مثلما أعلن عالم الاجتماع الأميركي فرنسيس فوكوياما "نهاية التاريخ" بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وانتصار المعسكر الغربي على المعسكر الشيوعي، يعلن الكثير من المحللين الاقتصاديين، على عتبة قرن جديد، انتصار "تجارة المال والخدمات" على الصناعات الثقيلة وكل مكوناتها، من مواد أولية وتصنيع وعمال وما يتبعها من هيكلية "اقتصاد القرن الماضي". ولا يتردد المحللون العاملون في أبرز المنظمات الدولية، في اعلان انتصار "اقتصاد البورصة والتجارة الالكترونية" على "اقتصاد التصنيع". ويعتمدون بتحليلاتهم على دراسة تطور الاقتصاد الأميركي، وبشكل ثانوي اقتصاد بريطانيا، معتبرين أن التحولات الجذرية في هيكلية اقتصاد الدول المتقدمة بُنيت وتطورت في السنوات العشر الأخيرة، بشكل يجعل هيكليتها مرتبطة بهيكلية تجارة الخدمات المالية وفي الدرجة الأولى أعمال البورصة والتجارة الالكترونية. ولمّا كانت تجارة الخدمات تشهد ازدهاراً متواصلاً يرفع معدلات النمو في تلك الدول النامية بشكل مستمر، ويغيّر أطر التعامل الاقتصادي وهيكليته بشكل جذري، ينتهي هؤلاء الخبراء الى الفصل بأن مسار الاقتصاد العالمي قد تحول في خطه من تبعية الصناعات الثقيلة وتجارة المواد الأولية، الى هذا النمط الجديد من الاقتصاد المبني على عامل "القاعدة المالية للتجارة الفرضية". وأفضل مثال على هذا الاقتصاد نجاح البورصة والثروات التي يمكن تكديسها من جراء المضاربات في البورصة. ومما يسمح لدعاة هذه النظرية بتوسيعها لتطول كل أوجه الاقتصاد العالمي، أن البورصة باتت تُمسك بالكثير من العوامل الاقتصادية التي تكوِّن قاعدة الاقتصاد العالمي. والأمثلة على هذا كثيرة، فديون الدول الغنية والفقيرة أصبحت "أوراقاً" تتعامل بها البورصة مثل باقي الأوراق المالية، إذ يلعب العرض والطلب دوره في تحديد ثمن حسمها وبالتالي تتحدد من خلال سعرها ملاءة الدول، أي قدرتها على الاستدانة من الأسواق المالية العالمية، وبالتالي التحكم ببرامج نموها الاقتصادية والاجتماعية على المدى المتوسط والطويل. وينسحب هذا الوضع على المواد الأولية، فعلى رغم أن عامل العرض والطلب من قبل الصناعات التي تستخدم هذه المواد، يفترض أن يكون هو الذي يحدد أسعارها في البورصات العالمية، إلا أن "الوفرة النقدية" التي توفرها الأوراق المالية "الفرضية" في يد المتعاملين في البورصة، تجعل من هؤلاء الحَكَمْ النهائي لأسعار هذه المواد الأولية، وذلك بخلاف الصناعيين المرتبطين ببرامج تصنيع تحكمها قدرة السوق على استيعاب منتوجاتهم. اضافة الى أن الصناعة بكل أشكالها مسؤولة أمام المصارف والمنظمات المالية المدينة لها برؤوس أموال ضرورية للمحافظة على تقدمها التكنولوجي. أما التجارة الالكترونية فهي "الحلقة الأخيرة" التي أُغلقت بواسطتها سلسلة السيطرة على الاقتصاد العالمي. وهي تلعب الدور الذي أرادت الصناعة في أوجها أن تعطيه لشبكات التوزيع الكبرى التي أسستها في مطلع السبعينات للامساك بكل مرافق البيع، "من المصنع الى المستهلك مباشرة". والتجارة الالكترونية تتجاوز هذه الشبكات بحيث تجعل الصناعة مرتبطة بها مباشرة، وتقطع صلة الوصل بينها وبين المستهلك. وفي المقابل انتفت أسس التجارة "التقليدية"، فالتجارة الالكترونية لديها حرية قصوى في كل ما كان يعتبر أسس التجارة في غابر الزمان. وأول هذه الأسس المكان، فالتجارة الالكترونية لا ترتبط بمكان معين جغرافياً، فهي تستطيع ان تنشأ وتتكون في أي بقعة في