"البريك" تهنئ أمير جازان ونائبه على الثقة الملكية    ويندام ولو بارك كونكورد تطلقان مشروع فندق100 "سوبر 8" في المملكة ضمن شراكة تمتد لعقد كامل    بلدية صبيا والجمعيات الأهلية تثري فعاليات مهرجان المانجو بمشاركة مجتمعية مميزة    السعودية للكهرباء تسجل نمواً قوياً في الإيرادات بنسبة 23% لتصل 19.5 مليار ريال في الربع الأول من عام 2025        أمير دولة الكويت يصل الرياض وفي مقدمة مستقبليه نائب أمير المنطقة    ترامب وعد وأوفى وستبقى السعودية الوجهة الأولى    سيادة الرئيس ترامب.. أهلاً بك رئيساً لأمريكا العظيمة في السعودية العظيمة    السعودية للشحن الناقل اللوجستي الرسمي لمنتدى الأعمال السعودي الصيني 2025    انخفاض أسعار الذهب    استشهاد (51) فلسطينيًا    زلزال بقوة (6.4) درجات يضرب شمال مصر    الأمير عبدالعزيز بن سعد يرعى تخريج أكثر من (8400) طالب وطالبة بجامعة حائل    السوق السعودي جدير بالثقة العالمية    وسام المواطن الأول.. بمرتبة الشَّرف الأولى    أكد أنه رفع العقوبات عن سوريا بناء على طلبه.. ترمب: محمد بن سلمان رجل عظيم والأقوى من بين حلفائنا    السعودية موطن موثوق وقبلة للسلام العالمي    بداية إعادة رسم الخريطة الأمنية.. طرابلس تحت النار.. تفكيك مراكز النفوذ    مجلس الأعمال السعودي الأمريكي: زيارة الرئيس ترمب محطة مهمة في الشراكة الإستراتيجية    الاتحاد يسعى لحسم لقب"روشن" في بريدة    فناربخشة يعرض مبادلة النصيري ب» ميتروفيتش»    رائد التحدي سيعود من جديد    المعلّم والتربية الشعبية    "إهمال المظهر" يثير التنمر في مدارس بريطانيا    ضبط 3 وافدين لارتكابهم عمليات نصب لحملات الحج    سمو ولي العهد يصطحب الرئيس الأمريكي في جولة بحي الطريف التاريخي في الدرعية    "واحة الإعلام" تختتم يومها الأول بتفاعل واسع وحضور دولي لافت    حسين نجار.. صوت إذاعي من الزمن الجميل    الكوادر النسائية السعودية.. كفاءات في خدمة ضيوف الرحمن    أمير الشرقية يطلع على إنجازات وزارة الموارد في المنطقة    بمشاركة دولية واسعة من خبراء ومتخصصين في القطاع الصحي.. السعودية رائد عالمي في الطب الاتصالي والرعاية الافتراضية    "مؤتمر علمي" لترسيخ الابتكار في السعودية الاثنين المقبل    رفع كسوة الكعبة المشرفة استعدادًا لموسم حج (1446ه)    «مبادرة طريق مكة».. تأصيل لخدمة ضيوف الرحمن    الجوازات تكثف جهودها لاستقبال الحجاج    تخريج 3128 خريجاً من الجامعة الإسلامية برعاية أمير المدينة    الأمير فهد بن سعد يرعى اليوم حفل جائزة «سعد العثمان» السنوية للتفوق العلمي في الدرعية    الصندوق الكشفي العالمي يثمّن دعم المملكة    حرس الحدود بمنطقة مكة المكرمة ينقذ (4) أشخاص بعد جنوح واسطتهم البحرية    رئيس الشورى: المملكة تواصل دعمها لتعزيز وحدة الصف في العالم الإسلامي    المرأة السعودية.. جهود حثيثة لخدمة ضيوف الرحمن    الرياض وواشنطن.. استثمارات نوعية عالية التأثير    أمير الرياض يستقبل سفير موريتانيا ومدير السجون    أمير نجران يستعرض تقرير نتائج دراسة الميز التنافسية    مجموعة الدكتور سليمان الحبيب الطبية تُدشّن أول نظام روبوتي مختبري من نوعه «AuxQ»    برشلونة أمام فرصتين لحسم لقب ال «لاليغا»    بندر بن مقرن يشكر القيادة بمناسبة تعيينه مستشارًا بالديوان