زيادة طفيفة لتبرئة إسرائيل    بطولة العالم للراليات بالمملكة ل10 سنوات    المنطقة الشرقية: القبض على 5 أشخاص لترويجهم 1.7 كيلوغرام «حشيش»    وزير الأوقاف اليمني ل«عكاظ»: نثمن دور المملكة في التسهيلات المقدمة للحجاج اليمنيين    الجمهوريون يؤيدون ترمب حتى بعد حكم الإدانة    برلمانية مصرية: استئناف «جلسات الحوار» يعزز الاصطفاف الوطني لمواجهة تحديات الأمن القومي    متنزه جدر يحتضن محبي الطبيعة    البيئة تفسح 856 ألف رأس ماشية    اختتام مبادرة «حياة» للإسعافات الأولية بتعليم عسير    أمير القصيم يرعى جائزة إبراهيم العبودي.. ويُطلق «الامتناع عن التدخين»    وزير الداخلية يلتقي أهالي عسير وقيادات مكافحة المخدرات ويدشن مشروعات جديدة    د. السند يطلق مشروع الطاقة الشمسية بالأيواء    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالسويدي يُنهي معاناة «تسعينية» مع ورم سرطاني «نشط» بالقولون    اكتشاف تابوت أقوى فرعون بمصر القديمة    أمير الرياض يهنئ بطل الثلاثية    إنقاذ حياة حاج تعرض لنزيف حاد نتيجة تمزق للشريان بالمدينة المنورة    السعودية تدين محاولة إسرائيل تصنيف الأونروا منظمة إرهابية    صلاح يدعم صفوف منتخب مصر في وجود المدرب حسن للمرة الأولى    1.6 مليون مقعد على قطار الحرمين استعدادا لحج 1445    الشؤون الإسلامية في جازان تُنهي الدورة العلمية في شرح كتاب الحج    فلكية جدة: اليوم بداية موسم الأعاصير 2024    بَدْء المرحلة الثانية لتوثيق عقود التشغيل والصيانة إلكترونياً    شراكة بين المملكة و"علي بابا" لتسويق التمور    فتح التسجيل بمعرض الرياض الدولي للكتاب 2024    ترحيل 13 ألف مخالف و37 ألفاً تحت "الإجراءات"    "نزاهة": توقيف 112 متهماً بقضايا فساد في 6 وزارات    منظومة النقل تطلق الدليل الإرشادي للتنقل في موسم الحج    بدء تسجيل الطلبة الراغبين في الالتحاق بمدارس التعليم المستمر    المطيري يتلقى التهاني بتخرج «لين»    تفعيل اليوم العالمي لتنمية صحة المرأة بمكتب الضمان الاجتماعي    التقليل من اللحوم الحمراء يُحسِّن صحة القلب    تقنية جديدة من نوعها لعلاج الأعصاب المقطوعة    «الداخلية»: القصاص من مواطن أنهى حياة آخر بضربه بآلة حادة        "إعمار اليمن" يضع حجر الأساس لمشروع تطوير وإعادة تأهيل منفذ الوديعة البري    اتحاد التايكوندو يختتم نهائي كأس السوبر السعودي    ‫الابتسامة تستقبل حجاج العراق في منفذ جديدة عرعر    قمة سويسرا.. إنقاذ خطة زيلينسكي أم تسليح أوكرانيا؟    تدشين أول رحلة طيران مباشرة من الدمام إلى النجف في العراق    بونو: الهلال أكثر من فريق.. وقدمنا موسماً استثنائياً    فيصل بن فرحان يتلقى اتصالاً هاتفياً من وزير الخارجية الأمريكي    بن نافل: العمل في الهلال يأخذ من حياتك    جامعة الطائف ترتقي 300 مرتبة بتصنيف RUR    جهود مُكثفة لخدمة الحجاج في المنافذ    زلزال بقوة 5.9 درجات يضرب جنوب غرب الصين    رياح نشطة مثيرة للأتربة والغبار على مكة والمدينة    45 شاباً وشابة يتدربون على الحرف التراثية في "بيت الحرفيين"    الإعلان عن إطلاق معرض جدة للتصميم