الدعيلج: ننفذ أفضل الممارسات في صناعة الطيران المدني    أمراء المناطق يناقشون توفير أفضل البرامج والخدمات للمواطنين    «السعودية للطاقة» الأقل تكلفة لإنتاج الكهرباء من «المتجددة»    مجلس الطيران العالمي    تسعيني ينال الثانوية قبل وفاته بأيام    السعودية تستثمر في «إنتاج أبطال» سعوديين بدل «التجنيس»    تعديل في تنظيم هيئة تنفيذ اتفاقيات حظر الأسلحة الكيميائية    القتل للإرهابي «آل جوهر».. هدد الأمن الوطني    700 ألف صك صدرت عبر البورصة العقارية    منى زكي تجسّد دور «أم كلثوم».. وحفيدها يعترض !    600 متخصص و160 ورقة علمية في مؤتمر الطب المخبري    بتوجيه خالد الفيصل.. نائب أمير مكة يرأس اجتماع لجنة الحج المركزية    احذر.. قد يأتيك السرطان من داخل سيارتك !    تلوث الهواء يزيد خطر الإصابة بالخرف !    أنواع من الشاي الأشهر حول العالم    الأخضر تحت 17 لرفع الأثقال يشارك في بطولة العالم بالبيرو    مجلس تراحم الباحة يعقد اجتماعه الأول لعام 2024 .    برعاية وزير الداخلية.. تخريج الدورة التأهيلية للفرد الأساسي لمجندات الدفعة السادسة في معهد التدريب النسوي    سيدات الشباب يتوجن بلقب بطولة الصالات في نسختها الثانية    نقل مباراة الهلال والطائي من ملعب المملكة أرينا إلى ملعب نادي الشباب    الرائد .. تذاكر مباراتنا أمام الأهلي متاحة الآن    عقد ضخم ينتظر حارس ليفربول والثقافة السعودية تحفز نجم ال" ميلان" للانتقال إلى روشن    الهلال يستعيد سالم قبل النهائي المرتقب    الرؤية والتحول التاريخي ( 3 – 4)    تطوير مناطق صناعية ولوجستية    لجنة شورية تناقش حقوق المستهلك    "هدف": نعمل على تمكين استدامة التوظيف لفئات المستفيدين عالية المخاطر    فرضية في طريق الهجرة استعداداً لموسم الحج    لدى ترؤسه جلسة مجلس الوزراء.. ولي العهد يطمئن الجميع على صحة خادم الحرمين    ولي العهد‬⁩ يطمئن الجميع على صحة ⁧‫الملك سلمان    أمير المدينة يستقبل المشايخ ومديري الإدارات الحكومية المدنية والعسكرية    نائب أمير الرياض يرعى حفل التخرج بمدارس الملك فيصل    ترجمة الهوية    أنيس منصور الذي عاش في حياتنا 2-2    اطلاق برامج دعوية لخدمة ضيوف الرحمن    دبابات الاحتلال تحاصر مستشفيات شمال غزة    الدولة واهتمامها بخدمة ضيوف الرحمن    مذكرة تفاهم لتوفير مياه زمزم لحجاج الداخل    بتوجيه من أمير مكة.. الأمير سعود بن مشعل يرأس اجتماع لجنة الحج المركزية    السعودية.. إنجازات وطموحات رائدة نحو الفضاء    تويتر ينتقل نهائياً إلى«إكس دوت كوم»    اطلع على برامج التدريب التقني.. أمير القصيم ينوه بدور«الشورى»    هديتي تفاحة    لمرضى الروماتيزم في الحج .. مختص: تناولوا الأدوية في مواعيدها    غرور الهلاليين وتواضع الأهلاويين    تكريم الفائزين والفائزات بجائزة الشيخ محمد بن صالح    أشيعوا بهجة الأمكنة    نائب أمير المنطقة الشرقية يشهد حفل تخريج طلاب كليات الأصالة    ماذا بعد وفاة الرئيس الإيراني ؟    