ما هو الجديد الذي يقدمه الفنان التونسي عبدالرزاق الساحلي من مواليد الحمامات - عام 1941 في معرضه الفردي الأول له في بيروت غاليري جانين ربيز متضمناً 25 عملاً تشكيلياً اكريليك على قماش الخيش أو القنّب Jute؟ خروجه عن المفهوم التقليدي للوحة "الشوفاليه" المعلقة على الحائط؟ أم اختراقه للمادة ووسائل العرض في بحثه عن ينابيع التراث الشعبي التونسي؟ إزاء لوحات الساحلي ننسى قواعد الفن امام الاغراءات الحادة والقوية للعلاقات اللونية التي تصدم العين على نحوٍ غير متوقع. ثمة عالم سيميائي من الإشارات والرموز والعلامات الدالة وغير الدالة، يتدفق على المساحة التي يتعاطى معها الفنان بطريقة أوتوماتيكية، من شأنها ان تحرر اللوعي من قيوده حيث التصوير التشبيهي للرموز وبلاغة اختزالها يلتقيان معاً، في تكوين لغة نابعة من ثقافة بصرية وخبرة ومراس طويلين. ويتحول الفن الى ما يشبه الحَدَثْ أو الفعل Action المرهون بالانفعال والتواطؤ الضمني والشغف العميق، للتعبير الفوري. حيث أمام القماشة المنبسطة أفقياً، تكون كل الرغبات والمشاعر المبهمة والأحلام واقفة على حافة الريشة، على أهبة استعدادها في سعي ارتجالي يتحقق تباعاً. الا انه ينضوي على جانب كبير من التسلية والمرح واللعب والمراوغة لملء الفراغ. فالإشارات سابحة في بحر من المستجدات، على مسطح من بعد واحد، بلا منظور ولا أعماق موهومة أو بؤر مركزية. مع ذلك فإن لها قوة سحرية جاذبة ومثيرة، تطل من نقاط وحبيبات، ثم من مربعات صغيرة ومكعبات وأوراق نبات وسحابات ونجوم وشموس وأشجار وأزهار. مفردات تتوالد وتتعاقب، فتتجاذب أو يطارد بعضها بعضاً، في شبكة المربع الكبير، الذي يحوطه شريط الزخارف المضفورة ليختمه. هكذا تقبع الحركة الحقيقية في الداخل. أما المربع الخارجي فهو مركز الثقل والثبات وهو بديل عن الإطار أو "البرواز". أحياناً يترك الساحلي المربع الأليف للوحة، ويذهب الى مقاسات مغايرة. فيقصّ القماش على هيئة شرائط ثم يطويها تدرجاً على شكل موجة تذكر ببحر المتوسط. أو يقسم مساحته الى حقول أفقية متطاولة ويعلقها مثل أنصاب أو مسلات ويزينها بشتى أنواع الزخارف. وكل مفردة زخرفية يحفظها داخل مربع، لو يطلقها فتتراءى دفعة واحدة، الأسهم والمفرقعات النارية والأقمار والغيوم والأوراق. والأخيرة لا تلبث ان تتحول شخوصاً متوجة مثل شخوص أوراق اللعب سابحة أو ساقطة وربما طائرة. فالأشكال تتنوع بلا حصر وتمتلئ بها المساحة حتى لا يعود للفراغ مكان أو متنفس. ان الفن يعتمد التلقائية المطلقة والذاكرة الحية والموهبة المتوقدة للرسام الذي يمتلك بداهته في الرسم الغرافيكي والتلوين. والساحلي يده مطواعة وعالمه اللوني غني وصاخب ومتحرك لكنه كثيف من الاختناق. فأعماله شبيهة بالفسيفساء الحديثة، التي توحي برموز الفنون البدائية، قدر ما تحمل ذاكرة الزخارف في الفنون الإسلامية، لكنها في اتجاهها الجمالي والوظائفي، تعبر آكثر عن الموروثات البصرية الفنية للفنون الشعبية التونسية، التي تظهر على سطوح متنوعة، كالفخار والنحاس والخزف والسجاد وأقمشة الملابس الفولكلورية. هكذا يستعيد الساحلي ما كان للفن في التراث الإسلامي من قيمة بالغة الأهمية في حياة الفرد والجماعة، رابطاً بين الفن كحِرفة ومبادئ مدرسة "الباوهاوس". لذلك يردد الساحلي ان نصفه فنان تشكيلي ونصفه الآخر حرفي مزخرف. ثمة قرابة ظاهرية بين فن الشنسكي وغرافيكية الساحلي. لكن الأخير منح قماشته شرقيتها المميزة وسحر مظهرها الطبيعي الخام. إذ انها تتنفس من مساماتها ذات الثغرات مثل الجلد حين