الإعلان عن موعد مباراتي نصف نهائي كأس الملك 2025-2026    البرلمان العربي يؤكد دعمه التام لوحدة اليمن    الفتح يكسب الأهلي بثنائية في دوري روشن للمحترفين    أرتيتا يأمل في أن لا يكرر التاريخ نفسه أمام برايتون    سلوت يكشف عن النصائح التي قدمها لمهاجمه إيكيتيكي    القبض على باكستانيين في الشرقية لترويجهما (الشبو)    عمداء تقنية المعلومات ومدراء الميزانية وكفاءة الإنفاق بالجامعات السعودية يزورون الواجهة الثقافية في جامعة أم القرى    بيش تُضيء مهرجان شتاء جازان 2026 بهويتها الزراعية ورسالتها التنموية    حائل.. وجهة سياحية متكاملة بفرص استثمارية واعدة    الجبيل تستعرض مقوماتها في مسار الاعتماد العالمي كمدينة صحية    «الصحة» تطلق جولات رقابية لتعزيز الامتثال الصحي في مراكز فحص العمالة    وزير الداخلية تابع حالته الصحية.. تفاصيل إصابة الجندي ريان آل أحمد في المسجد الحرام    السديس: حقوق العباد من أخطر أبواب الظلم ومواقع التواصل بيئة خصبة للبهتان    القاسم: استباق الخيرات دليل علو الهمة وكثرة الجدل تصرف عن الطاعة    سعيد بن قزعة أبو جمال في ذمة الله            هيئة محمية الملك سلمان الملكية تدشّن مبادرة الإصحاح البيئي في "وادي نايلات" بحائل .    القيادة تعزي رئيس المجلس الرئاسي الليبي في وفاة رئيس الأركان العامة للجيش الليبي ومرافقيه    رياح نشطة و سحب ممطرة على عدة أجزاء من مناطق المملكة    يايسله يرحب برحيل لاعب الأهلي    غيابات عديدة في النصر أمام الأخدود    الفتح ينهي استعداداته قبل لقاء الأهلي    ارتفاع سعر الذهب الى 4501.44 دولار للأوقية    برعاية أمير منطقة جازان.. مهرجان جازان 2026 يستهل مشواره بانطلاقة كرنفالية كبرى    120 صقارًا يدشنون أشواط نخبة المحليين في انطلاق مهرجان الملك عبدالعزيز للصقور    آل الشيخ: جائزة طارق القصبي نموذج وطني لدعم البحث والابتكار في الهندسة المدنية    المطر والحنين    روسيا تنفي التقارير حول عزمها تعديل الخطة الأمريكية للتسوية في أوكرانيا    الرئيس التركي يلتقي رئيس مجلس السيادة السوداني    رئاسة الشؤون الدينية تدعو قاصدي الحرمين إلى الالتزام بآداب وفضائل يوم الجمعة    واشنطن مُهددة في سباق الذكاء الاصطناعي    الاتفاق يكسب الرياض بثنائية في دوري روشن للمحترفين    من البحث إلى التسويق الجامعات في فخ التصنيفات العالمي    برعاية وزير التعليم جامعة أم القرى تفتتح ورشة "تبادل التجارب والممارسات المتميزة في كفاءة الإنفاق لمنظومة التعليم والتدريب"    جمعية التنمية الأهلية بأبها تحتفي باليوم العالمي للتطوع واختتام مشاريع 2025 ضمن "رواية عقد"    «أرفى» تكرّم الجهات الداعمة لمسيرة العطاء مع مرضى التصلب المتعدد    ‏نائب أمير منطقة جازان يستقبل نائب وزير الصناعة والثروة المعدنية لشؤون التعدين    مدير عام فرع الشؤون الإسلامية في جازان يتفقد جوامع ومساجد العيدابي ويفتتح مسجد النور    د. مريم الدغيم تحصل على براءة الاختراع الأمريكية    إنفاذ يشرف على 75 مزادا عقاريا لتصفية وبيع أكثر من 900 أصل في مطلع 2026    نائب أمير منطقة جازان يلتقي أيتام "إخاء"    جولة ميدانية للوقوف على جاهزية الواجهة البحرية بقوز الجعافرة استعدادًا لانطلاق