أمير الرياض يستقبل ابن عياف وسفير كازاخستان    إصدار 700 ألف صك عبر البورصة العقارية    «الذكاء الاصطناعي» الأوروبي.. إنفاذ القانون والتوظيف    IF يتصدر شباك التذاكر    الانتخابات الرئاسية الإيرانية في 28 يونيو    نائب وزير الخارجية يقدم واجب العزاء والمواساة في وفاة رئيس إيران    السعودية تحقق أكبر تحسن إقليمي في قطاع السياحة منذ 2019    أمير القصيم يستقبل ووفداً من أعضاء مجلس الشورى ونائب المحافظ لخدمات المساندة بالتدريب التقني    كفاءات سعودية تتحدث الإندونيسية بجاكرتا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الوسط" تنشر على حلقات كتاب نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية اللبناني السابق . ايلي سالم يتذكر : أميركا رفضت دعم عون للرئاسة لأنها لا تثق بالجنرالات" وسورية وقفت ضده "لأنه لا يعرف كيف يحسم أمره" 18
نشر في الحياة يوم 24 - 05 - 1993

يتناول الدكتور ايلي سالم نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية اللبناني السابق في هذه الحلقة الثامنة عشرة من مذكراته التي تنشرها "الوسط"، معركة انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفاً للرئيس امين الجميل والاتصالات التي جرت بين الولايات المتحدة وسورية بهذا الشأن.
وقد شغل ايلي سالم منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية اللبناني في عهد الرئيس الجميل وكان مستشاره للشؤون السياسية والاتصالات العربية والدولية. وشارك سالم طوال عهد الجميل من ايلول - سبتمبر - 1982 الى ايلول - سبتمبر - 1988 في صنع القرارات السياسية التي اتخذت خلال هذه الفترة. وفي الاتصالات المختلفة اللبنانية - العربية - الدولية، واطلع على مجموعة كبيرة من الاسرار المتعلقة باسرائيل ومخططاتها في لبنان، وبسورية، وبالولايات المتحدة والدول الكبرى الاخرى، وبالفلسطينيين، وبالايرانيين، وبدول عربية اخرى لعبت ادواراً مختلفة في الساحة اللبنانية. من هنا اهمية مذكراته هذه التي تكشف اسراراً ومعلومات جديدة ليس فقط عن لبنان وصراعات القوى المختلفة فيه، بل ايضاً عن منطقة الشرق الاوسط، وقد حصلت "الوسط" من الدكتور ايلي سالم على حقوق نشر مذكراته هذه، على حلقات، في المجلة. وفي ما يأتي الحلقة الثامنة عشرة من هذه المذكرات.
في تموز يوليو 1988 احتدمت معركة انتخاب رئيس جديد خلفاً للرئيس أمين الجميل واخذ المرشحون الذين قارب عددهم العشرين، وجميعهم طبعاً من الموارنة، يتجهون بأبصارهم نحو المركزين الرئيسين لمسار العملية الانتخابية وهما دمشق والسفارة الاميركية في بيروت.