الملكي بالمرتبة الممتازة    النصر يعادل الرقم القياسي في لقاء الأخدود    الأمير حسام بن سعود يرعى حفل تخريج 4700 طالب وطالبة من جامعة الباحة    الجمعية الخيرية لرعاية الأيتام بنجران في زيارة لمدير عام التعليم بمنطقة نجران    إنفانتينو: السعودية ستنظم نسخة تاريخية من كأس العالم 2034    ملك البحرين يصل إلى الرياض وفي مقدمة مستقبليه نائب أمير المنطقة    رئيس جمعية الكشافة يكرِّم شركة دواجن الوطنية لدعمها معسكرات الخدمة العامة    قطاع ومستشفى المجاردة الصحي يُنظّم فعالية "اليوم العالمي لنظافة الأيدي" و "الصحة المهنية"    مدير عام فرع هيئة الهلال الأحمر السعودي بجازان يهنئ سمو أمير منطقة جازان وسمو نائبه بمناسبة تعيينهما    انطلاق منافسات "آيسف 2025" في أمريكا بمشاركة 40 طالبًا من السعودية    أطفالنا.. لسان الحال وحال اللسان    100 مبادرة إثرائية توعوية بالمسجد النبوي.. 5 مسارات ذكية لتعزيز التجربة الرقمية لضيوف الرحمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المدينة التي تستقبل اكبر عدد من الزوار بعد اهرامات الجيزة بومبي ... حاضرة عصر الرومان تحتضر مجدداً بعد 2000 عام من موتها الاول
نشر في الحياة يوم 23 - 02 - 1998

انها قصة مدينة عاشت في الماضي أزهى العصور، شمخت فيها القصور المنيفة والحدائق الغنّاء، وازدهرت فيها الفنون. لكن بركاناً ضربها حتى كاد يمحوها من على ظهر الوجود. ونتيجة لاهتمام الملوك والأمراء بدأت هذه الحاضرة الرومانية تزدهر وتزدهي وتجتذب عدداً من الزوار يأتي في المرتبة الثانية بعد زوار أهرامات الجيزة في مصر. وأضحت مشكلة المدينة أنها تواجه موتاً بطيئاً جديداً بسبب تدفق الزائرين، وعوامل التلوث، وعدم العناية بآثارها. انها مدينة بومبي الايطالية الرائعة.
اعداد غفيرة من الجمهور تتجمع في الساحة المجاورة لفيلا فيتي للاستمتاع بمناظر اللوحات الفنية الرائعة التي تغطي الجدران. وبين تلك اللوحات "الجنّي ذو الجناحين" وهي من أشهر اللوحات التي يمكن للمرء ان يشاهدها في بومبي POMPEII. لكن المشكلة انها معلّقة وراء احدى النوافير، كما ان عشرات الزوار يتزاحمون حولها في حيّز ضيّق مما يجعل التقاط صورة لها امراً عسيراً جداً، مع ان قلة تستطيع ذلك بعد مزاحمة الآخرين ورفع ايديهم بالكاميرات فوق الرؤوس واعتماداً على الحظ.
هذه اللوحة محظوظة! لأنها وراء نافورة. لكن هناك لوحات ورسوم اخرى لا حصر لها لا تحظى بنعمة الحماية، مما يجعل منها فريسة سهلة أمام الآلاف المؤلفة من الزوار. اما الحارس المكلّف بمراقبة ما يجري فهو لا يقدر على فعل شيء، لأنه اعتاد تلك المشاهد يوماً بعد يوم، ومرة تلو الاخرى، فاستسلم لما يفعله الزمن والبشر.
مدينة بومبي التاريخية خير مثال للحياة الرومانية القديمة. اذ حلّت الكارثة بهذه المدينة في عام 79م حين ضربها بركان فيزوف، قبل حوالي الفي عام. لكن المدينة الاثرية التي بقيت منذ ذلك الزمن تواجه اليوم موتاً جديداً، وربما نهائياً بسبب التلوّث وتزاحم مئات الآلاف من الزوار الذين يفدون اليها كل عام، وما تخلّفه اقدامهم من ضرر وهي تدوس المدينة، وما يتركه اولئك السياح من نفايات وقاذورات فيها، وعدم توفر العدد الكافي من الموظفين اللازمين للاشراف على تحركات الزوار، ونقص الاموال الضرورية للعناية بهذه المدينة التاريخية.