يستقبل الوشم، في حر الشمس المتوقدة أو في ظل الزخارف النباتية الزرقاء والبنفسجية المنقوشة على الخزف وعلى كسوات البيوت التونسية القديمة. لذلك حين رفض القماش الجاهز للوحة "الشوفاليه"، وراح يبحث عن المواد الفقيرة والمهملة، وجد ضالته في أكياس القنّب التي توضع تحت أشجار الزيتون في موسم القطاف، إذ العلاقة أمتن مع الأرض والمزارعين والفلاحين وفصول الطبيعة. وإذا كانت ملامح التنقيطية واضحة، فذلك لأنه رصد النقاط التي تمثل سقوط حبات الزيتون على الأرض. حبة خضراء وحبة سوداء. هكذا كانت بداية عمل الفنان الذي أخذ يرسم على طبقات عديدة من ذلك القماش، وذلك قبل أن يضرب لنا الأمثال عن كيفية استغلال وظائفه الجمالية في الحياة اليومية. فرش به الأرض، وغطاه بالرموز الطوطمية أو البربرية كبساط سحري لسفر العين عبر الزمن. كما صنع منه قفطاناً وقميصاً ووسادة ومحفظة وطربوشاً أو عمامة زينها بالنجوم. قد لا تتوقف استعمالات هذا القماش الذي يحلم الساحلي أن يلف به يوماً على طريقة كريستو بناءً قديماً ليجعله صرحاً نصبياً من الصروح الشرقية الحديثة. ويعود استخدام قماش القنّب في فن الساحلي الى خمس سنوات خلت. من قبلها رسم على أكياس من قرطاس أسمر هي التي يتداولها باعة الخضار. كما أخذه حنين الطفولة، الى الرسم على الألواح الأردوازية. والمثير انه استخدم أسلوب القص الذي طبقه على الرموز التي بات يتخللها الهواء في اللوحة المعلقة بحبال متدلية في السقف، وسلط عليها الإضاءة، في مناخ يشبه خيال الظل العربي قدر ما ينسجم مع الفن الحركي Art Cinژtique، وخاض في الاتجاه المعاكس، بلصق الرموز المقصوصة كقطع خشب منفصلة، على ألواح صماء. وسبق له واستجاب لنداءات الصورة الفوتوغرافية، فدخل في قصصها ومتاهاتها ودمجها بعد ان موهّها بكتابة غير مقروءة لقصائد شعرية أوتوماتيكية. اكتشف الساحلي في استيعابه العميق للمبادئ التي تحكم فنون ما بعد الحداثة وتجلياتها المتعددة المصادر والإلهامات، ان البساطة المدهشة تكمن في قوة المخزون العاطفي والحضاري والتراثي الذي يمتلكه الفنان في بصيرته وقلبه. وذلك أثناء اقامته الطويلة في باريس التي دامت 17 عاماً درس فيها الرسم والتصوير والحفر على المعادن وانخرط في محترفاتها وحصد نجاحاً في معارضها الجماعية ذات الإطلالة العالمية. إلا انه أدرك أن الفن لم يعد فقط اداة جمال بل هو أيضاً تفكير قدر ما هو حاجة حياتية. لذلك انقلب على التجريد الغنائي وراح يفتش عن أسرار الطاقة التي تمنحها الخامات والمواد والتقنيات. آمن بأن اللوحة ما هي إلا جسد الإشارة ومقامها الأعلى في تخيلات الرؤية، مثلها مثل سجادة شرقية جميلة تردد طقوساً. وقد يعبّر تنويع الخامات والمواد، عن خشية الساحلي الوقوع في النمطية. لكنه لا يستسلم لوله التكرار انما يهرب الى أسراره "مثل هروب طفل كبير يبحث عن آفاق لا يمكن بلوغها" - كما يقول الناقد علي اللواتي. فهو صاحب الخواطر الطليقة ومجرب ومغامر كبير لأن لديه الوعي الشعري لوحدة الفنون، بين رسم وتزويق وشعرية بصرية وتأويل. وهو انفعالي تلقائي يؤمن بالحدس لذلك يصل الى الدهشة. يزرع الفرح في تضاريس حكايات النسيج الشعبي باحثاً في تلافيف خيوطه عن جذور وربما عن واحة خضراء من رقصات وأعياد واحتفالات حيث تنطلق من يديه رؤوس النبات كالزغاريد. وهو يشبك الأغصان والفروع، ويرصف الحبات المتشابهة وغير المتشابهة في خيط واحد. يرسم لمتعة الرسمة. على المتن والهامش، مثل وشم على الزند المطوق بسوار. ينقل الى الحداثة حقائق التصوير الجديد في فسيفساء شرقي بهي.