والمرشحون الموارنة جميعهم في واقع الامر خريجو الجامعة اليسوعية في بيروت والمؤسسات التعليمية في فرنسا. ويحمل جميعهم، مع استثناءات قليلة، اجازات في الحقوق ويتكلمون الفرنسية بطلاقة ويرتاحون للتعامل مع الفرنسيين. ولغتهم الانكليزية ضعيفة او لا يعرفون منها جملة واحدة، كما ان معرفتهم بالولايات المتحدة او بريطانيا محدودة، وهي، حتى في حال وجودها تنطلق من منظور فرنسي، ولم يكن يروق لهم بروز الدور الاميركي بهذا الشكل لأنهم لا يعرفون كيف يتعاطون معه بسهولة. وزاد الطين بلة، بالنسبة اليهم، انهم كانوا تقليدياً يميلون الى المبالغة في اهمية مكانة السفير الاميركي ويظنون انه الناخب الاكبر في الانتخابات الرئاسية اللبنانية. وكانوا، بسبب ضعف المامهم باللغة الانكليزية وضآلة فهمهم العقلية الاميركية، يغالون في التقرب اليه والتسابق في عرض قضاياهم عليه عن طريق الدعوات المتكررة وحفلات العشاء الفاخرة والإطناب في مديحه والثناء عليه. لذا كان اي سفير اميركي في بيروت يحتاج الى التحلي بمرونة نفسية جبارة بسبب هذا الفيض من الالتزامات الاجتماعية والاهتمام الذي يحظى به في لبنان، كي يعتاد التأقلم على العيش به مهمل وكنكرة في اوساط واشنطن حين يعود اليها بعد انتهاء مهمته في بيروت. وابلغني احد السفراء الاميركيين مرة انه على وشك ان يستضيف زائراً مهماً من واشنطن، وانه سيدعو المرشحين للانتخابات الرئاسية اللبنانية الذين يزيد عددهم على العشرين جميعاً الى حفل العشاء على شرف زائره. وقال لي: أراهنك على ان كلاً منهم سينتحي بضيفي جانباً ويقول له: "انا المرشح الافضل، او انا صديق ابو جمال نائب الرئيس السوري عبدالحليم خدام، او الرئيس الاسد يفضلني على غيري، او انا ايضاً لي صلات سرية مع اسرائيل؟ او اريد دعماً اميركياً". وهناك عدد من التفسيرات لسلوك المرشحين على هذا النحو قد تعود جذوره الى القرن الماضي حين كان "القناصل" الاجانب يمارسون نفوذاً عظيماً في الحياة السياسية اللبنانية. والرئيس اللبناني، كما هو معروف، ينتخب من قبل مجلس النواب لا من قبل الشعب مباشرة، وجرى التقليد ان يتم التوصل الى اجماع على شخص الرئيس المختار ومن ثم يدعى البرلمان الى الاجتماع لانتخاب الرئيس الذي اتفق على ترشيحه مسبقاً. والنفوذ الخارجي، الدولي او الاقليمي، قوي في لبنان بسبب طبيعة التعددية داخل المجتمع اللبناني والروابط الوثيقة بين الفئات المختلفة فيه و "الاصدقاء" في الخارج.
وكان الرئيس بشارة الخوري انتخب بدعم من الحلفاء. والرئيس فؤاد شهاب انتخب بعد الاتفاق عليه بين المبعوث الاميركي روبيرت مورفي والرئيس المصري جمال عبدالناصر. والرئيس الياس سركيس انتخب بتدخل سوري مباشر. والرئيس بشير الجميل اختير في اعقاب الغزو الاسرائيلي وبدعم اميركي قوي. وكان الرئيس امين الجميل الخيار الطبيعي بعد اغتيال اخيه بشير.
خدام وعون
وكان من المتوقع ان تكون الولايات المتحدة وسورية، نظراً الى النفوذ السوري الكبير في لبنان والى علاقات واشنطن بالاطراف المعنية بالصراعين اللبناني والفلسطيني، الناخبين الرئيسيين هناك، لا لأنهما تشاركان في التصويت، بل لأن النواب اللبنانيين، وهم الناخبون الفعليون، كانوا يعتبرون هاتين القوتين الناخبين الرئيسيين. وكان النواب يدركون ان المرشح الذي يحظى بدعم الولايات المتحدة وسورية سيفوز، لذا كانوا يرغبون في معرفة اسمه مسبقاً كي يحتشدوا لتأييده. وقد منحت تصرفات المشرحين التي كانت تتأثر بالغضاضات السياسية الناجمة عن الحرب الاهلية، كلاً من واشنطن ودمشق نفوذاً للتأثير في العملية الانتخابية اعظم مما كانتا تأملان فيه.