تستقبل بومبي اكثر من مليوني زائر كل سنة، نصفهم من خارج ايطاليا، مما يجعلها المعلم السياحي الاول في البلاد. وقد زاد عدد زوارها خلال السنوات الثلاث الماضية بنسبة 30 في المئة، مما بعث شعوراً بالارتياح لدى المهتمين بالآثار الرومانية. لكن خبراء يقولون انه لا قدرة لمدينة بومبي على احتمال هذا العدد الهائل من الزوار: مليونان من السياح، اربعة ملايين قدم تدوس ارضها بالاحذية لتساهم في تردي هذا الموقع الاثري الفريد وتآكل تربته وحجارته ومعالمه وأزقته.
كما ان هناك الكثير من الايدي غير البريئة التي تتعمد تشويه الجدران والرسوم واللوحات والحجارة البركانية بالخطوط والكتابات، وتخرّب وتكسر لمجرد التخريب. اما الحراس فلا قدرة لهم على منع ذلك لأن عددهم قليل. ففي هذه المدينة الأثرية التي تزيد مساحتها على 70 هكتاراً لا يوجد سوى حوالي 50 حارساً، مما يجعلها مسرحاً مفتوحاً لكل من يريد ان يترك بصماته على اي جزء منها من دون اكتراث، ولكل من يريد ان يأخذ معه قطعة تذكارية لزيارته.
ومن المفارقات ان الطبيعة التي حمت المدينة ألفي عام، بدأت تتحول ضدها الآن. فحين قذف بركان فيزوف حممه قبل ألفي عام احال التربة في المنطقة الى اخصب انواع التربة في العالم. لكن المدينة نفسها اخذت تعج بالاعشاب والنباتات التي تهاجم آثارها من كل صوب حتى صارت بعض اجزائها اشبه بغابة من الاعشاب.
إنقاذ بومبي؟
لماذا لا تبدأ السلطات الايطالية اذن حملة لانقاذ بومبي؟
يقول بيير جيوفاني غوزو قيّم آثار المدينة انه لا فائدة من مثل هذه المحاولات. وهو يعترف بأن الاستسلام للامر الواقع اشبه بهزيمة ساحقة في المعركة الرامية الى انقاذ المدينة، مع ان الحفريات الاخيرة التي جرت منذ ان تولى مسؤوليته قبل نحو عامين كشفت عن كنوز جديدة، كما بدأت مبادرات اخرى لإعادة الحياة الى بعض الحدائق التاريخية بطريقة تتلاءم مع محيطها الاثري، تحت اشراف عالم الاحياء النباتية الشهير سياريللو.
ومن المشاريع الاخرى التي تحظى باهتمام غوزو الدروب الجديدة التي بنيت ليسلكها الزوار دون غيرها من اجل المحافظة على وسط المدينة الذي يتوجه اليه جميع الزوار مهملين زيارة الضواحي. ومع ذلك فإن كل ما على المرء ان يفعله لاكتشاف روائع بومبي هو التوجه الى الضواحي بعيداً عن الميدان الرئيسي الذي تتوقف فيه جميع الحافلات السياحية حاملة آلاف الزوار. فمدينة بومبي، لمن لا يضيره المشي، غنية بالمناظر الخلاّبة. ومن هذا المنطلق قررت السلطات المسؤولة تمديد طريق للمشاة طولها خمسة كيلومترات بمحاذاة اسوار المدينة لتخفيف الضغط على وسطها. ومن المقرر ان تفتتح هذه الطريق خلال العام الحالي 1998.
