بدأت الصالات الاميركية تعرض فيلم "إيليان 3" او "الغريب" وهو الجزء الثالث من الفيلم الذي كان ريدلي سكوت ثم جيمس كاميرون حققا جزئيه الاولين خلال الاثني عشر عاماً الاخيرة. هنا من جديد تطالعنا ريبلي سيغورني ويفر رائدة المفاوضات في معركتها المتواصلة مع مخلوقات الفضاء الغريبة، وقد اتخذت هذه المرة، على يدي مخرج في الثامنة والعشرين من عمره، يخرج للمرة الأولى فيلماً طويلاً، شخصية امرأة مستقبلية تخوض معركة بائسة تنتهي بها الى بئر من دون قرار. في العام 1986، حين انتهى جيمس كاميرون من تصوير الجزء الثاني من فيلم "إيليان" الغريب سئل خلال حديث صحفي عن الامر الوحيد الذي كان من شأنه ان يحول بينه وبين تحقيق هذا الفيلم، فقال دون تردد: "فقط عدم قبول سيغورني ويفر بتمثيل دور ريبلي في الفيلم، كان من شأنه ان يردعني عن خوض التجربة". لكن سيغورني قبلت بتأدية الدور وتحقيق الفيلم وحقق خلال الاسابيع الاولى لعرضه اكثر من ثلاثة ملايين دولار من الايرادات. صحيح ان النقاد اجمعوا يومذاك على ان الجزء الثاني من "ايليان" الذي حققه كاميرون لا يرقى الى المستوى الابداعي الذي كان عليه الجزء الاول الذي حققه الانكليزي الكبير ردلي سكوت، غير ان هذا لم يمنع الفيلم من النجاح تجارياً، كما لم يمنع اوساط شركة فوكس من التفكير على الفور بتكرار التجربة وتحقيق "إيليان 3". لكن الامور لم تكن بالسهولة التي تصورها الموزعون الهولنديون الكبار يومذاك. ولم تكن سيغورني ويفر هي السبب. فالفاتنة الهوليوودية اعلنت منذ البداية انها لن تتوانى عن العمل في الجزء الثالث حالما يطلب منها هذا. وما قبول سيغورني الطوعي هذا سوى ضوء اخضر اساسي يمكنه ان يحرك كل الماكينة الانتاجية والتوزيعية. العقبة الاساسية كانت تكمن في العثور على الحبكة والسيناريو الملائمين، وذلك لأن "إيليان" ليس مجرد حكاية خيال علمي، يمكن لمخيلة كاتب ان تبتدعها خلال ايام. تنتمي سلسلة "إيليان" الى نوع فريد من سينما الخيال العلمي، نوع تمتزج فيه رؤية المستقبل بأهواله المرعبة بنزعة انسانية لا شك فيها، بابعاد سياسية يختلف تقديرها باختلاف وجهة النظر اليها. و"ريبلي" رائدة الفضاء التي تلعب دورها سيغورني ويفر في الاجزاء الثلاثة هي، على الارجح، الاكثر انسانية بين كافة ابطال افلام الخيال العلمي، هذا اذا استثنينا بعض ابطال ستانلي كوبريك بالطبع. ومن المؤكد ان هذه الحقيقة تكفي لتفسير عبارة جيمس كاميرون المذكورة آنفاً، كما تكفي لتفسير النجاح الكبير الذي حققته السلسلة، وكذلك تردد اصحاب الشأن طويلا قبل اقدامهم على تحقيق كل حلقة من حلقات السلسلة، وحسبنا لتلمس هذه النقطة الاخيرة ان نذكر ان "إيليان" ردلي سكوت حقق في العام 1979، فيما حقق جيمس كاميرون جزأه الخاص في العام 1986، واضطر المنتجون لانتظار ستة اعوام اخرى وتبديل نصف دزينة من الكتّاب والمخرجين قبل انجاز الحلقة الثالثة. رواد الفضاء في الفخ اليوم يتوجه المتفرج بكل بساطة لمشاهدة "إيليان 3"، ومعايشة ريبلي سيغورني ويفر في مغامرتها الفضائية… فماذا لو يعرف شيئاً عن تفاصيل مغامرة تحقيق هذا الفيلم الجديد؟ قبل ان نطل على هذه المغامرة لا بد بالطبع من انعاش ذاكرة القارئ باستعادة بعض تفاصيل الجزئين الأولين من السلسلة. فالذين قيض لهم ان يشاهدوا الجزء الأول - وهم كثيرون - يتذكرون بالطبع تفاصيل حكاية رواد الفضاء السبعة الذين يتوقفون، خلال عودتهم من مهمتهم على متن مركبتهم التي حمّلوها بمئات ألوف الاطنان من المعادن الفضائية، عند كوكب مهجور انطلقت منه صرخات استغاثة فيتوجهون اليه، فيتعلق ببذلة واحد منهم الفضائية مخلوق عضوي، مما يدلع "ريبلي" رائدة الفضاء الى الاصرار على عدم دخوله الى المركبة اذ ادركت الخطورة في ذلك. لكن العالم آش، يساعده على الدخول بدافع من فضوله العلمي. وعلى هذا النحو يتمكن المخلوق الغريب "إيليان" من دخول المركبة ويبدأ بابادة الرواد واحداً بعد الآخر، اثر عمليات مطاردة مرعبة تنتهي بتسلم ريبلي للقيادة، ثم بتدميرها للمركبة الفضائية وبدء استعدادها لخوض المعركة النهائية مع المخلوق الفضائي المرعب. عند هذا الحد توقفت أحداث "إيليان" الأول، وكان من الواضح ان في الافق جزءاً ثانياً. بيد ان ردلي سكوت مخرج الجزء الاول رفض خوض التجربة من جديد، ومن هنا عهد بالثاني الى جيمس كاميرون، احد حواريي روجر كورمان، الذي كان كتب وحقق احدى حلقات سلسلة "رامبو"، وتولى بنفسه كتابة سيناريو "إيليان" الذي لئن لم يرق الى مستوى فيلم سكوت فانه على الاقل تمكن من ان يزرع في الفيلم بعداً انسانياً خلاّقاً عبرت عنه اشواق ريبلي سيغورني ويفر الى الامومة - وليس مصادفة على اي حال ان يكون الحاسوب الآلي على متن مركبة الجزء الأول يحمل اسم "أم" MOTHER -، كما عبر الحبكة الاساسية في الفيلم: عملية انقاذ ريبلي لصبية ضائعة في متاهات الفضاء. في "إيليان" الثاني صار المخلوق الفضائي مئات المخلوقات وباتت المعركة لا ترحم، معركة ادخل فيها كاميرون، المعتاد على ايديولوجية "رامبو" الرجعية، اغاني التمجيد لرجال البحرية الاميركية، والنزعة القومية الاميركية المتطرفة، كما ادخل فيها، بعد ساعة من الوصف التمهيدي الممل، كل عناصر الصراع المجاني جاعلاً ريبلي تحمل طوال دقائق الفيلم الطويلة سلاحاً يعجز حتى رامبو عن حمله. من هالك الى مالك حقق الفيلم الثاني نجاحاً فاق نجاح الأول من الناحية التجارية، ولكن كان من الواضح بالنسبة الى المنتجين ان تكرار التجربة، مع الكاتب المخرج نفسه والافكار نفسها سيكون معناه القضاء على السلسلة كلها، خصوصاً ان سيغورني ويفر نفسها بدأت تتبرم ولم ترتح ابداً للنتيجة التي طالعتها على الشاشة، رغم النزعة الانسانية - المليودارمية التي اتسمت بها بعض اجمل مشاهد الفيلم. خلال السنوات التالية على عرض الجزء الثاني من حكاية "إيليان" كان الهم الوحيد لشركة فوكس، موزعة الفيلم يكمن في العثور على طريقة يتم بها انتاج جزء ثالث. فهل نقول ان مسار ذلك البحث شكل واحدة من اغرب الحكايات الهوليوودية؟ لن نكون مبالغين ان قلنا هذا. ولعل عبارة واحدة يمكنها ان تلخص سبب هذا كله: الخوف من الفشل التجاري. فليس سراً ان اخشى ما يخشونه في هوليوود هو هذا الفشل. فليسقط الفيلم فنياً، وليرجمه النقاد، وليشتمه اهل المهنة… كل هذا لا يهم. المهم هو ان يأتي الجمهور. لذلك تحركت شركة فوكس في حذر شديد، موقنة ان تجربة كاميرون يجب الا تتكرر. فالازمان تبدلت ولم تعد تلك التبسيطية السياسية والديماغوجية الانسانية البارزتان في "إيليان" الثاني مقبولتين. في البداية اختارت الشركة الموزعة، سيناريو كتبه ويليام غبسون الذي ينتمي الى تيار الموجة الجديدة في ميدان الخيال