الداخلي والأثاث    سفير المملكة لدى اليابان: العلاقات السعودية اليابانية خلال السبعين السنة القادمة ستكون أكثر أهمية    مدينة الحجاج بحالة عمار تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    أسعار النفط تتراجع قبيل اجتماع "أوبك+"    بونو يُبكّي رونالدو بْزَّاف    أمر ملكي بالتمديد للدكتور السجان مديراً عاماً لمعهد الإدارة العامة لمدة 4 سنوات    وزير الداخلية يدشن مشاريع أمنية بعسير    ثانوية ابن باز بعرعر تحتفي بتخريج أول دفعة مسارات الثانوية العامة    وزير الداخلية للقيادات الأمنية بجازان: جهودكم عززت الأمن في المنطقة    الأمير فهد بن سلطان: حضوري حفل التخرُّج من أعظم اللحظات في حياتي العملية    عبدالعزيز بن سعود يلتقي عدداً من المواطنين من أهالي عسير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عاشت سنواتها ضائعة بين آلامها وآمالها وحبها لدييغو الخائن . فريدا كاهلو : أم إبنها في عمر أبيها ، وتروتسكي عشيقها العبر
نشر في الحياة يوم 02 - 08 - 1999

لم يشتهر القرن العشرون بكونه عصر الحب، إلا على شاشات السينما، وفي الروايات. ومع هذا شهد القرن الغابرحكايات حب عاشها مشاهير. ابتداء من هذا العدد تنشر "الوسط" على حلقات عدداً من هذه الحكايات لنعرف ما الذي منها كان حباً حقيقياً، وما الذي كان ترتيباً اختبأ خلف ستار الحب. وما الذي كان مجرد غرام صنعه الاعلام أو مكاتب حياكة النجوم. ونبدأ بحكاية الرسامة المكسيكية فريدا كاهلو وغرامها بالرسام دييغو ريفيرا. والمناسبة: الفيلم الذي ستدخل الممثلة المكسيكية من أصل لبناني، سلمى حايك، الاستوديوهات قريباً للتمثيل فيه، وهو يحكي تحديداً حكاية فريدا كاهلو وآلامها وحبها للمكسيك وللناس وخصوصاً لدييغو الذي كان يكبرها بعشرين سنة وكانت هي تشعر أنها أمه... والأرض التي انبتته.
المكان: مكسيكو.
الزمان: ربيع العام 1953.
سيارة الاسعاف تقترب من "رواق الفن المعاصر" المعتبر في ذلك الحين من اهم معاقل الفن الحديث في المكسيك. داخل سيارة الاسعاف امرأة تقترب من عامها الخمسين. المرأة ممددة فوق سرير السيارة، تعاني كما هو واضح آلاماً لا تطاق، لكنها مع ذلك تصر على الابتسام، وتنظر من نافذة السيارة متلفهة للوصول. ثيابها تشي بحس استعراضي رائع: ثياب ملونة أنيقة تبدو منتمية الى حضارة الازتيك. والزينة عشرات الأساور والعقود والخواتم. المرض والألم لم يمنعا تلك السيدة من أن تعتني بنفسها كل تلك العناية. ومع هذا كانت تعرف جيداً، ان الاطباء سوف يقطعون ساقها اليمنى بعد أيام قليلة. ولكن ما أهمية ذلك كله، والرجل الذي تحبه معها يحيطها بكل عناية وحب. ترك أعماله كلها لينظم لها ذلك المعرض الذي كان اول معرض فردي لاعمالها. واعمال السيدة لوحات غريبة مريرة، شديدة التعبير، كثيرة الألوان. معظمها له موضوع واحد: تلك السيدة نفسها، وحبها للرجل الذي ملأ حياتها طوال أكثر من ربع قرن. علمها كيف تحب وكيف ترسم وكيف تناضل. علمها كيف تحب الحياة الى درجة ان آخر لوحة رسمتها وهي تحتضر، كان عنوانها "تحيا الحياة"...
اسمها فريدا كاهلو. مكسيكية. غريبة الاطوار. عميقة الحب.
