الذين عاشوا نهاية الستينات وبداية السبعينات يتذكرون جيداً الشهرة الكبيرة التي اصابها المطرب السوري فهد بلان صاحب "واشرح لها" أو "جس الطبيب" أو "يا سالمة" الذي رحل في كانون الاول ديسمبر الماضي عن 64 عاماً بعد حياة حافلة. ولد الراحل في جبل الدروز مسقط رأس الفنان الكبير فريد الاطرش. كان اصغر افراد اسرته وعاش طفولة غير مستقرة حين وقع الطلاق بين والديه فذاق مرارة الحرمان. تفتحت موهبة فهد الغنائية في وقت مبكر وذهب به طموحه الى اقتفاء اثر فريد الاطرش وأخذ يقلد اغنياته في المناسبات الاجتماعية ومن ثم في حفلات الجيش أثناء تأديته الخدمة الالزامية. وعندما تقدم للاذاعة في العام 1959 رسبته اللجنة الفاحصة مرتين، مرة لأنه كان يرتعش من شدة الخوف وهو يغني اغنية فريد الاطرش "انا وانت لوحدنا"، والاخرى لانه ذهب الى الاذاعة باللباس الجبلي التقليدي وغنى "اوف يابو الزلف". اما في المرة الثالثة فقد نجح ومُنح لقب "مطرب محلي" اي مردد في كورس الاذاعة تحت اشراف المطرب الراحل رفيق شكري. ولم تكن المئة والخمسون ليرة التي يتقاضاها المطرب المحلي من الاذاعة تسمح له بركوب اي وسيلة مواصلات فظل فهد بلان لمدة ثلاث سنوات يقطع الطريق الطويل سيراً على الاقدام بين أطراف دمشق حيث سكن ومقر الاذاعة في وسط المدينة. ولم يلبث أن توجه الى حلب ومن اذاعتها انطلقت اغنيته الاولى "آه يا قليبي" التي أداها بالاشتراك مع المطربة الراحلة سحر، ولحنها لهما شاكر بريخان. وبعد اغنيته الثانية "قلي قلبك من صخر أو من حديد" التي لحنها له عبدالغني الشيخ، بدأت علاقته المهنية مع الملحن عبد الفتاح سكر فشكّلا ثنائياً استمر عشر سنوات، قدما خلالها عدداً كبيراً من أشهر أغانيه مثل: لَرْكَبْ حدك يالموتور، جسّ الطبيب ليَ نبضي، واشرح لها، يا بنات المكلا. وحينذاك كانت شهرة فهد بلان قد وصلت الى بيروت لاسيما انها قد منحته أول فرصة فنية حقيقية في بداية مشواره، حين دعاه مدير البرامج في تلفزيون لبنان للظهور على الشاشة الفضية فجمع بصعوبة ست ليرات سورية دفعها اجرة السيارة التي أقلته الى العاصمة اللبنانية. وعندما اكتشف الناس وجه فهد بلان من على الشاشة الصغيرة، تطابقت ملامحه الصارمة مع معاني اغنياته وأخذت هذه الاغاني تدخل الى القلوب على الفور. ومع أنها قد تبدو بمقاييسنا اليوم ساذجة، لكنها في ذلك الحين اتت تحمل نكهة ريفية خاصة وأصالة ونزعة رجولية لا لبس فيها. وتعززت شهرته عندما تكفلت "بيضافون" أكبر شركة للاسطوانات آنذاك بتسجيل أغاني الثنائي سكر وبلان وتسويقها في الوطن العربي. وهكذا اخذت العقود تنهال عليه فقدم غنائياً تحت التفاحة، يا عيني لا تدمعي، طلت الحلوة علي، وسينمائياً عدة افلام منها: "يا سلام على الحب" مع نجاح سلام، و"عقد اللولو" مع صباح، و"القاهرون" مع سميرة توفيق، و"حبيبة الكل" مع مريم فخر الدين. وفي ذلك الحين كانت بيروت ممراً اساسياً لأي فنان عربي يريد ان يتجاوز اطار بيئته المحلية. ولما كانت السينماالتجارية التي تحاول ان تكون بديلة لأردأ ما يصنع في القاهرة من افلام، مزدهرة في بيروت آنذاك، كان من الطبيعي ان تجتذب السينما