لكن كل هذه الجهود ليست سوى قطرة في بحر مقارنة مع الجهود التي يجب بذلها من أجل المحافظة على هذا الكنز الاثري. وهنا لب المشكلة، اذ يقول غوزو: "ان تكاليف المرحلة الاولى فقط من ترميم المدينة واصلاحها تزيد على 300 مليون دولار. وهو مبلغ كبير جداً اذا ما اخذنا في اعتبارنا ان كل ما حصلت عليه ادارة المدينة من عائدات التذاكر لزيارتها لم يتجاوز في العام 1996 ثلاثة ملايين دولار، علماً بأن مجموع العائدات وصل في ذلك العام الى تسعة ملايين دولار فقط". ويتساءل غوزو: "كيف يمكن انقاذ المدينة اذا كان مجرد ازالة الاعشاب والنبتات من بين الآثار يكلفنا كل سنة حوالى نصف مليون دولار؟ من أين يمكننا الحصول على الاموال اللازمة؟ كل ما نحصل عليه من مصادر اخرى غير التذاكر هو منحة مائة ألف دولار من الاتحاد الاوروبي".
برنامج ثلاثي للانقاذ
وهكذا فإن الامل الوحيد لدى المشرفين على بومبي يتمثل في ان يوافق البرلمان الايطالي على تخصيص موازنة كبيرة لترميم المدينة، ومنح الهيئة المشرفة عليها استقلالاً ذاتياً في ادارة شؤونها ورعايتها. ومما يعزز من هذا الامل ان وزير الآثار الايطالي والتر فيلتروني اعلن اخيراً انه حدد فترة ثلاث سنوات لانقاذ بومبي. وقد وضع الوزير برنامجاً لتحقيق هذا الهدف يتركز على ثلاثة اهداف: مواصلة الحفريات للكشف عن آثار جديدة، وتأمين الاموال اللازمة للبرنامج، واعادة تنظيم ادارة المدينة من خلال تعيين مسؤول عام عنها اشبه برئيس للبلدية يتولى جميع شؤونها كمدير عام لشركة تجارية.
اما اذا ما صادفت هذه الخطة معارضة من بعض الدوائر الايطالية، فان تلك المعارضة لن تكون ذات شأن قياساً الى الاعتراضات الشديدة التي ستلقاها خطة الوزير لتأمين الاموال اللازمة لبرنامجه من القطاع الخاص وربما بيع بعض اجزاء المدينة.
ويؤيد فيلتروني هذا النهج لتأمين الاموال من القطاع الخاص وتطوير ادارة المدينة على اساس تجاري، بل يدعو الى بناء متنزهات سياحية حديثة على غرار متنزه "جوراسيك بارك"، اي استخدام التكنولوجيا لخلق الحياة الرومانية القديمة في المدينة واعادتها الى ما كانت عليه قبل ألفي عام لاستقطاب الزوار، وزيادة الدخل.
وفي هذه الاثناء، وريثما يتم تنفيذ تلك البرامج ليس امام المشرفين على المدينة هذه الايام سوى مواجهة الواقع المؤلم ومحاولة تحقيق اكبر قدر ممكن من الحماية، واستمرار الحفريات للكشف عن كنوز بومبي مثلما حدث خلال الفترة من 1919 الى 1923 حين ظهرت فيلات وقصور رومانية قديمة مثل قصر العشاق وفيلا فيتي وأضحت محط انظار الزوار من كل ارجاء العالم.
الا ان الخطوة التي يمكن ان تبعث الحياة من جديد في بومبي هي اعتبار منظمة اليونسكو هذه المدينة معلماً اثرياً ذا قيمة تراثية كونية. ومن الغريب ان منظمة اليونسكو لم تقدم على اتخاذ هذه الخطوة حتى الآن. الا ان الضغوط العالمية الاخيرة دفعت المنظمة الى تشكيل لجنة خاصة لدرس امكان ادراج بومبي على قائمة معالم التراث البشري العالمية المهمة.
روزنامة بومبي : 24 آب اغسطس 79 م
حين أشرقت شمس اليوم الرابع والعشرين من شهر آب اغسطس عام 49م، كان سكان بومبي الذي يزيد عددهم على 20 ألف نسمة ينعمون بيوم جديد مشمس. فمع أن المدينة الواقعة عند سفوح جبل فيزوف تعرضت قبل ذلك بسبعة عشر عاماً الى زلزال عنيف، فانهم استطاعوا التغلب على ما أصاب المدينة من خراب ودمار، بترميم مبانيها وتشييد المباني الحديثة، لتعود اليها الحياة.