المهرجان الشتوي    السعودية: تحركات المجلس الانتقالي الجنوبي في حضرموت والمهرة تمت دون موافقة مجلس القيادة الرئاسي أو التنسيق مع قيادة التحالف    تطبيق علاج وقائي للحد من تطور السكري    نقاشات أمنية وسياسية تسبق لقاء نتنياهو وترامب.. حدود جديدة لإسرائيل مع غزة    الشيباني: العلاقات مع روسيا تدخل مرحلة إستراتيجية جديدة.. الداخلية السورية تتهم «قسد» بالتجنيد الإجباري في حلب    لوحات مجدي حمزة.. تجارب من واقع الحياة    صندوق الطائرة الأسود قرب أنقرة.. تركيا تعلن العثور على جثة رئيس الأركان الليبي    هندية تصلح عطلاً برمجياً في حفل زفافها    المملكة في صدارة الدول بالترفيه الرقمي ب34 مليون مستخدم    سلطان عمان يمنح قائد الجوية السعودية «الوسام العسكري»    وزير الشؤون الإسلامية يستقبل سفير المملكة بنيبال    40 ألف متدرب مخرجات الأكاديمية الصحية    تنفيذاً لتوجيهات خادم الحرمين وولي العهد.. وزير الداخلية يطلع على مبادرات الجوف التنموية    ارتفاع النفط والذهب    الإطاحة بطبيبة المشاهير المزيفة    النيكوتين باوتشز    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوار مع شاعر الزنوجة ومنشد "أحزان افريقيا" . حلاق الاسكندرية هداه إلى الشعر وأحمد رامي شجع خطواته الأولى . محمد الفيتوري : لا أستطيع أن أكتب في الحب مثل نزار قباني ! 1 من 2
نشر في الحياة يوم 19 - 01 - 1998

"كنت أحلم بأفريقيا موحدة، مثلما حلمنا بشعب عربي واحد" يبوح محمّد الفيتوري، مضيفاً أن هذا المنبع الافريقي جفّت آباره في أعماق الشاعر عندما اقترب من الواقع الملموس، فاستبدل به "منبعاً آخر هو التصوّف". وبين انتصاراته وانكساراته يتنقّل صاحب "سولارا" في حوار طويل أجرته معه "الوسط" بعد صدور ديوانه "أغصان الليل عليك" عن "الهيئة المصريّة العامة للكتاب"، فيكشف تاريخه الحميم وانتماءاته المتناقضة. ويذكّر حفيد تاجر الرقيق الذي يعزف على وتر شعري مختلف عن مجايليه، أنه "ابن الثقافة العربية، ملقحة بالرؤية والاحساس الافريقيين"، وأن تجربته هي "اللحظة الوحيدة في شعرنا العربي المعاصر التي تتكلم عن مأساة الانسان الأسود".
محمد الفيتوري صوت على حدة فوق الخريطة الشعريّة العربيّة. لقصيدته نبض خاص على علاقة حميمة بايقاع الطبول الزنجيّة، ولون خاص هو لون القارة السوداء. وهذه القصيدة المتجذّّرة في تربتها الافرقيّة، أطلقت أغصانها الوارفة في سماء الحداثة، وتجرأت على القيود والأعراف كي تتسع ل "صرخة الثائر": "هوذا صوتي من الأرض السمراء آت... من آلام شمسي آت".
عن "الهيئة المصريّة العامة للكتاب" في القاهرة حيث يقيم، أصدر الشاعر في السنة الماضية مجموعة شعريّة جديدة بعنوان "أغصان الليل عليك"، كما أصدر مسرحيّتي: "يوسف بن تاشفين" و"الشاعر واللعبة". وألتقته "الوسط" في المناسبة، فكان حديث البوح والذكريات والمواقف المدويّة التي لا تخلو من الصراحة. عاد الفيتوري إلى أصوله الغامضة، هو المولود في بقعة جغرافيّة مشتركة بين دول عدّة تحدّها الخطوط الوهمية من كلّ حدب وصوت. وهو المنحدر من أسرة ربها ومؤسّسها تاجر رقيق. وعى انتماءه وسواد بشرته، وكرّس شعره للتعبير عن "أحزان افريقيا"، حافراً بنضاله الشعري مساراً جديداً في حركة الشعر العربي الحديث.