مطرباً مثل فهد بلان، هي التي كانت قائمة على نجومية نساء مطربات، مثل صباح وسميرة توفيق. من هنا جرى تلقف المطرب الشاب الذي ينفع كمعادل لحضور الشحرورة وسمراء البادية. لذلك كان فريق العمل في فيلم "القاهرون" من اخراج فاروق عجرمة ينتظر وصوله الى اعالي منطقة الشوف لتصوير مشاهد الفيلم الاولى في خراج كفرنبرخ، بلهفة. وهو وصل بالفعل عند الظهر في سيارته "البويك - ريفييرا"، ذات اللون البصلي، وكان برفقته قريبان له، احدهما سائقه هايل، الذي سيصرح لاحقاً بأنه لم يسبق له ان شاهد فيلماً في حياته. كانت نظرات فهد بلان فضولية فيها كثير من البراءة، وسماته جبلية قوية بالفعل. كان حضوره طاغياً من ناحية الشكل. ومن الواضح انه أتى كنجم، يحاول ان "يبلع" الجو. لدى وصوله كانت اللقطة التي تُصور لزميلته سميرة توفيق التي ابدت ازاءه فرحاً غلب عليه الافتعال. فالحقيقة ان شهرة فهد بلان كانت قد بدأت تفوق شهرتها، وهي من خلال رد فعل الحضور عند مجيئه ادركت مكامن الخطر. اما هو فكان، والحق يقال، غائباً عن ذلك كله. المهم، جلس فهد بلان يتفرج قبل ان يسلم نفسه لعاملتي الماكياج والملابس تبدلان سحنته وتجعلانه يبدو فارساً مغواراً لا يعرف احد الى اي جنس او تاريخ ينتمي. وكان مخرج الفيلم فاروق عجرمة منهمكاً في تحضير اللقطة والجميع في صمت حين انطلق، فجأة، صوت فهد بلان الجبلي الملون بلكنة مصرية يقول: "أستاذ فاروق، أنا من رأيي أن تؤخذ اللقطة من هناك!". التفت اليه عجرمة كمن لدغته افعى وقال له بصراحة "احتفظ برأيك لنفسك، فنحن لسنا بحاجة اليه!". ساد الصمت وتوقع الجميع معركة بينهما. لكن المطرب الشاب ابتسم وقال متراجعاً بسرعة: "آسف، كنت فقط احاول ان اساعد" فأجاب عجرمة وهو يستعيد موقعه لتصوير اللقطة "عندما نحتاج لمساعدتك سنقول لك ذلك. اما الآن فافعل ما يجب عليك ان تفعله: جهز نفسك للتصوير...". وكالآلة نهض فهد بلان وهو يدندن بأغنية له كأن شيئاً لم يكن. تابع عمله طوال فترة تصوير الفيلم، وكان يمازح اعضاء الفريق العامل ويغني لهم، وغالباً ما كان يشتري لهم الطعام والشراب على حسابه، بحيث خيل للجميع انه نسي تلك الحادثة. غير ان رده جاء بعد ذلك الفيلم مباشرة، عندما صار له حضوره في لبنان، وبات يشكل ثقلاً في جاذبية اي فيلم يعمل فيه، وهكذا حين عرض عليه ان يقوم ببطولة فيلم جديد من اخراج عجرمة رفض بشكل قطعي وظل يرفض لفترة طويلة، من دون ان يبدي اي عداء لذلك المخرج. في تلك الاثناء، كان فهد بلان يقدم الاغاني التي صارت الواحدة منها تشبه الاخرى، وبدا حضورة على التلفزة وفي السينما غير مقنع لأن ملامحه، مثل اغانيه كانت على الدوام ثابتة جامدة لا تتبدل. كان، بسيارته "البويك" وثروته الكبيرة، وبدلاته التي حملت شيئاً من اناقة ذلك الزمن المبالغ فيها، قد اضحى نجماً اجتماعياً. واستهوته تلك اللعبة، ووصل الاستهواء به الى ذروته حين تزوج، في ظروف غريبة، سيدة من سيدات المجتمع هي ناتاشا الرياشي، ابنة الصحافي الكبير اسكندر الرياشي. ودخل عالم بيروت الصاخب وهو كالضائع أو كالريفي الساذج الذي يصل الى المدينة بطيبته فتقابله بخبثها ودهائها. وراح يتصرف