أما الرجل فاسمه دييغو ريفيرا. رسام مكسيكي ربما لم تعرف المكسيك فناناً أكبر منه في القرن العشرين. لكنه هو كان يرى في نفسه مناضلاً، قبل أن يكون رساماً. وكذلك كان حالها. لقد كان النضال ما جمعهما، هما اللذان كان من الصعب جداً تصور اجتماعهما يوماً. فهما حين التقيا للمرة الأولى في العام 1927 لتريه رسومها وتأخذ رأيه باعتباره رساماً كبيراً وشهيراً، وكان في ذلك الحين عائداً لتوه من أوروبا، كانت هي في العشرين وكان هو في الأربعين. على الفور استبد بها حب له، وشعرت في اللحظة نفسها أنهما سيكونان معاً الى الأبد. ومع هذا لم تكن هي امرأة عادية، وما كان هو أيضاً بالرجل العادي. كان قبيحاً، ثقيل الظل، مدمناً على الخمر، لا يؤمن بشيء. أما هي فكانت امرأة رقيقة جميلة على سجيتها، صهرتها الحياة ودمرت جسدها. فهي منذ طفولتها اصيبت بشلل الأطفال. وكأن هذا المرض الذي ترك لديها آنذاك عرجاً خفيفاً، لم يكن كافياً، فإذا بها وهي صبية تقع ضحية حادث سير حين ضرب ترامواي، باص المدرسة الذي تستقله فدخل قضيب معدني من تحت خاصرتها وخرج من أعلى فخذها.. فإذا اضفنا الى هذا اهتزازاً حاداً في العمود الفقري وفي الحوض والقدم اليمنى، سيكون في امكاننا ان نتخيل ان الفتاة، حتى ولو أنها بقيت على قيد الحياة، ستظل معوقة.
وبالفعل ظلت فريدا على الدوام تعاني من تلك التشوهات، لكنها كانت انثى ذات ارادة استثنائية، وذات حب للحياة ما بعده من حب: تغلبت على آلامها، وعاشت على رغم العمليات الجراحية العديدة التي اجريت لها. بل أحبت الكون والناس أكثر، وتنبهت الى أصولها الأزتيكية، ناهيك بانتمائها الى أوروبا الوسطى عن طريق أبيها. وتعويضاً عما أصابها، اخترعت لنفسها عالماً عبر الرسم الذي راحت تتفنن في ممارسته. فإذا بها لوحة بعد لوحة، ترمي على المسطحات البيضاء ألواناً تعبر عن علاقتها مع جسدها وآلامها. وكانت في العشرين، ايضاً، حين انضمت الى "الحزب الشيوعي المكسيكي كوسيلة للنضال وتحقيق الذات" كما ستقول في يومياتها، ووسيلة لمواصلة الثورة المكسيكية الزاباتية نسبة الى الثائر زاباتا، الذي كان أشعل المكسيك كلها في ثورة ضد الأميركيين الشماليين، تسير على نمط العدالة الاجتماعية الآزتيكية.
وكانت هذه حال فريدا حين التقت دييغو ريفيرا، هو الذي كان في ذلك الحين بلغ أقصى درجات الشهرة والمجد، كواحد من أبرز صانعي اللوحات الجدارية. هو الآخر كان يستلهم الحضارة الآزتيكية في اعماله الضخمة التي كانت تحض على الثورة. وهو الآخر كان عضوا في الحزب الشيوعي المكسيكي.
في العام 1929 تزوجا. ومنذ زواجهما اهتم هو بأن يرعى موهبتها الفنية واهتمت هي بأن تخلص له وتنمي الحب بينهما. أحبته كثيراً، وهي سوف تعبر عن ذلك، في كل لوحة من لوحاتها، وفي يومياتها. ولكن خصوصاً في خوفها الدائم من أن يتركها. كان الرجل، على قبحه، يعتبر نفسه زير نساء. وكان يدخل مغامرة بعد مغامرة. وكان ادمانه على الخمر لا يطاق. لكنها كانت مستعدة لأن تغفر له كل هفواته وكل مغامراته. وبعد ذلك بعام، سافر الاثنان الى سان فرانسيسكو حيث أقاما أربع سنوات زارا خلالها المكسيك مرات عديدة. في سان فرانسيسكو، التي كانت في ذلك الحين مركزاً فنياً وثقافياً كبيراً، تألق نجم الزوجين، خصوصاً وانهما كانا يتعمدان اثارة الصدمة، بطريقة مسرحية، لدى كل من يقابلانه. وهكذا، بسرعة أصبحا أشهر فنانين اجنبيين في المدينة. هي تألقت عبر لوحات عديدة حققتها، منها ما يجمعها في لوحة واحدة مع دييغو، ومنها ما تصور فيه آلامها واحباطات جسدها، ومنها ما تعود فيه الى مشاهد ولادتها. كان فناً غريباً فنها. لكنه كان فناً تعبر من خلاله، في ذلك الحين، عن محاولتها قهر آلامها التي كانت تشتد بلا هوادة، في الوقت نفسه الذي تعبر فيه عن حب لدييغو لا يفتر. ولعل أشهر لوحات تلك الحقبة "صورة العرس" التي تصورهما معاً، هو يمسك يدها بيده اليسرى ولوحة الوانه والفراشي باليد اليمنى. وهي سعيدة متسائلة قلقة ترتدي الشال المكسيكي والعقود الآزتيكية .
