما رئيس البرلمان سيليزنيوف فسيكون، في أغلب الظن، طوع بنان رئيس الجمهورية بالوكالة بوتين، لا سيما بعد ان خسر انتخابات عمدة منطقة موسكو قبل اسبوعين واهتز وضعه على المسرح السياسي. ولعل الكرملين أراد من وراء النقلة البرلمانية المثيرة ان يقهر بريماكوف من خلال الالتفاف على الشيوعيين. الا ان اليمين، خصوصاً كيريينكو، لم يستوعب في ما يبدو تكتيك الاحتواء والتحييد الذي يطبقه الرئيس بوتين، فالأخير لم يتخل بعد عن الليبيرالية اليلتسنية، لكنه يسميها الليبيرالية المعتدلة