العالم، طالما ان ارتباطها مع المستهلك يتم عبر شاشة الكومبيوتر أو عبر خط الهاتف. وفي المقابل فهي غير مرتبطة بمورد معين أكان ذلك من ناحية الموقع الجغرافي أم من ناحية الجنسية، ان لم تصنع بشكل مجزأ في دول متعددة، وتجمَّع في دول مختلفة... طالما أن المواصلات الحديثة توفر السلعة للمستهلك حيثما كان. وتدخل "صناعة الصورة"، من اعلان مباشر، أو اعلان غير مباشر مثل السينما وبرامج التلفزيون والبرامج الرياضية المنقولة عبر وسائل البث والصحافة، في خضم عمليات التجارة الالكترونية. فهي الوسيط الأول لايصال "الماركة" أو "الموضة" والترويج لها، وجعل المستهلك يطالب بها، ومن هنا امكانية التحكم وبرمجة الطلب الاستهلاكي، بحيث يتوافق مع العرض الصناعي. ان تطور وسائط الاتصال التي تشكل الركيزة الأولى للتجارة الالكترونية، وارتباط هذا التطور بكثافة التمويل، وقدرة عالية على الاستثمار، تجعلها الشريك الأمثل للبورصة في تكييف هيكلية الاقتصاد العالمي. ويعطي الداعون الى هذه النظرية مثالاً على صحتها ما يحصل لاقتصاد الولاياتالمتحدة بشكل خاص حيث تحتل الشركات المالية والمصارف وشركات التكنولوجيا الجديدة والتجارة الالكترونية المناصب الأولى في تعداد الشركات الأكثر ثراء والمنتجة لفرص العمل. ويعود لهذه الشركات الفضل الأول في كسر حدة البطالة في العديد من الدول . ومن هنا نشأت هذه النظرية التي بدأت تشق طريقها نحو العديد من مراكز التحليل الاقتصادي والمالي، وبعض الجامعات تحت اسم "الاقتصاد الجديد"، حتى انها بدأت تدغدغ قناعات بعض كبار المسؤولين السياسيين في دول كثيرة. لكن في المقابل يعترض كثيرون من الاقتصاديين "الكلاسيكيين" على هذه النظرية، ويدعون للتروي قبل تكريس نظريات تعتمد على احصاءات لا تشمل أرقامها أكثر من عشر سنوات، هي عمر هذه "الطفرة". وأول ما ينادي به المعترضون، هو أن ما ينطبق على الولاياتالمتحدةوبريطانيا، وحتى بعض الدول المتقدمة، لا ينطبق على بقية العالم، وبينها الكثير من الدول المتقدمة، بما فيها العديد من الدول الأوروبية. وما حدث في مؤتمر سياتل الأخير أفضل دليل على هذا التمايز. ثم أن التقدم التكنولوجي الذي يُفترض ان يرافق تطور التجارة الالكترونية، غير متوازن في دول العالم، خصوصاً الدول المستهلكة غير المصنعة. اضافة الى أن هذا "الاقتصاد الجديد" مبني على عوامل "غير اقتصادية" منها الثقة المطلقة وهي بعيدة عن أن تكون مضمونة "بشكل ثابت ومرتكز". ومن العوامل الأخرى المؤثرة لنجاح هذه النظرية الجديدة عامل "الاستمرارية والدوران". أي أن المطلوب استمرار تطور البورصة ونموها بشكل دائم، مما يسمح بدوران سيولة نقدية متزايدة، توفر بدورها النمو المستمر للتجارة الالكترونية. وهذا شيء غير مضمون. اذا توقفت المحركات! إلا أن بعض الخبراء يشدد على ان العوامل الهيكلية للاقتصاد العالمي لم تتغير، تغيرت فقط أشكال هذا الاقتصاد بفعل تطور تكنولوجيا التواصل ووسائط الاعلام وتقنية الكومبيوتر، وبين هؤلاء الخبراء البروفسور أندرو أوزوالد، أستاذ الاقتصاد في جامعة وارويك، الذي لا يود الذهاب بعيداً لدحض نظرية "الاقتصاد الجديد"، ويكتفي بسؤال بسيط: "ماذا يحدث إذا توقفت المصانع والمحركات التي تدير محطات بث ونقل المعلومات والتكنولوجيا الجديدة، وإذا انقطعت الكهرباء عن بورصات العالم؟". ويكمل مجيباً ببساطة أكبر: "الجواب هو أن اقتصاد العالم يتوقف!". ويستطرد أن الطاقة التي تدير كل وسائط الاقتصاد العالمي ستظل مبنية بشكل