أما هو فراح يرسم لوحات جدرانية ضخمة مليئة بمواضيع "الواقعية الاشتراكية"، ولكن لحساب مؤسسات صناعة السيارات. وكان هذا الأمر في حد ذاته صدمة للعقلية الأميركية: المواضيع التي ارتبطت بالفنون الاشتراكية الشيوعية يفرضها رسام مكسيكي مناضل واستفزازي على قلب العالم الرأسمالي. لكن الزوجين لم يباليا: هو لم يتوقف عن رسم تلك الجداريات، حتى وان "ضحى" ذات مرة وانتزع صورة تمثل لينين من واحدة منها !، وهي لم تتوقف عن تشبيه الأميركيين الشماليين ب"أرغفة خبز لم يتم خبزها كما يجب"، فيما وصفت عماراتهم الكبيرة بأنها أشبه بأقفصة دجاج. وكانت فريدا ترتدي على الدوام تلك الملابس المكسيكية - الآزتيكية التقليدية التي كان دورها مزدوجاً: من ناحية تستفز العقل الأميركي وتظهر اختلافها عنه ومعه، ومن ناحية ثانية تخفي، بفضل اتساع الثياب وبهرجها، ما في جسدها المتألم من عيوب. فالحقيقة ان جسد فريدا كان كله عيوباً، كما أشرنا. وكان ارعب ما يرعبها ان تنتهي تلك العيوب الى إثارة اشمئزاز دييغو منها.
هل كان يحبها؟ كان همها الكبير في الولايات المتحدة ان يبقي دييغو على حبه لها، وان تواصل هي الاستمتاع بحبها له.
هل كان، هو، يحبها؟ ان قراءتنا يوميات فريدا كاهلو، التي نشرت بعد رحيلها، تكشف لنا ان خوفها الدائم على دييغو كان له ما يبرره. خصوصاً انها عجزت عن ان تحمل بالطفل الموعود. لقد حملت مرات عدة، لكنها دائما تضطر الى الاجهاض بسبب أوضاعها الصحية. اطباؤها كانوا ينصحونها بعدم الحمل. ودييغو نفسه كان لا يخفي عنها انه لا يحب الأطفال. لكنها كانت تريد طفلاً. وفي ثنايا تفكيرها كانت تعتقد انه لن يعزز علاقتها مع دييغو ويؤيدها سوى وجود الطفل. كان دييغو هو هاجسها الاول والاخير. لم تحب غيره، وان كان هو أقام علاقات شتى. في البداية كانت تغفر له مثل تلك العلاقات. كانت تقول لنفسها "انها نزوات فنان"، لكنها مع الوقت أخذت تخشى ذلك بشكل جدي.
كان دييغو يحب فيها شخصيتها، وكان حقاً يحب فنها. ولعل ما جذبه اليها منذ البداية، اضافة الى شبابها وشخصيتها وأصالتها، كان فنها. ودييغو رأى دائماً ان فنها وفنه يتكاملان. هي بلوحاتها الشاعرية التي تتمحور من حول ذاتها وحوله، كانت تعبر عن قلق الروح المكسيكية، كما تعبر عن اصالة هذه الروح من خلال دمجها لعناصر الطبيعة والأزياء الأصيلة في اللوحات. وهو بلوحاته الضخمة كان يعبر عن الواقع والمستقبل. والعبارة التي قالها عنها يوماً ذات دلالة عميقة: "ان لعينيها قوة المجهر، ولعقلها قوة آلة تصوير اشعة إكس".
في الحقيقة ان ما كان يغلب على لوحات فريدا، مشاهد الدموع والدماء. كان ما تعبر عنه اجنحة محطمة ووجوداً مريضاً، لكنها في الوقت نفسه كانت تصر على أن تعبق لوحاتها بالتفاؤل. من هنا حين زار اندريه بريتون زعيم السوريالية المكسيك وتعرف على دييغو وعلى فريدا عن قرب، قال عن لوحات السيدة انها "أشبه بقنابل ملفوفة بشريط براق". وافقت هي على هذا، لكنها حين قال بريتون انه يرى أن فن فريدا فن سوريالي انتفضت غاضبة قائلة ان فنها ليس فناً سوريالياً بأية حال من الأحوال. فنها فن انساني يحاول أن يرسم لمشاهده طريق أمل وتفاؤل بالمستقبل. وفنها فن واقعي نابع من أرض المكسيك وحضارتها. وثمة رجل واحد بامكانه ان يفهم فنها ويقدره. وهذا الرجل ليس سوى دييغو ريفيرا.