أحدث كتاب صدر عنه هو "الفيتوري الضائع الذي وجد نفسه"، وهذا العنوان يلخص بأمانة حياة الشاعر الذي حط في مدن كثيرة، وتصعلك عن حق، وآمن بصدق بالعديد من القضايا، وظل اكثر تمسّكاً بانتمائيه العربي والافريقي. وما زال الفيتوري باعترافه عاجزاً عن "احترام شاعر من دون قضية". كما يشنّ في الحوار هجوماً عنيفاً على كتاب قصيدة النثر التي يراها "شخصية وتحمل أحزاناً باهتة". وهنا نص الحوار الذي تنشره "الوسط" على حلقتين.
استقلال السودان
لنبدأ من النشأة الأولى التي بقيت محاطة بكثير من الغموض...
- الاسكندرية اعتبرها نقطة البدء. لست من مواليد الاسكندرية، ولكن عينيّ تفتحتا فيها، إذ جاء بي أبي إلى الثغر وعمري أشهر معدودة، من أقاصي السودان حيث ولدت في منطقة محاذية لدولة تشاد وغرب السودان. الاسكندرية بالنسبة إليّ هي نقطة بداية حياتي، فيها تلقيت دراستي الأولى، وفيها كانت كتاباتي الأولى أيضاً. هذه المدينة هي نشأتي وتربيتي ورؤيتي للأشياء. وكانت الحرب العالمية الثانية حنيذاك قد بدأت ظلالها تختفي وتضمحل وتتأكل. ولم اكن أفهم شيئاً مما يحدث.
حفظت القرآن ولما أبلغ المراهقة. وفي نهاية الحرب انتقل بي والداي إلى مدينة كفر الدوار، حيث المزارع الرحبة والحقول الخضراء والسواقي والنواعير والحياة البسيطة للقرويين السعداء بواقعهم وبحياتهم. هناك أحسست بانبثاق شيء ما في داخلي، ربما كان هو الشعر. وفي كفر الدوار حاولت أن أترجم ما يتفاعل في داخلي وما أراه امامي. ثم عدت، أو حملت على العودة، إلى الاسكندرية. وأذكر أن شاباً أكبر مني بقليل هداني إلى طريق الكتابة الحق، وهو شاعر من الاسكندرية اسمه أحمد عرفة، لم تسمع به أنت وربما لم يسمع به كثيرون. كان حلاقاً في الاسكندرية وعندما كنت أذهب إليه ليقص شعري، كان يقرأ عليّ أشعاره وأشعار الأوّلين، وقرأنا معاً المعلقات وأبا تمام والبحتري والمتنبي والشريف الرضي ومهيار الديلمي وشعراء الخوارج والقرامطة. وكنت في الصف الثاني من المرحلة الثانوية، قد اطلعت على الكتابات القديمة وبعض المراجع الأساسية في التفسير والنحو والبلاغة والبيان والبديع، اضافة إلى شيء من علوم الحساب والجبر والرياضيات... عندما أعلن ذات يوم في جريدة "الزمان" القاهرية وكان صاحبها ادجار جلاد باشا، عن مسابقة شعرية. وتقدمت إلى المسابقة وفزت بالمركز الثالث. كان الأول هو رابح لطفي جمعة، والثاني ابراهيم عيسى.
وانتقلت إلى القاهرة، لابدأ حياة جديدة. أكملت دراساتي في المعهد الديني، ثم التحقت بكلية دار العلوم. ثم أتيحت لي فرصة لقاء كامل الشناوي، وهو شاعر وصحافي كبير احتضنني وقدمني إلى معاصريه، وساندني حتى اصبحت قادراً على اعباء الحياة. وكان بين من شجّعني حينها زكريا الحجاوي ومحمود حسن اسماعيل وأحمد رامي... كما تعرفت في تلك الايام على عبد الرحمن الشرقاوي وكمال عبد الحليم.
هكذا التحمت حياتي بمدينة القاهرة وبمثقفيها وصحافييها وعلمائها وشبابها المزدهر المتألق. ثم حدثت نقلة مهمة في حياتي، وهي السفر إلى الخرطوم.