ففي دمشق، اجرى نائب الرئيس السوري عبدالحليم خدام، مقابلات مع المرشح تلو الآخر مرشداً كلاً منهم الى الطريق الانسب لتسيير حملته الانتخابية لدى اعضاء البرلمان الذين ينحصر فيهم انتخاب الرئيس. ومع ان التقليد - كما ذكرنا - جرى ان يكون الاتفاق تاماً على شخص المرشح قبل طرح اسمه امام الناخبين من اعضاء المجلس النيابي اللبناني، فقد جرى مرة ان نشبت مشادة انتخابية ساخنة في المجلس وفاز الرئيس المنتخب بفارق صوت واحد. ففي الحادي والعشرين من تموز يوليو وقفت "القوات اللبنانية" علناً ضد ترشيح ريمون اده، والعماد ميشال عون وسليمان فرنجية للرئاسة. وكان الرئيس الجميل متعاطفاً مع موقفها السلبي حيال المرشحين الثلاثة. وسرت اشاعات قوية بأن العماد عون يدبر انقلاباً يقوم به خلال فترة الانتخابات اواخر ذلك الشهر. غير ان الجميل ومستشاريه العسكريين لم يأخذوا تلك الاشاعات على محمل الجد. وعلمنا من خلال المرشحين الرئاسيين الذين التقاهم خدام في دمشق ان فرص عون في ان يصبح رئيساً لم تكن جيدة، اذ كان نائب الرئيس السوري يعتبره شخصاً لا يعرف كيف يحسم امره وانه اضاع اربع فرص: اولاها انه كان قادراً على انهاء ايلي حبيقة حين شق طريقه الى حي الاشرفية في بيروت، وثانيها انه كان ينبغي ان يرد بحزم للمحافظة على الروح المعنوية للجيش اثر اغتيال العميد خليل كنعان، وثالثها انه كان يمكن ان يحسن سمعته اثر اغتيال الرئيس رشيد كرامي في مروحية تابعة للجيش، ورابعها انه كان ينبغي ان يتصدى للرئيس الجميل حين وبّخه امام ضباطه لطموحه في ان يصبح رئيساً للجمهورية. وتساءل خدام: "كيف يمكن لأحد ان يتصور ان نؤيد مرشحاً كهذا؟".
وتصاعدت حمى الانتخابات مع اقتراب موعدها. ويقضي الدستور اللبناني بأن يتحول مجلس النواب خلال الشهر المحصور بين 23 تموز يوليو و23 آب اغسطس الى هيئة انتخابية، ويمكن ان يدعى من قبل رئيسه خلال هذه الفترة في اي وقت لانتخاب رئيس الجمهورية الذي يتسلم منصبه في 23 ايلول سبتمبر. واذا لم يتيسر، لسبب ما، اجراء الانتخابات خلال تلك الفترة فيمكن اجراؤها في اي وقت لاحق حتى يوم 23 ايلول سبتمبر. وكان الرئيس الجميل يتباحث مع مستشاريه يومياً تقريباً في شأن الاسماء الثلاثة التي كان سيرسلها الى الرئيس الاسد عن طريق العميد غازي كنعان، وكانت تلك الاسماء تتغير يومياً, وكان واضحاً انه لم يكن من السهل على الرئيس خلال فترة رئاسته ان يختار خلفه. وبدا ان الاسماء التي كانت تحظى بفرصة للفوز من صفوف النواب هي: رينيه معوض وميخايل الضاهر وبطرس حرب والياس الهراوي؟ والاسماء من خارج المجلس النيابي هي: جان عبيد وجوني عبدو وميشال خوري وجورج فرام ومانويل يونس وميشال اده. اما الرئيس السابق سليمان فرنجية والعماد ميشال عون وريمون اده فقد وصفوا بأنهم "مرشحو المواجهة". وابلغ الاميركيون الرئيس الجميل ان فرنجية "لن يُنتخب".
