تظل إشكالية علاقة المبدع بالثوابت محل نقاش وأخذ ورد، على رغم أنها تطفو على السطح في كل الأماكن والأزمنة، فالمبدع ابن التمرد، لا يضع نظرية إلا ويهدمها، ولا ينتمي لفكرة إلا وينقلب عليها، باحثاً عن خيال جديد ينحته بكلماته، أو فرشاته، أو أي من أدواته الإبداعية، لذا فإن ما يظن المبدع السعودي أنه يعانيه وحده، هو مأزق المبدعين في كل أنحاء العالم، الذين تحدهم الفضاءات، أياً كان اتساعها، وربما يختلف الأمر تبعاً للظروف المحيطة، الاجتماعية والعقائدية والسياسية. يرى الروائي تركي الحمد أن الإبداع لا يتنفس إلا في جو من الحرية، لأنه يعني في ما يعني الخلق والإتيان بالجديد، مشيراً إلى أن ذلك لا يتم في جو من الأحادية الثقافية، أو هيمنة حقيقة مطلقة واحدة مدعومة بالوصاية والحجر على العقل المنطلق. مضيفاً أن الحضارة الزاهرة تعتمد على مدى الحرية المتاحة،"فحيثما كانت الحرية كان العقل، وحيثما كان العقل كانت الحضارة". مستطرداً:"هكذا يقول التاريخ، وهذا ما تنطق به فلسفة التاريخ". وذهب الحمد إلى أن حضارات الشرق والغرب ازدهرت حين كانت شرارة الحرية حية، وخفتت تلك الحضارات حين خبت الجذوة، وانطفأت شرارة الحرية، ومن ثم حياة العقل، مؤكداً أنها سنة الله في الكون، وأنه قانون الحضارات على الأرض منذ فطرها العزيز الحكيم. ويعتبر أن المبدع في السعودية، كما في أقطار عربية أخرى، يواجه العديد من العوائق التي تقف له بالمرصاد، فتخنق برعم الإبداع وتميت جذوة العقل في النهاية، ما يؤدي إلى عزلة المبدع بعد أن يلفه اليأس من كل الجوانب، ويفقد المجتمع إسهاماً كان يمكن له أن يدفعه دفعاً على طريق الحضارة والإنجاز، في عالم أصبح فيه الإسهام الحضاري هو مقياس حياة أو موت بالنسبة إلى الأمم والمجتمعات. ذاكراً أن الثقافة الحدية، والوصاية الفكرية، وپ"التابوه"الاجتماعي، من أهم المعوقات التي تقف في وجه الإبداع والمبدعين. نسبية الحقيقة وقال الحمد:"إن الثقافة الحدية، أي الثقافة التي لا تعترف بنسبية الحقيقة، والتعددية الفطرية، وقيم التسامح في قبول الآخر المختلف، تعد أكبر العوائق"، معللاً ذلك بأنها تطرح حقائقها - حتى وإن لم تكن حقائق بالمعنى العلمي للكلمة - على أنها حقائق مطلقة، لا يأتيها الباطل من بين أيديها ولا من خلفها، وغالباً ما يُضفى عليها نوع من القداسة المصطنعة في غالب الأحوال، وبالتالي فإن أي تحد لها، أو حتى مناقشتها أو مساءلتها،"يُعتبر تحدياً للمقدس، ومناقشة لما يجب ألا يُناقش"، وهنا تكمن المعضلة في ما يخص قضية المبدع والإبداع. فالمبدع في ظل مثل هذه الثقافة يُعامل على أنه مُشكك في ما لا يجب التشكيك فيه، لدرجة أن يُخرج من الملة جملة وتفصيلاً في كثير من الأحيان، وفق تفسير لا تفسير غيره لهذه الملة. وبيّن أن هيمنة مثل هذه الثقافة تفرز طبقة من الحراس، مهمتهم الرئيسة ضمان استمرارية إنتاج مثل هذه الثقافة، والحرص على عدم المساس بقدسيتها المفترضة، ويدخل