كان قد صدر ديواني "أغاني افريقيا" وأثيرت حوله ضجة غير عادية، وحيّا أهل الأدب هذا الصوت العربي الذي يعبّر عن معاناة الانسان الاسود، حين انتدبني الرئيس الراحل أنور السادات للسفر إلى الخرطوم بهدف حضور احتفالات اعلان استقلال السودان سنة 1956. وفي الخرطوم نشأت علاقة قوية بيني وبين كبار رجال الدولة: الامام عبد الرحمن المهدي، محمد أحمد المحجوب، اسماعيل الازهري، ومحمد توفيق. وعملت في الصحافة السودانية سكرتير تحرير ورئيس تحرير، واندمجت في حياتي كمواطن سوداني. أتحدث إليك طبعاً مثل قفز الطير من دون وقوف عند التفاصيل، بل أكتفي بالاشارة إلى المحطّات التي أثّرت في حياتي.
من الخرطوم سافرت إلى بيروت لأشارك في الذكرى الأولى لوفاة الأخطل الصغير، الشاعر اللبناني بشارة الخوري. وهنا لذّ لي، أو كان قد آن لي أن أغرس حياتي من جديد في أرض أخرى. وبقيت في بيروت بضع سنين أعمل في صحافتها، واتصل بشعرائها ومفكريها، وأعيش حياتها الابداعية الصاخبة. وبعد أن أسقط عنّي جعفر نميري الجنسية السودانية، اضطررت للسفر إلى ليبيا.
وهنا توثقت علاقتي بالأخ معمر القذافي الذي ألحقني بالعمل في الخارجية الليبية، ومنحني الجنسية، وعيّنني مستشاراً ثقافياً للسفارة الليبية في ايطاليا. ثم تنقلت في السلك الديبلوماسي بين روما وبيروت والرباط وأخيراً القاهرة، لأعود إلى نقطة البدء حيث تتجدد حياتي في هذا الزخم الرائع من الذكريات والقيم الابداعية والتفاعلات المضيئة بالأمل والتفاؤل والثقة في المستقبل.
جدي تاجر رقيق
حياة التنقّل هذه تقودنا لا مفرّ إلى طرح سؤال الهويّة: ما هي هويّة الفيتوري؟
- لا أدري ماذا تقصد بكلمة "هوية". اذا أجبتك أن هويتي عربية قد تتهمني بالتعميم، لذا سأحصر التحديد. من حسن حظّي أنّي انسان تجري في عروقه دماء مختلطة. أنا عناصر عدة ومركبات كيميائية وروافد اثنيّة وجينات مختلفة زنجية وعربية. فأجدادي لأبي من احدى اهم القبائل الليبية، قبيلة "الفواتير" وجدي ولي صالح في مكان يبعد 170 كيلومتراً عن طرابلس، واسمه السيد عبد السلام الأسمر الفيتوري. وجدّتي لأبي سودانية افريقية. أما أمي فهي من قبيلة الجهابة التي نزحت من اليمن، واستقرت في اسيوط في صعيد مصر، ثم انتقلت إلى بنغازي وطرابلس. وكان جدي لأمي تاجر رقيق، وجدتي لأمي سيدة من غرب السودان. ولعلّ هذه الجدة هي الأكثر تأثيراً في حياتي، إذ دفعتني بشكل من الأشكال لأكون شاعراً يتغنى بقضايا القارة الافريقية قبل أن يغوص في عذاباتها.
معظم شعري عن افريقيا، ودواويني الأربعة هي، حتى اللحظة، الوحيدة في شعرنا العربي المعاصر التي تتكلم عن مأساة الانسان الأسود. كتبت معظمها في الاسكندرية والقاهرة ثم في الخرطوم، قبل أن أرى عن كثب الواقع الافريقي وألمسه لمس اليد، وقبل أن تختلط أفكاري وقيمي الانسانية بالأعمال الكبيرة التي قرأتها فيما بعد لديفيد ديوب وليوبولد سنغور وريتشارد رايت ولينجست ليوز. هؤلاء قرأتهم فيما بعد، فعرفت أن ثمة شعراء وكتاباً أفارقة وأميركيين تناولوا هذه القضايا قبلي بكل تأكيد ومعي في الوقت نفسه.