كانت المدينة تنعم بالأمن والسلام، وكان سكانها من أثرياء ونبلاء وافراد طبقة وسطى وعبيد يتعايشون في وئام وسلام. وكان سكان بومبي معروفين بحبهم لمتع الحياة واقامة الحفلات والمقامرة الى الدرجة التي جعلوا من فينوس، الهة الجمال والحب، راعية لمدينتهم. وكانت ضواحي المدينة معروفة برخائها وفيلاتها الفاخرة. كذلك كان السكان يعيشون في بحبوحة الى درجة أن مهنة البغاء لم تكن تقلقهم. وبلغ من الاباحية في المدينة أن الكثيرين من سكانها كانوا يرسمون اللوحات والرسوم الاباحية على جدرانها العامة وأسوار الحدائق بحرية كاملة.
ولما كان صباح 24 آب 79 قائظاً فإن أعداداً كبيرة من سكان المدينة تركوها ذلك الضحى الى الفيلات الفاخرة المجاورة. لكن المؤرخين لا يعرفون حتى اليوم عدد الذين ظلوا في المدينة وعدد الذين غادروها ذلك اليوم. كل ما هو ثابت ان أكثر من 2000 جثة عُثر عليها بين الانقاض، بعد سنوات طويلة من ثورة بركان فيزوف.
فما الذي حدث؟ كان في وسع المؤرخين أن يعرفوا ماذا حدث للمدينة بفضل رسالة مسهبة ومفصلة كتبها يليني ابن يليني الكبير الذي كان يقود الأسطول الروماني في البحر الأبيض المتوسط. وفي تلك الرسالة يحكي يليني قصة وفاة عمه. إذ أن بليني الابن كان يتمركز في ميناء المدينة عند سفوح جبل فيزوف حين شاهد سحباً سوداء من الدخان الكثيف التي أخذت تنتشر ويتسع نطاقها حتى أضحت المنطقة كلها تعيش تحت ظلام دامس. وعندئذ أخذت صيحات السكان تتعالى طالبة النجدة والمساعدة، فأمر بليني أدميرال الأسطول أمير البحر بتقديم المساعدة اليهم في الحال. لكن السفن وجدت أن الدنيا زادت حلكة وظلاماً كلما اقتربت من المدينة. ومع اقترابها أخذ البحر يضطرب وتعالت أمواجه العاتية الى درجة حالت دون نزول البحارة الى الشاطئ. عندئذ أمر قائد الأسطول بحارته بالتوجه نحو ستابيا الواقعة على الطرف الآخر من الخليج.
وخلال الليل ازداد تردي الأمور، فأخذ الناس يهربون من منازلهم ويتوجهون الى الشواطئ التي أضاءتها المشاعل، على أمل ركوب السفن. لكن الأمواج العاتية حالت بينهم وتلك السفن. وأخذت الغازات السامة التي انطلقت من البركان وانتشرت في أجواء المنطقة برمتها تودي بحياة الهاربين وبينهم بليني الذي توجه الى مدينة ستامبيا.
وسرعان ما عم الذعر أوساط الناس في المنطقة بأسرها. ووسط الذعر والتزاحم وقع الكثيرون ضحايا للحمم المتساقطة والصخور البركانية. وهكذا لحق الموت حتى بالذين لم يقتلهم الغاز السام. وتواصل سقوط الحمم البركانية والرماد البركاني على المنازل وسد الأبواب والنوافذ حتى اختنق الآلاف من سكان بومبي.
ولم يهدأ البركان إلا بعد ثلاثة أيام. وبعد بزوغ شمس اليوم الرابع، اكتشف الناجون أن مدن بومبي وستابيا وأبولوني وهيركيلونا دمرت، ومات الآلاف من سكانها اما اختناقاً بالغازات السامة أو بالحمم البركانية أو بالنيران. وبعدما هدأ البركان، أخذ الناجون يعودون الى المنطقة، وبدأت بعض الفرق العمل على اخراج الأشياء الثمينة من تحت الانقاض، لكن الحياة في بومبي لم تعد أبداً الى سابق عهدها.
المدينة التي ألهمت الشعراء والامراء وعلماء الآثار
من الامور التي لا تكاد تُصدّق ان العلماء احتاجوا الى 1500 عام لاكتشاف مدينة بومبي والتحقق من طبيعة الحياة فيها. فقد أدى البركان الى ضياع كل شيء تقريباً من تاريخ تلك المدينة طوال تلك المدة قبل ان يبدأ العلماء في تجميع الخيوط ووصلها والتعرف على هذه المدينة التاريخية.
