إستضافت "صالة السيد" الدمشقيّة أخيراً معرضاً للفنان التشكيلي أسعد عرابي، يضمّ أحدث لوحات هذا الفنّان الذي يقيم ويعمل في باريس. أمام لوحات عرابي، يغوص المرء في التراكيب المعمارية التي تحيل إلى البيوت الدمشقية القديمة. ويترصّد الشخوص الماثلة في اطارات متراصفة ومتوازية قائمة على تعدد الطبقات كإنعكاس لتعدد مستويات الرؤيا. لوحة عرابي مثقلة بمراجعها غنية بإحالاتها، تفترض قراءتها ثقافة تشكيلية. وتتطلب من العين درجة من المعرفة ومن المهارة، لكي تبوح بما تختزنه من متعة. هكذا تبدو الفرجة عذاباً آخره مكافأة، لا متعة مجّانية زخرفية وتزيينية تبقى عن الحدود الخارجية للكائنات والأشياء. لا بد لدخول عالم أسعد عرابي من امتلاك مفاتيح الحوار، لا بدّ من سبر تربة اللوحة المتأرجحة بين التجريد والتشخيص. لا يمكن للمتفرج أن يقطف المتعة عبر نظرة عامة شاملة للوحة. ولا تستطيع العين القفز واللعب عفوياً في باحة دارٍ دمشقية قديمة. فالنافذة التي فتحها الفنّان في جدار "الغواش" مزيج من تداعيات وألوان وتفاصيل عتيقة، لذا تراها مشرّعة على ذاكرة ضاعت معالمها في التجريد. لا بدّ إذاً من رحلة متأنية في مجاهل اللون، على الطريق التي شقّها لنا عرابي ثمّ موّهها بالاشكال المتوالدة ونثر عليها فائضاً من العناصر كي يعقّد رحلتنا ويجعلها شاقة. علينا أن نسير بتأنّ، ونحذر المطبّات. أن نتقدّم نظرة نظرة... حتّى الاحاطة بالمشهد في كليّته انطلاقاً من بواطنه. المتعة هنا قرار عقلاني. ولا يمكن دخول البيوت التي تملأ لوحات أسعد عرابي قبل التمكّن من أسرارها الدفينة وترويض قوة تكوينها. لهذا الجانب سلبيته التي تكمن في برودة لحظة التلقي الأولى، ولهذا الجانب ايجابيته التي تكمن في قوة العلاقة الذهنية بين المتلقي والعمل. الأعمال المعروضة في دمشق تمتاز بمتانة أسلوبها. فالفنان يرسم طبقة لون فوق طبقة لون فوق طبقة أخرى، ما يُغني العمل ويعطيه بعده الوثائقي من جهة، والعقلاني من جهة أخرى. وهذه الطبقات التي تنتمي إلى فترات زمنية متعاقبة، تعطي احساساً بالتعمير. تعمير بيت دمشقي، يرفعه على طوابق عدة، ثم يمده احياناً ليصبح جزءاً من حي شعبي، ويملأه بالنساء والسواد وبعض الألوان الزاهية فيرشح حنيناً! مقاطع من الذاكرة تنطلق من البصري والملموس فنستشفّ ما وراءهما من عادات وتقاليد... مزاح وحوارات صغيرة وهمس، سكون الليل واللون، ضجيج تلك البيوت القديمة ورطوبتها في الصيف، الوفيات والولادات والشائعات. كل هذا نقرأه في حكاية اللوحة... في ذاكرة اللوحة. هل هي مادة الغواش الترابية تفوح منها رائحة البيت العتيق؟ أم هو الحنين وسطوته في ذاكرة الفنان؟ على بطاقة الدعوة إلى المعرض كتب الفنان التشكيلي الرائد فاتح المدرّس: "اننا أمام اعمال عرابي نقرأ رموزه البصرية، وهي أحياناً رموز صعبة. إنها ابجدية، وككل الابجديات تتمخّض بالضرورة عن لغة وجدانية... لا صوت لها الا ما تثيره من طنين بعيد في الذاكرة. إن نبض هذا الرنين مشحون بالخجل والجمال". في معرضه الأخير، يعود أسعد عرابي الى أجوائه الاولى بعد ان استغرقه التجريد طويلاً. يعاد إلى البيوت الدمشقية والنسوة المتلفعات بالسواد وغيرها من العناصر التي ميّزت بداياته وجعلته يبرز ضمن مجموعة من الفنانين الجدد. يعود إلى دمشق كأنّه على موعد مع شبابه، لكن بعد أن راكم خبرة عشرين عاماً... في عجائن اللون وخبرات التجريد.