العلمي. وكانت فكرة غبسون تقوم على ايصال المخلوقات الفضائية الى مدينة مستقبلية من طراز مدينة "بلاد رانر" لكن اداريي فوكس قالوا: لا. ان مثل هذا سيكلف باهظاً. وكلفوا غبسون بكتابة صياغة جديدة فكتب صياغات عدة قبل ان ينسحب في نهاية الأمر. وحل مكانه المخرج - الكاتب الفنلندي ريني هارلين، الذي استعان بالكاتب اريك ريد ليكتب صياغة يتضاءل فيها دور ريبلي لحساب مجموعة من الابطال الذين يدافعون عن مزرعة فضائية تهاجمها المخلوقات الغريبة. لم توافق الشركة على الفكرة وانسحب هارلين وريد، ليحل محلهما دايفيد توهي مخرج "تايمسكيب" الذي انكب على واحدة من صيغ غبسون تتدخل فيها مركبة فضائية روسية كانت البريسترويكا بدأت تشتهر ولا بأس من مصالحة اميركية - روسية في الفضاء!، وتتحول ريبلي الى رجل. وكان توهي منكباً على هذا المشروع حين اتصلت فوكس بالمخرج النيوزيلندي فنسانت وارد، الذي سرعان ما قدم فكرة رائعة فحواها قصة مستقبلية ولكن تنتمي الى العصور الوسطى: كوكب حوّل الى سجن جماعي، تصل اليه ريبلي مع الصغيرة التي كانت انقذتها في الجزء الثاني، فتجدان جماعة من الرهبان الذين نفوا الى هنالك بسبب هرطقتهم السياسية. فكرة ثورية رائعة. خصوصا ان المخلوقات الفضائية ستنضم الى المجموعة وقد اتخذت سمة الحرباء، بحيث تتلون بألوان المكان الذي توجد فيه. فكرة ثورية اجل لكن فوكس لن توافق عليها: انها شديدة السوداوية والتشاؤم في زمن يدخل فيه الكون النظام العالمي الجديد! زمن لم يعد من الممكن فيه ان توجد مثل هذه الشخصية التي يريد فنسنت وارد ان يلبس ريبلي مسوحها!! مستقبل القرون الوسطى انسحب وارد، وعاد المشروع الى نقطة الصفر فما العمل؟ كانت السنوات بدأت تمر وبات من المطلوب التحرك جدياً. وكان اغرب تحرك يمكن ان تقوم به شركة لها عراقة هي شركة فوكس: تعاقدت مع مخرج شاب في الثامنة والعشرين من عمره يدعى دايفيد فينشر، لم يسبق له ان حقق سوى بعض الاغنيات المصورة، وأعطته فرصة عمره طالبة اليه والى كاتب السيناريو العامل معه ركس بيكيت ان يوجدا مزيجاً يضم حكاية وارد وحكاية غبسون في آن معاً. حسناً! لكن بيكيت اختفى بعد شهرين فحل محله الكاتب لاري فرغاسون كاتب سيناريو "مطاردة اكتوبر الحمراء". وكانت المفاجأة ان المشروع استقر بين يدي فينشر وفرغاسون، وبدأ التصوير اخيراً، على رغم ان السيناريو لم يكن انتهى، لقد كتبت مشاهده الاخيرة بالفعل بعد انجاز تصوير المشاهد الاولى! ولسنا بحاجة الى القول ان اكثر الناس سعادة بالصيغة الاخيرة كانت سيغورني ويفر نفسها. فتلك الفنانة الكبيرة ذات الشخصية المستقلة، والتي عرفت كيف تختار على الدوام شخصيات ادوارها شبيهة بشخصيتها الحقيقية، كان اخشى ما تخشاه ان يستقر الامر على سيناريو يدفعها الى خلفية الاحداث. ولكن لا، فقد جاء النص الجديد على مقاسها. ففي الفيلم الجديد تطالعنا "ريبلي" بعد ان فرت من كوكب الوحوش على متن سفينة فضائية صغيرة. ولكن كان من سوء حظها ان مخلوقاً ينتمي الى طائفة "إيليان" يختبئ في المركبة، التي تقع في محيط الأسيد المسمى "سولاكو" وهو عبارة عن عالم مظلم بارد. ويكون انقاذ ريبلي على يد مجموعة من المجهولين الذين سرعان ما تتبين انهم سجناء يمضون في هذا العالم فترة عقوبتهم. وتكتشف رهبة المكان الذي سجنوا فيه. فتعمد فوراً الى اعادة الحياة للكائن