وكان المرشحون غير المعروفين اكثر لفتاً للانتباه، وكنت استمتع بالحديث معهم اكثر من حديثي مع غيرهم. وهذه ظاهرة عامة. وما جعل الامر اكثر طرافة بالنسبة الينا ان السفراء لا يستطيعون على الفور ان يميزوا بين المألوف والشاذ، او بالاحرى ما هو دون المألوف، وهم غالباً ما ينقلون في تقاريرهم اموراً كان الاجدر ان تذكر في "كشكول" للطرائف.
وقدم لنا سمير جعجع اقتراحاً طلب منا نقله الى الرئيس الأسد عبر مساعد وزير الخارجية الاميركي ريتشار مورفي، يقضي بأن يقترح الرئيس السوري ثمانية اسماء فتنعكس بذلك الآية، ونختار نحن ثلاثة من هذه الاسماء الثمانية ونعرضها على الاسد ليختار من الثلاثة اسم المرشح الرئاسي الذي يريد. وكان التنسيق بين الجميل وجعجع في تلك المرحلة جيداً. ولم يكن الاميركيون على استعداد لنقل اي اسم الى دمشق ما لم يوافق عليه كل من الجميل وجعجع، اذ كانوا يعتبرون ان اياً منهما بمفرده لا يتمتع بتمثيل المسيحيين. والتقينا مورفي في بيروت يوم الرابع من آب اغسطس 1988 واصدرنا بياناً نؤكد فيه ضرورة اجراء انتخاب والحاجة الى التمسك بأحكام الدستور ومسؤولية اللبنانيين في "اختيار رئيسهم الجديد".
رينيه معوض
وفي الخامس عشر من آب اغسطس 1988 اجتمع الرئيس الجميل الى كريم بقرادوني والعقيد سيمون قسيس وانا وتقرر في ذلك الاجتماع ان نرسل ثلاثة اسماء الى الرئيس الاسد حسب اقتراحه. واستقر رأينا على ارسال اسماء ميشال اده وبيار حلو ومانويل يونس الى الاسد. واتصل العقيد قسيس بالعميد غازي كنعان تلك الليلة وابلغه اننا اتفقنا على الاسماء المقترحة. ولم يبد العميد كنعان اي اهتمام على الاطلاق، مما دفع قسيس الى الاتصال به ثانية صباح اليوم التالي ليسمع هذا الجواب: "تأخرتم كثيراً، سورية قررت ان تدعم ترشيح فرنجية". ونجم عن ذلك ترسيخ التحالف بين الجميل وجعجع اللذين اخذا يعدان العدة لتعطيل جلسة البرلمان الانتخابية بالقوة. وكان تقرر عقد تلك الجلسة في الثامن عشر من ذلك الشهر اي بعد ثلاثة ايام من اتفاقنا على اسماء المرشحين. وفي السابع عشر منه اتصل العميد كنعان بالعقيد قسيس وطلب منه الاسماء الثلاثة، فأرسلها قسيس على الفور. وفي ذلك اليوم، الذي صادف الاربعاء، اعلن الرئيس السابق سليمان فرنجية ترشيحه لمنصب الرئيس وانهمك الجميل وجعجع طوال ذلك النهار في دفع النواب الى التغيب عن حضور جلسة اليوم التالي كي لا يكتمل النصاب. وخلال الليل ارسلت "القوات اللبنانية" بعض المسلحين لمنع وصول النواب الى مبنى البرلمان. وتعاون الجميل وعون ايضاً في ذلك على رغم اختلاف هدفيهما. واختطف بعض النواب من الذين تجرأوا على تحدي الحواجز التي اقيمت على الطرق المؤدية الى المبنى حتى الظهيرة حين اعلن ان الجلسة الغيت بسبب عدم اكتمال النصاب القانوني. وحين زرت احد النواب لتهنئته بعد الافراج عنه سمعته يروي بعصبية قصة احتجازه لزواره ويقول: "فيما كنت اقود سيارتي الى البرلمان اوقفني مسلحون وطلبوا مني ابراز هويتي. فأبلغتهم انني نائب ومتوجه الى البرلمان لأقوم بواجبي، فأجابوني: هوهو، نائب! يا عيني على هالصيدة! فاحتجزوني". وحضر نواب آخرون ورووا قصصاً مماثلة.