ففي عام 1594م اكتشف العلماء أولى الدلائل على وجود بومبي اثناء حفر احدى قنوات المياه في المنطقة. لكن الحفريات التاريخية والاثرية الحقيقية لم تبدأ الا في عام 1748م في عهد الملك شارل بوربون. وكان الاهتمام بمدينة بومبي في البداية مقصوراً على الجوانب الثقافية البحتة، بعدما بدأ الزوار الاوروبيون يهتمون بالحياة الثقافية القديمة في المدينة. وكان فن الحفريات الاثرية في تلك الحقبة محط اهتمام الكثيرين من الاثرياء والنبلاء في اوروبا، كما كان مصدر الهام للشعراء والفنانين وأبناء العائلات المالكة. وخلال الفترة من 1770 الى 1815 اصبحت الحفريات الاثرية اكثر انتظاماً بفضل اهتمام الملوك والامراء بها. فقد كانت ذروة الاستمتاع لدى اولئك الحكام هي زيارة بومبي وتشجيع علماء الاثار على كشف معالمها. وهكذا تم اكتشاف فيلا دايوميدس في عام 1771، وعثر العلماء في داخلها على بقايا 18 جثة احداها لفتاة صغيرة هي التي الهمت غوته.
وأخذ اسم بومبي يشيع ويشتهر فزارها الفنانون والرسامون والشعراء والفلاسفة ومنهم غوته والانكليزي هاملتون. وفي 1808، اي حين كانت الاميرة كارولين شقيقة نابليون تحكم في مدينة نابولي، اولت بومبي اهتماماً كبيراً، مثلما اولاها نابليون نفسه، الذي تحمل مع اخته كامل تكاليف الحفريات الاثرية في المدينة. وهكذا لم يمض سوى أقل من عشر سنوات حتى تم اكتشاف اعداد هائلة من كنوز بومبي وخباياها. لكن المأساة انه لم يكن هناك أي نظام أو قيود على تلك الكنوز مما جعلها عرضة للبائع والشاري والنقل دون اي وازع علمي.
وإثر هزيمة نابليون في معركة واترلو في 1815 توقفت اعمال التنقيب حتى 1825، ثم استؤنفت مجدداً وتم اكتشاف عدد من الفيلات والدارات التاريخية مثل دارة "فوان" وهي من أجمل قصور بومبي. وحين زار الزعيم الايطالي غاريبالدي نابولي في 1861 اسند مهمة الاشراف على الحفريات وأعمال التنقيب الى الكسندر دوماس.
وعندما توحدت ايطاليا بفضل فكتور ايمانويل الثاني وكافورا أدرك الملك الجديد اهمية استغلال مدينة بومبي في خدمة عرشه. وهكذا اختار في 1860 العالم الشاب جوسيبي فيوريللي ليشرف على أعمال الحفريات والتنقيب في المدينة. وبدأ فيوريللي في الاحتفاظ بسجلات لعمليات التنقيب والاكتشافات الاثرية، كما وضع خطة شاملة لمواصلة تلك العمليات واستخدم اكثر من 500 شخص لمتابعة تنفيذ برنامجه. واليه يعود الفضل في استنباط فكرة حقن جثث الموتى والضحايا بسائل من الملاط مما ساعد على معرفة الصورة والوضع والهيئة التي كان عليها سكان بومبي عندما ضربهم البركان وأودى بحياتهم. ولا تزال تلك الاشكال حتى اليوم ماثلة للعيان امام الزوار. وهي تشرح افضل من ألف كتاب نظرات الرعب والذعر التي انتابت السكان حين واجهوا مصيرهم الاسود.
ولم تتوقف عمليات التنقيب الا خلال الحرب العالمية الاولى، قبل ان يستأنفها اميديو مايوري الذي اشرف عليها بعد الحرب حتى 1961. واليوم تستمر اعمال الترميم والتنقيب. لكن نقص الاموال يمثل العائق الاكبر في وجه استمرارها. فمن يصدق انه لم يكتشف من باطن بومبي حتى اليوم سوى حوالى 35 هكتاراً من مجموع مساحتها البالغة 70 هكتاراً على رغم مرور حوالى ألفي عام على تدميرها!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.