ولئن كان دييغو قد خانها طويلاً وهي ساكتة راضية تنعم ب"دفء حنانه" حسب تعبيرها في يومياتها، فقد كان لا بد لها أخيراً من أن ترد الصاع صاعين. وصاعين بالمعنى الحرفي للكلمة: عاطفياً وسياسياً. ففي العام 1937 وصل الى المكسيك بعد ان نفي من الاتحاد السوفياتي وطورد في تركيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية، قائد الجيش الأحمر الروسي وأحد كبار رفاق لينين، ليون تروتسكي. ولما كان تروتسكي الذي وصل في رفقة زوجته ناديا، صديقاً لأندريه بريتون، فقد أوصاه هذا أن يتعرف على دييغو وفريدا. وبالفعل التقى تروتسكي الزوجين. لكنه لم يشعر بأي تعاطف مع دييغو، الذي تبدى له منذ البداية مناصراً لستالين، حتى وان كان يصر على انتقاد ما يسميه ب"هفوات" زعيم الكرملين الصغيرة. جرائم ستالين لم تكن بالنسبة الى دييغو أكثر من هفوات. والنتيجة: تروتسكي لا يستسيغ دييغو، لكنه في المقابل يستسيغ فريدا.. وأكثر. فهذه اذ رأت لدى تروتسكي كل ذلك الاهتمام بها، وإذ أحست ان الوقت حان لتوجيه رسالة الى زوجها الضال، وإذ بهرت بشخصية رفيق لينين، واحد القلة الباقية على قيد الحياة من زعماء الثورة البولشفية، انجذبت الى تروتسكي تدريجاً واقامت معه علاقة غرامية. وكان الأمر كله، بالنسبة اليها أشبه باللعبة الصبيانية. لم تكن قادرة على التفكير في أن انكشاف تلك العلاقة لدييغو سيحرمها من هذا الأخير. وبالفعل، حين علم دييغو بالأمر، نسي كل ما اقترفه هو في حق فريدا، و... طلقها. حزنت كثيراً، لكنها غالبت حزنها، بل ربما تغلبت عليه عن طريق افراغ شحناته في لوحات رسمتها في ذلك الحين، وأشهرها لوحة "الذاكرة" أو "الفؤاد" التي رسمتها في عام الفراق نفسه، وتمثل نفسها، بشعر قصير والدموع تملأ عينيها وقد اخترقت عصا قلبها المرمي على الأرض ينزف دماً. كانت اللوحة تقول كل شيء. لكنها هي لم ترج دييغو ان يعود، بل راحت ترسم وترسم وسافرت في جولة الى أوروبا، ولا سيما الى باريس حيث استقبلت بكل حماس، ورتب مارسيل دوشان، معرضاً لرسومها. وحين كانت في باريس وصلها من دييغو أن الطلاق سوف يتم بصورة رسمية في تشرين الثاني نوفمبر من ذلك العام.
في العام التالي شاركت فريدا، وكانت صارت ذات نشاط عجيب، في معرضين كبيرين في مكسيكو سيتي. وبعد نجاح المعرضين سافرت الى سان فرانسيسكو لاستشارة طبيبها بعد أن تفاقمت حالها، وصارت اضافة الى ذلك مدمنة على الكحول، ولا سيما بعد أن جرى اغتيال تروتسكي من قبل عملاء ستالين وسيرى كثيرون أن دييغو كان ضالعاً في ذلك الاغتيال. وفي سان فرانسيسكو التقت فريدا دييغو من جديد. ومن جديد عاد الوئام بينهما وتزوجا.