صحيح انّني لم أعرف الاستقرار، بل تنقلت وتغربت وهاجرت، من الاسكندرية والقاهرة إلى الخرطوم فاثيوبيا، ثم ليبيا وتونس ولبنان وايطاليا والمغرب. ومن حسن حظي أنني أحمل في داخلي هذه الروافد والتأثيرات المتناقضة. هذه النوافذ، وهذه البقع السوداء والبيضاء في روحي وفكري ورؤياي وحياتي، هي التي فتحت لي باب الشعر على الرؤيا الانسانيّة.
منابع التصوّف
هل أنت شاعر عربي أم افريقي أوّلاً؟
- أفضّل أن أكون شاعراً عربياً. حضارتي وثقافتي هي العربية، وديانتي هي الاسلام، وموقفي من قضايا العصر هو موقف الانسان العربي المعاصر. أنا ابن هذه الثقافة العربية، ملقحة بالرؤية والاحساس الافريقيين. ربما استفدت من هذه الثنائية، ومن يقرأ شعري يحس انني أعزف على وتر آخر. فحتى في كتاباتي الوجدانية تجدني مختلفاً عن الشعراء الآخرين. لا أقصد أنّني أفضل، لكنّ تجربتي وواقعي مختلفان. لا أستطيع أن أكتب - وربما كان هذا قصوراً مني - في تجربة الحب مثلما يكتب نزار قباني. لا أستطيع أن أجرد الانسان من واقعه وأضعه في اطار وأعلقه على حائط، سواء كان رجلاً أو امرأة.
لماذا تخليت عن الموضوع الافريقي في شعرك؟
- لم أتخل. عندما بدأتُ الكتابة كانت القارة تتمخض عن معارك مقبلة من أجل الحرية والاستقلال، وتتفاعل فيها الانتفاضات والحركات الوطنية. في مصر كان هناك عبد الناصر وثورة 1952، ووجدت في فكره مدداً وضوءاً وتعبيراً عن أفكاري وقناعاتي وطموحاتي وأوجاعي. في ظل ثورة يوليو كتبت قصائدي عن افريقيا. قلت: "افريقيا استيقظي". وكان عبد الناصر يخاطب الأمّة أيضاً أن "استيقظي". كانت لعبد الناصر رؤية تتجاوز الحدود المصرية إلى البلدان العربية والقارة الافريقية والعالم. في هذا كله كنت أحد الأصوات التي عاشت في ظل هذا الوهج التاريخي.
كتبت قصائدي عن افريقيا بدافع ميراثي أوّّلاً: فأنا أحمل في دمي هذه العذابات، سواء من جدتي السودانية زهرة المختطفة التي جيء بها إلى جدي تاجر الرقيق في ليبيا، وهي التي ربتني وبثت في روحي هذا الحزن القديم، حزن القارة والمرأة والحياة الافريقية. جدتي هي افريقيا. ثم تعمقتُ وتوسعت رؤياي فكتبت قصائد مختلفة. ولعلّ محمود امين العالم حين كتب أنّني في "أغاني افريقيا" أسقطت مأساتي الخاصة على واقع قارة، كان مصيباً في ملاحظته إلى حدّّ بعيد. عندما انتقلتُ لأعيش في السودان لمست الأشياء لمس اليد، وأصبحت افريقيا واقعاً محسوساً ومرئياً بالنسبة إلي. فبدأتُ أوظف أحاسيسي القديمة توظيفاً أكثر وعياً وشمولية. فانتقلت من الفكر الثوري المنفعل إلى حالة العاشق الحالم.
زمن الاحباطات والانهيارات
أين العالم اليوم من أحلامك والمشاريع الثوريّة والرومانسيّة التي ألهبت قريحتك آنذاك؟
- لا أريد أن أشكك في ما حدث أو يحدث الآن. كنت أحلم بأفريقيا موحدة، مثلما حلمنا بشعب عربي واحد. والآن ترى رايات استقلال مرفوعة، وتماثيل أبطال وشهداء، لكن الامور ليست مطابقة لما حلمنا به أنا وغيري. لا شك في أن انهيار الاتحاد السوفياتي أحدث تحولات في العالم كله، وارتداداً واهتزازاً واختلالاً مؤكداً في القارة الافريقية.