رئيسي على النفط حتى يثبت العكس، لذلك يبقى النفط العامل الأكبر والرئيسي في اقتصاد العالم. والصحيح هو أن تراجع البطالة في الدول المتقدمة، وارتفاع نسبة النمو في العالم يعود الى عوامل مرتبطة بأسعار النفط. فالاقتصاد العالمي يقطف اليوم ثمرة السنوات العشر الماضية، حين كانت أسعار النفط في أدنى مستوياتها. وتشير الاحصاءات الى هذا بوضوح، فإذا أردنا درس تطور البطالة في الولاياتالمتحدة مثلاً نجد أن الرسم البياني لمعدل البطالة يشكل صورة موازية للرسم البياني لمعدل أسعار النفط، أي ان ارتفاع أسعار المواد النفطية يقابله، في الفترة نفسها، ارتفاع معدل البطالة. وفي المقابل فإن تراجع أسعار النفط يقابله تراجع في معدلات البطالة. وينطبق ذلك على معدلات النمو. ان الاقتصاد العالمي يستفيد حالياً من التراجع السابق لأسعار النفط منذ نهاية حرب الخليج الثانية. ويتوقع العديد من المحللين الذين يوافقون على أهمية النفط الأولى في الاقتصاد العالمي، حتمية تراجع معدلات نمو الاقتصاد العالمي بعد فترة قصيرة، إذ أن أسعار النفط بدأت بالارتفاع منذ أشهر قليلة. ويؤكدون ان التصنيع الذي يظل العامل الأول في "صناعة الثراء"، يتأثر بصورة مباشرة بأسعار الطاقة. وكذلك الزراعة التي عادت الى صدارة اقتصاديات العالم، فهي تتأثر كذلك بأسعار النفط والطاقة التي تسير محركات الأدوات الزراعية والمصانع التي تعالج المواد الزراعية قبل تصريفها. وكذلك فإن النفط هو من السلع القليلة التي لا تتأثر بعوامل البورصة وبنزواتها المالية. فالاستثمارات في هيكلية الصناعة النفطية من التنقيب والاستخراج الى التوزيع مروراً بالنقل، ترتبط بقرارات سياسية أكثر من ارتباطها بقرارات مالية. وتساعد هذه الأهمية الثابتة للنفط على تفسير الكثير من التحولات على الساحة العالمية، والكثير من الأحداث والنزاعات. وليس من العجب أن الحرب الشيشانية عادت الى واجهة الأحداث غداة توقيع اتفاق نقل بترول حقول اذربيجان عبر جورجيا وتركيا خلافاً لما تتمناه روسيا، اضافة الى أن أحد أكبر أنابيب نقل النفط من شواطئ بحر قزوين يعبر الأراضي الشيشانية والجمهورية القوقازية هي جمهورية نفطية أيضاً. وكذلك فإن اهتمام الولاياتالمتحدة بتثبيت سلام دائم في منطقة الشرق الأوسط، يعود بشكل أساسي الى أنها تعتبر منطقة الخليج، أي المنطقة الأغنى بالموارد النفطية، مهمة لمصالحها العليا، ومن هنا فإن معالجة بؤرة التوتر تأتي في طليعة مصالحها. وقد يعطي هذا أيضاً تفسيراً للخطوة الكبيرة التي قامت بها "مجموعة السبع" الدول السبعة الأولى اقتصادياً وتسمى في بعض الأحيان مجموعة الثمانية حين تدعى روسيا الى حضور جلساتها قبل أيام حين دعت الى توسيع قاعدتها لتضم عشرين دولة بينها دولتان نفطيتان، هي المملكة العربية السعودية واندونيسيا. وندرك أهمية هذه الخطوة حين نعلم أن قرارات هذه المجموعة الاقتصادية - السياسية التي تمثل 85 في المئة من اقتصاد العالم أخذت تكتسب في السنوات الأخيرة وزناً يفوق وزن مجلس الأمن، ولا يتردد كثيرون بتسمية هذه المجموعة ب"مجلس إدارة العالم". من هنا نستطيع القول انه حتى يثبت العكس، وتكتشف طاقة جديدة، أو تخرج من ادراج المختبرات طاقة جديدة تحل مكان النفط، وتكون سهلة النقل والاستعمال، وغنية بموارد صناعية جانبية مثل البترول، فإن هذا الأخير يبقى مصدر الطاقة الأساسي الذي يحرك الاقتصاد العالمي ويدير محركات الكومبيوترات والصناعات الالكترونية وغيرها، بما فيها إنارة بورصات العالم.