منذ ذلك الحين وحتى آخر أيامها ستظل فريدا مع دييغو، وستموت في النهاية بين يديه. اما هو فإنه بعد شهور من عودتهما، عاد الى الشرب والى العلاقات الغرامية من جديد، وعادت هي ترسم وتكتب معبرة عن خوفها عليه، ومن نقده. وكانت ذروة ذلك الخوف في العام 1949 حين تناهى الى سمعها ان دييغو ريفيرا، الذي كان اتسم أمامها مرات عديدة، على الوفاء والاخلاص، مرتبط بعلاقة مع الممثلة المكسيكية الشهيرة ماريا فيليكس وان هذه العلاقة قد تنتهي بالزواج. هنا جنت فريدا، التي كانت صحتها متدهورة الى حد بعيد، وعبرت عن خوفها وجنونها في لوحة "دييغو وأنا" التي رسمت فيها وجهها مليئاً بالحزن وعينين مغرورقتين بالدموع فيما رسمت وجه دييغو فوق جبينها بعين اضافية.
في تلك الآونة كانت فريدا قد بدأت تشعر بدنو أجلها. كانت تشعر انها باتت أكبر من دييغو سناً بكثير. صارت في مشاعرها ممتزجة بالارض والحضارة المكسيكيتين أكثر وأكثر. صارت أشبه بأم لدييغو، تحضنه، تخاف عليه وتغفر هفواته. وهي عبرت عن هذا الأمر في واحدة من أشهر وأغرب لوحاتها "عناق الكون، الأرض، دييغو، أنا، والسيد كسولوتل". في هذه اللوحة جمعت فريدا عوالمها كلها ومزجتها معاً: الأرض، الحب، الحضارة المكسيكية ممثلة بسمكة كسولوتل التي يقال انها لا توجد إلا في المكسيك وشخصها علاوة عن ذلك.
الدموع والآلام، ولكن ايضاً الايمان الدائم بانتصار الحب والأرض، تلك هي العناصر التي تكونت منها حياة فريدا خلال السنوات الأخيرة التي سبقت لحظة موتها. وهي على رغم آلامها وأحزانها، وعلى رغم خوفها الدائم من دييغو وعليه، كانت تصر على حب الحياة. كان اليأس نفسه لديها، يختفي أزماناً طويلة ليخلي مكانه لظمأ الى الحياة لا يرتوي. في الوقت نفسه كانت غالباً ما تساورها فكرة الانتحار، لكن حبها لدييغو وحبها للمكسيك كانا وحدهما يردعانها عن ذلك.
ومهما يكن من أمر، واضح انها منذ بداية الخمسينات راحت تعتاد على فكرة اقتراب موتها. حيث ان الآلام راحت تشتد عليها فكتبت في يومياتها: "آمل ان يكون الخروج قريباً، وآملا ألا أعود ابداً".
ان وضع فريدا في عاميها الأخيرين دفع الكثيرين ومن بينهم دييغو نفسه الى التساؤل: الى أية درجة يمكن للكائن البشري ان يحتمل كل هذه الآلام، ان يعايشها ويسيطر عليها ويستكشفها؟
لوحات فريدا الأخيرة حملت الجواب عن هذه الأسئلة. اذ كانت لوحات عابقة بالامتنان لاطبائها. مليئة بمنتجات الأرض المكسيكية الى كونها تحمل ألواناً مشعة بالفرح والحياة. أفلم نذكر سابقاً يا ترى ان لوحتها الأخيرة التي أتت تمثل قطع بطيخ أخضر، تحمل عبارة "تحيا الحياة"؟!
في النهاية، كان لا بد لفريدا كاهلو ان ترحل، على رغم عشقها للحياة، وعلى رغم حنو دييغو عليها في أيامها الأخيرة. رحلت هادئة مبتسمة، بعد أن رتب لها دييغو أول معرض فردي لأعمالها في مكسيكو سيتي. رحلت بين أحضان دييغو وهي تستحلفه أن يحبها الى الابد. وألا يخونها بعد الآن. وعدها هو بذلك. هي كانت في السابعة والأربعين. وهو كان في السابعة والستين. رحلت يوم 13 تموز يوليو 1954، بعد ان قامت قبل ذلك بثلاثة أشهر بالتظاهر من أجل غواتيمالا ضد التدخل الأميركي فيها وهي على كرسي نقال. يومذاك كانت تشع حياة وحبوراً.
أما دييغو ريفيرا، فإنه لم يعش طويلاً بعدها: بالكاد عاش أربعة أشهر، اذ قضى يوم 24 تشرين الثاني نوفمبر من العام نفسه. وهكذا انطوت حكاية غرام غريب، ومات رسامان كبيران، من أكبر رسامي المكسيك. وولدت منذ ذلك الحين اسطورة فريدا كاهلو، التي لن يكتشفها العالم الخارجي الا بعد عقود طويلة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.