عشت انتصارات ثم انكسارات. ومن حسن حظي أنني دائماً ألجأ إلى منابع في داخلي. لجأت أوّلاً إلى المنبع الافريقي، وعندما شعرت ان هذا المنبع انتهى دوره وجفت الآبار الخاصة في داخلي، لجأت إلى منبع آخر هو التصوّف. لم استورد التصوف فهو جزء من تركيبتي. أنا ابن رجل صوفي ووالدي شيخ طريقة السجادة العروسية الشاذلية في الاسكندرية. كانت عودة واعية إلى الداخل. لا ردّّة مظلمة ومنطوية على الذات. إنّها عودة واعية، ومحاولة ايجابية لابتكار آفاق واستنباط رؤى جديدة.
القصيدة الثورية هل فقدت وظيفتها؟
- أعتقد أنها أدت وظيفتها، ومضى زمنها.
في روايته "تويجات الدم" التي ترجمها سعدي يوسف، يعبّر الكيني نفوغي واثيونغو عن حالة الاحباط الناتجة عن ممارسات أنظمة عسكرية هي اسوأ من الاستعمار. فهل اصابك مثل هذا الاحباط؟
- إنّها حالة عامة، واحساس مشترك بين معاصري تلك المرحلة من روائيين وشعراء وأدباء ومفكرين. وعلى الرغم من اختلاف المواقع، أكاد أقاسم الروائي الكيني قناعته مع كثير من الحزن والأسى. الاحباطات والانهيارات في واقعنا العربي الآن تكاد تشعرك بان ما زرع من بذور لم يؤتَ ثماره الصحيحة. أمر محزن أن تضطر إلى القول: "ليتنا لم نقم بتلك التجارب". عندما ترى أنظمة تعلق الثوار في المشانق وترى هذا التمزق والتأكل في العالم العربي، وترى أن الطغاة هم الذين يحكمون العالم تغرق في حالة من الاحباط واليأس والشعور باللاجدوى. تخطر في ذهني وجوه مبدعين ومناضلين سبقوني، وكان لهم تأثير في حياتي مثل عبد الرحمن الشرقاوي وكمال عبد الحليم ومحمد مهدي الجواهري وعبد الوهاب البياتي ومحمود حسن اسماعيل.
لكنّ الذي يحدث الآن أرى أنّه يشتمل على نوع من التطور الاجتماعي الذي لا مفرّ من أن يحدث تأثيراته السلبية. لذا ترى الأشياء متجمدة أمامك أو منحدرة، مع العلم أن الرحلة ستستمرّ، وستواصل الأجيال معاركها من أجل التطوّر، ودفاعاً عن المكتسبات، وإن بأشكال ووسائل وتقنيات أخرى.
تحت عنوان "حول أزمة الشعر المعاصر"، تؤكّد في مقدّمة ديوانك الأخير "أغصان الليل عليك" أن الوعود والالتزامات التي قطعتها النظم العسكرية على أنفسها لم تحرز خطوة واحدة في مجال التنفيذ.
- هذا صحيح. ولكننا لا يمكن أن نفكر بعودة المستعمر. ولو أن بعض قصيري النظر يرون أن أيام الاستعمار الايطالي أو الفرنسي أو الانكليزي كانت أفضل! ما كتبته في مقدمة الديوان نابع مما يشهده واقعنا العربي من أحداث. فالمناداة بالوحدة لم تتحقق قط، والأمة أكثر تشرذما وانطوائية واقليمية، وأكثر ضعفاً وخمولاً أمام أعدائها التاريخيين، سواء الصهيونية أو الاستعمار بأشكاله الاقتصادية والثقافية والاعلامية. لماذا حدث هذا؟ في الخمسينات كانت الأمة تقف وقفة رجل واحد لمواجهة التحديات الكبرى. أما الآن فتقف بهذا الشكل المؤلم والمخزي أمام أعدائها. الآن يتحرك حكّامنا، مثلما نتحرك نحن، في دوائر فارغة وخالية من الايمان بالغد والوعي الانساني والمشاركة في الحضارة. الانسان الأوروبي يتحرك في دائرة الحرية. أما نحن فأي حرية في منطقتنا العربية؟ أرى أن حكام وأنظمة وقياديي هذه المرحلة مسؤولون وانهم وصلوا إلى درجة من السلبية والجمود جعلت همهم الاساسي قمع أي رؤية جديدة في الواقع العربي لا تتمشى مع ما يرونه هم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.