الاندزوييدي، بيشوب، الذي كان هو من انقذ حياتها، ولكن سرعان ما تبين لها ان ثمة "إيليان" قد نما وترعرع في احشائها. تضطر ريبلي لقص شعرها لكي تتمكن من خوض المعركة التي ستتجابه فيها، وسط عالم التكنولوجيا البارد ذلك، مع ديلون زعيم المتطرفين الدينيين، ومع نحو دزينتين من المجرمين المسجونين. ويتحالف معها في المعركة كليمانس، مسؤول الشؤون الطبية على الكوكب - السجن. كل هذا دون ان يصدقها احد حين تحذرهم جميعاً من وجود المخلوقات المتوحشة على الكوكب. الأم وجنينها في البئر إذن، ها هي، ريبلي تكاد تصبح اماً.. والجنين في احشائها وحتى يكاد يمزق صدرها... فما العمل؟ اذا كان عليها ان تتخلص من الجنين ليس بوسعها ان تسلك طريقاً آخر غير الانتحار، لذلك ترمي بنفسها في بئر لا قرار لها والجنين معلق بها. هذه النهاية لم ترق لشركة فوكس التي دعت فينشر لابدالها لكن سيغورني ويفر رفضت مصرة على ان تلك النهاية هي النهاية الوحيدة الممكنة والمنطقية.. خصوصا ان شعرها عاد واستعاد طوله الطبيعي ولا تريد بأي حال من الاحوال ان تقصه لتصوير نهاية جديدة!! ونحن حفظاً للمفاجأة سنتوقف في حكايتنا عند هذا الحد… كل ما يمكننا قوله هو ان "إيليان" بدأ يعرض في الولاياتالمتحدة وبعض الدول الاوروبية، بعد سجال مع الرقابة. والذين رأوا الفيلم قالوا انه فيلم سوداوي ينتمي بالفعل الى عالم فنسانت وارد المنتمي الى القرون الوسطى: الوحوش، المعارك غير المتكافئة، فعل التضحية بالذات… الخ. وقالوا ايضاً ان سيغورني ويفر تتألق فيه بشكل لم يسبق ان فعلته في اي من افلامها السابقة، وتؤكد فيه مرة اخرى انها فنانة كبيرة. وليس هذا بالأمر اليسير بالنسبة الى هذه النيويوركية التي ولدت في العام 1949 لأم ممثلة وأب اذاعي وترعرعت، بعد تخرجها من قسم الفن الدرامي في جامعة يال، في اجواء المسرح قبل ان تبرز في السينما عبر ادوار جعلتها تبدو نقيضة تماماً للمرأة - الشيء. فالنساء اللواتي لعبت ادوارهن سيغورني حتى الآن هن نساء ذوات شخصية كبيرة وتصميم حاسم. فسيغورني ويفر سواء اكانت عالمة حيوانات دورها في فيلم "غوريللا في الضباب" الذي يروي حياة وموت العالمة الاميركية ديان نوسي، او شبحاً كما في طارد الاشباح، او صحافية في "عين الشاهد".. عرفت دائماً كيف تسبغ على شخصياتها حيوية من يقبض على مصيره بيده. وآية ذلك قوة فكها الاسفل، ونظرة القلق المجنون في عينيها الجميلتين. ولم يكن من قبيل المصادفة ان تطلق عليها الصحافة الاميركية اسم "خليفة كاترين هيبورن…"! سعيد آخر هو المخرج الشاب دايفيد فينشر الذي رغم صغر سنه 28 سنة، تمكن من ان يخوض المغامرة حتى النهاية، وهو لئن لم يجد احداً ليقول انه كان هنا في مستوى ردلي سكوت الذي حقق الجزء الأول من "آلين" فانه وجد على الاقل اجماعاً يقول انه كان في عمله افضل كثيراً من جيمس كاميرون مخرج "آلين" الثاني.. اما هو فيقول اليوم ان تجربة "آلين" كانت بالنسبة اليه ولادة حقيقية، وان العمل مع سيغورني ويفر هو عنصر اساسي من عناصر هذه الولادة. اما اذا سألته عما اذا كان ثمة متسع في المستقبل لجزء رابع من "آلين" فسيقول لك: "بالنسبة اليّ.. لا بالتأكيد.. اما بالنسبة الى شركة فوكس فربما كان الجواب نعم، شرط ان يجدوا طريقة يعيدون بها ريبلي الى الحياة!!" مشيراً في هذا من طرف خفي الى رفضه تغيير نهاية فيلمه.