وطلب منا رينيه معوض، خشية غضب السوريين ازاء تعطيل الجميل - جعجع - عون انتخاب فرنجية، ان لا نقدم اسمه كمرشح مقبول من الجميل عون وجعجع. وقال: "تلك ستكون قبلة الموت. اتركوا اسمي للمباحثات الجادة بين الاسد ومورفي". ولقد غضب السوريون فعلاً، وصرح نائب كان اجتمع لتوه الى خدام ان السوريين يكاد يجن جنونهم من تصرف الجميل وجعجع وعون لتعطيل انتخاب فرنجية الذي سيظل مرشحهم، واذا عطلت الجلسة الانتخابية ثانية فستبقى حكومة سليم الحص قائمة وستتولى مهام رئيس الجمهورية اعتباراً من الثالث والعشرين من ايلول سبتمبر، وستشرف هذه الحكومة على اجهزة الدولة جميعاً، ولا سيما المصرف المركزي حيث يحفظ احتياطي الذهب، وستتمتع الحكومة بصلاحية اجبار العماد عون على اطاعة اوامرها، واذا رفض فسينحى عن منصبه ويستبدل بقائد آخر للجيش حتى لو اضطر الى ان يكون مقره في بيروت الغربية، وسيطلب من المصرف المركزي ان لا يصدر نقداً للذين يتحدون سلطة الحكومة في بيروت الشرقية. لكن كل المؤشرات الآتية من سورية كانت تلمح الى وجود مصلحة لدمشق في استمرار العملية مع الولايات المتحدة للتوصل الى اتفاق بشأن الرئيس اللبناني المقبل.
في الرابع من ذلك الشهر كنت التقيت مورفي في بيروت واتفقنا على "نقاط محادثات" بالنسبة الى مداولاته المقبلة مع الرئيس الاسد والتي انحصرت في بحث الانتخابات الرئاسية في لبنان. وتضمنت تلك "النقاط" ما يأتي: رفض اي مرشح متطرف، رفض اي مرشح من حزب الكتائب او "القوات اللبنانية"، الحاجة الى انتخاب رئيس وفاقي يحظى بإجماع واسع لا في اوساط المسيحيين فحسب بل لدى المسلمين ايضاً، ويكون منفتحاً لاجراء حوار مع سورية وراغباً في تبني اصلاحات سياسية في البلاد.