كفتى مجتمع ذهبي مخملي، لا كفنان. وهكذا راح يبدد ثروته على الموائد، وفي السهرات وعلى الصحافيين الذين كانوا يتابعون اخباره بوفرة. في زمن كان فيه فنه قد اصبح وراءه. ولذا حين ترك فهد بلان بيروت بعد سنوات من وصوله اليها، كان حضوره الفني فيها قد تلاشى. وكانت محطته التالية القاهرة التي ربطته بها صداقة قديمة، اذ استدعته الاذاعة المصرية من بيروت العام 1966 ليشارك مع عبد الحليم حافظ وغيره من المطربين المصريين في حفل اضواء المدينة الذي أقيم في دمشق ونقلته مباشرة الى المستمعين العرب. وفي صيف العام التالي أعطته القاهرة الفرصة النفيسة الثانية في حياته المهنية حين دعاه الاذاعي المصري المعروف جلال معوض للغناء في احدى حفلات الاذاعة الكبرى فأدى "واشرح لها عن حالتي". ويومها استقبله الجمهور المصري بحرارة بفضل اختلاف لونه الغنائي واسلوبه في الوقوف والحركة على المسرح وأطلقت عليه الصحافة ألقاب مطرب ال"هاها" و مطرب "الرجولة" وغيرهما. ولذا كان موضع ترحيب في مصر عندما قرر الاقامة فيها وتعاون مع عدد من الملحنين الكبار في مقدمهم مطربه المفضل فريد الاطرش الذي أعطاه "ما اقدرش على كده"، ومع بليغ حمدي في "على كفي"، وخالد الامير في "ركبنا على الحصان"، وسيد مكاوي في "مال واحتجب" و"هز الهلال" و"ابو الطاقية الشبيكة" و"يا حلاوة يا حنان" فضلا عن أغانيه الوطنية العديدة التي كان أبرزها نشيد "وإن احرقوه" ولحنه له الموسيقار الكبير محمود الشريف عقب قيام اسرائيل بإحراق المسجد الاقصى في العام 1969. ومنذ منتصف السبعينات تضافرت ظروف عدة جعلت المطرب الراحل يبتعد طويلا عن مصر. ولعل صاحب "تحت التفاحة"، وجد القاهرة اقسى عليه من بيروت، فكان ان خبا بشكل تدريجي، ولم يستعد بعض مكانته، وان لفترة، الا حين عاد الى دمشق بعد ذلك. ومن عرفوا فهد بلان عن كثب في سنواته الاخيرة أدركوا قسوة الزمن وبأسه. فالشاب الذي أرّق الحسناوات والنجم الذي تسابق عليه الملحنون والمخرجون في الماضي وتحول التراب بين يديه الى تبر، صار رجلاً من دون عمل يقرع الفقر بابه. وعن حياته الخاصة يمكن القول انها كانت مرادفاً للتشتت وعدم الاستقرار فقد تزوج المطرب الراحل ست مرات: الاولى كانت من قريبة له في ضيعته، والثانية كانت من زميلة له في الاذاعة تعمل على الآلة الكاتبة حين اختير مطرباً في الكورس، و الزوجة الثالثة ناتاشا الرياشي فيما كانت الفنانة مريم فخر الدين الرابعة والمكسيكية عربية الاصل سامية ابو الحسن الخامسة. اما السادسة فهي الممثلة امال عفيش التي كانت في يوم من الايام نجمة فرقة شوشو المسرحية. وانجبت له زوجاته أطفالاً لم يتجاوز عددهم الاربعة على الارجح، واسم اكبر اولاده طلال. ولئن كان المطرب الراحل قد تحدث للصحافة في كل مرة عن حبه الجنوني لزوجته ولئن كان الانفصال في بعض هذه الحالات قد وقع في فترة حمل الزوجة فإن قصته مع مريم فخر الدين كانت الاعنف والاكثر شهرة. يكفي الاشارة الى ان الزواج سبقته اشاعات عدة طوال سنة 1967 وكان كلاهما ينفي وجود مثل هذه العلاقة ، ويكفي ايضا الاشارة الى ان الطلاق وقع بينهما ثلاث مرات حتى استحالت العودة.