التقى مورفي الرئيس الاسد في دمشق يوم الثامن من آب اغسطس 1988 وعلم منه ان سورية تدعم ترشيح فرنجية لمنصب الرئاسة ثانية. لكنها لا تشجعه على ترشيح نفسه. ولم تكن سورية ترغب ان يتبوأ ذلك المنصب رئيس يخضع لسيطرة احدى الميليشيات. وكان يبدو ان هناك اتفاقاً عاماً بين الاسد ومروفي على "نقاط المحادثات"، لكن لم يتخذ الطرفان خطوات محددة ملموسة. واصبح الاجتماع المأمول بين الرئيسين الجميل والاسد بعيد المنال، وبالتالي تعين على الجميل ان ينقل اي رسالة يرغب في نقلها الى نظيره السوري عن طريق مورفي. وبعد بضعة ايام زارني الديبلوماسي الاميركي سيمبسون لشرح بعض ملامح مباحثات مورفي مع الرئيس الاسد في دمشق. وقال ان سورية، في حين تدعم فرنجية، تبقي الباب مفتوحاً امام المرشحين الآخرين، وان خدام اقترح انه "يتعين ان نجد ثلاثة مرشحين او اربعة"، وهو أمر اعتبره سيمبسون مشجعاً. كما كانت سورية مصرة على ان تجرى الانتخابات خلال الفترة التي ينص عليها الدستور. وكان سيمبسون يعتقد ان الرئيس السابق سليمان فرنجية سيرشح نفسه، لكنه لن يفوز في الانتخابات. غير ان ترشيحه سيزيد فرص ميخايل الضاهر وميشال عون في الفوز. وان لم يكن في وسع الجميل تأييد اي منهما، فعليه ان يرسل قائمة بأسماء اخرى كي تبحث في دمشق عبر مسار العملية الاميركية. وكان سيمبسون اجرى لتوه مباحثات ناجحة مع الضاهر واكتشف انه مرشح جيد على رغم ان سيمبسون اكد ان الولايات المتحدة لا تتبنى اي مرشح. واضاف ان بلاده تعرف ان هناك عدداً من المرشحين والمعتدلين امثال رينيه معوض وميشال اده ومانويل يونس وبيار حلو وجورج فرام. ويمكن التوسع في هذه القائمة حسب المناسب. وابلغني ان الولايات المتحدة لا تدعم عون، وهي ترى انه رجل هادئ وشريف، لكنه ليس سياسياً، وواشنطن لا تثق بالجنرالات، فهم لا يعرفون اسلوب الحكم بالإجماع. وحين يدخلون الحكم يرفضون الخروج منه. وينفقون الاموال الطائلة على الجيش ويحيطون انفسهم بضباط كبار لا يعرفون الا القيادة ضمن اطار نظام التسلسل العسكري. واكد لي سيمبسون ان دور اسرائيل في الانتخابات الرئاسية اللبنانية ضئيل جداً وقال: "ابلغناهم الاسرائيليين ان لا يتدخلوا هذه المرة، فنحن نعالج هذه المسألة". ولم نكن ندري ما كان الاسرائيليون يريدون، فهم لم يعودوا مهتمين كما كانوا عام 1982، لكن كانت لهم مصالحهم ومخاوفهم، ولم تكن هذه المصالح والمخاوف بعيدة عن الارتباط بالانتخابات الرئاسية في لبنان.
ماذا قال شارل حلو؟
حتى الثامن والعشرين من آب اغسطس 1988 كان الموقف الاميركي هو ان واشنطن على استعداد لأن تبحث مع السوريين مواصفات الرئيس اللبناني الجديد وطريقة انتخابه. وفي ذلك اليوم ابلغني السفير الاميركي كيلي ان وزير الخارجية شولتز خول مورفي صلاحية بحث اسماء المرشحين مع الرئيس الاسد، وان يعرف منه رأيه في الاسماء الثلاثة التي اقترحها الجميل في السابع عشر من ذلك الشهر. واذا لم يوافق على اي منها فليقترح اسماء اخرى لينقلها مورفي من ثم الى بيروت ويطلع على رد فعل الجميل والقادة اللبنانيين الآخرين. واضاف كيلي انه لا يعرف اذا كان مورفي سيقوم بديبلوماسية مكوكية بين دمشق وبيروت. وابلغني ايضاً ان الولايات المتحدة تجري اضافة الى ذلك اتصالات مع فرنسا والفاتيكان للمساعدة في انتخاب رئيس لبناني قبل الثاني والعشرين من ايلول سبتمبر 1988.
في تلك الفترة كان البطريرك الماروني صفير التقى النواب الموارنة واصدر بياناً في الحادي والثلاثين من آب اغسطس حض فيه على انتخاب الرئيس قبل الموعد النهائي، وعلى التعاون مع سورية وغيرها من الدول لضمان تأمين الانتخاب وطرح الاصلاحات الجديرة بمستقبل لبنان. وكانت سورية، كلما زادت اصراراً على فرنجية تضاءلت الفرص في اجراء الانتخابات. وكان الجميل وجعجع وعون حتى ذلك الحين اتفقوا على اتخاذ موقف سلبي من الرئيس فرنجية ولم تكن هناك دلائل حتى ذلك الحين ايضاً على ان سورية من جهة وكلا من الجميل وجعجع وعون من جهة ثانية سيتفقون على اي مرشح. لذا تعين على الرئيس الجميل ان يدرس في شكل جاد مسألة تحديد نوع الحكومة التي ستتسلم مهام الرئاسة في لبنان بعد انتهاء رئاسته يوم الثالث والعشرين من ايلول سبتمبر. وخطرت له، ولكن للحظات قصيرة، فكرة ابقاء حكومة سليم الحص بعد توسيعها لتتمتع بقاعدة تمثيلية اوسع، لكن الجميل عاد وفكر ثانية: انه ماروني ينتمي الى حزب يميني وهو ابن زعيم يميني ويمثل الفئة المارونية التي تعتبر اسرته ان مصيرها ومصير الرئاسة المارونية في لبنان كل لا ينفصم. وقرر انه اذا لم ينتخب الرئيس بحلول منتصف ليل الثاني والعشرين من ايلول سبتمبر فسيعين حكومة يرأسها ماروني، كما فعل اول رئيس للبنان المستقل الشيخ بشارة الخوري. وقد تخللت الاسبوعين الاخيرين من فترة رئاسة الجميل ازمة انتخاب الرئيس الجديد وأزمة تأمين حكومة انتقالية في حال عدم اجراء الانتخاب. وكان الرئيس السابق شارل حلو الشخصية التي فكر فيها الرئيس الجميل لرئاسة الحكومة الانتقالية. وارسلني الرئيس مع سيمون قسيس لبحث هذا الموضوع مع الرئيس حلو. وبعد مقدمة طويلة مني قال لي حلو: "لا اعرف ما تريد. تريدني ان اكون رئيس الوزراء. لا استطيع ذلك. لقد عجزت، وزوجتي مريضة. لكني حضّرت نفسي، وها هي قائمة المرشحين التي اعددتها. اقترح غسان تويني، فهو يملك صحيفة عظيمة ولا تنقصه الخبرة. صحيح انه يتحدث كثيراً، لكن في حديثه مغزى بعض الاحيان". وطرح اسمي وقال اني جديد في عالم السياسة ولا يزال امامي بالطبع الكثير كي اتعلم. ولكن لم لا؟ وجوزيف هاشم؟ كان الرأي فيه انه - بخلافي - لم يتعلم فن الانصات. ومضى الرئيس حلو في طرح الاسماء، وعبده عويدات؟ انه نائب ممتاز، مع اني آخر مرة شاهدته فيها كان يبدو عجوزاً ويكاد لا يقوى على الكلام. والعماد عون؟ لا، لا. ارجوكم امحوه من السجل، ولا تقولوا للرئيس الجميل انني اقترحت اسمه. وفرنجية؟ انه رجل طيب، لكنه على الارجح سيدخل السوريين الى بيروت الشرقية. لا. لا يصلح. ما رأيكم بميشال اده؟ هو حتماً يملأ مركزه ومؤهل من كل الجوانب، فيما عدا انه لا يعرف كيف يتوقف عن الكلام. ايضاً القاضي جبران لم اسمع به قط، انه احد اقاربي وقاض ممتاز لكنه على الارجح لا يصلح ان يكون سياسياً جيداً". وهكذا مضى الرئيس حلو يسرد قائمة طويلة من مرشحيه ثم يسقط الواحد منهم تلو الآخر. وكان واضحاً انه مهتم بالقضية، وراغب في ان يعرض عليه منصب تكون له فيه كلمة اقوى في العملية الانتخابية. وكان يتسم بالاعتدال ويحظى بثقة الجميل وجعجع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.