في ذلك كل ما له علاقة بالإبداع والمبدعين، إذ إن الإبداع هو إنتاج للجديد، بل هو خلق من عدم - وتبارك الله أحسن الخالقين - وفي ذلك تهديد للثقافة السائدة ومقولاتها. منوهاً إلى أن طبقة الحراس لا تنطلق فقط من منطلقات ثقافية أو فكرية بحتة في وصايتها الفكرية، بل توجد عوامل أخرى تدخل في الموضوع، من أهمها العوامل الاجتماعية. وقال:"فموقع حراس الثقافة وأوصياء الفكر على رأس الهرم الاجتماعي، أو جزء من رأس هذا الهرم، إنما هو مبرر بشكل رئيس بكونهم حراس الثقافة السائدة، وبالتالي تُصبح قداستهم الذاتية جزءاً من قداسة الثقافة السائدة، وهنا تكمن شرعيتهم الاجتماعية، وموقعهم المميز في الهرم الاجتماعي". موضحاً أنه نتيجة لذلك، فإن مناقشة الثقافة التي تنبثق منها شرعيتهم الاجتماعية، أي المنتج الإبداعي، هو مناقشة لموقعهم الاجتماعي، ومن هنا تنبثق الممانعة لأي فعل إبداعي، بل ومحاربة أي فعل إبداعي. "تابوه"يصعب اختراقه وأوضح تركي الحمد أنه عندما يتشكل العقل الاجتماعي وفق مقولات الثقافة السائدة، وعلى مدى أزمان طويلة، من إنتاج وإعادة إنتاج الثقافة الحدية، فإن"حقائقها"الثابتة تتحول إلى نوع من"التابوه"الاجتماعي، خصوصاً بعد أن أُضفي عليها نوع من القداسة، بعد تمازج الثقافي والديني مع الاجتماعي، لتكون النتيجة"تابوهاً"من الصعب اختراقه،"لدرجة أن أية عادة، وأي تقليد، تحول إلى تابوه اجتماعي". مؤكداً أنه من الصعب أن تتوافر بيئة مناسبة للإبداع في هذه البيئة، إذ يتحول المبدع إلى متمرد على الجماعة، أو منشق عنها، وشاذ عن الإجماع. مركزاً على ضرورة وجود بيئة مناسبة للابداع، قوامها أو بنيتها التحتية تقوم على قيم معينة، أهمها قيم الحرية والتسامح والنسبية، ورفض الوصاية الفكرية من أي طرف من الأطراف. نافياً أن يتحقق أي جهد إبداعي أو حضاري في بيئة لا تتوافر فيها الشروط المناسبة، ويرى أن بقية المشكلات تكون إلى الهامش أقرب، في ما لو حُلت معضلة الإبداع والحرية. ويتفق الحمد مع الرأي القائل بوجود ثوابت ومحددات للحرية، معتبراً أن الوجه الآخر للحرية هو المسؤولية، وأنه"لا وجود لمجتمع من دون ثوابت وضوابط ومحددات، مهما كانت درجة حرية المجتمع"، ولكنها تبقى ثوابت قابلة للأخذ والرد، للنقد والتقويم، وليست ثوابت على إطلاقها،"فالثبات المطلق ليس من طبائع الدنيا"، وپ"بقاء الحال من المحال"، كما يقول الحكماء. من جانبه، يرى القاص يوسف الرفاعي أن مسألة الحرية تعد أمراً نسبياً، وتساءل:"ماذا نقصد بالحرية؟"، مسترسلاً:"هل نقصد حرية الإبداع في حدود المتفق عليه اجتماعياً من قيم وتقاليد وموروث اجتماعي؟ أم نقصد حرية مطلقة تتجاوز كل الحدود حتى الأمور التي لا نقبلها على أنفسنا؟". مشيراً إلى صعوبة الإجابة"فلو أردنا التعبير في المطلق، فنحن بالتأكيد لم ننضج اجتماعياً، لأننا ننطلق من ثقافة موجودة، نعيش فيها بالفعل، ويرتضيها المجتمع". موضحاً أن الثقافة تعد بمثابة الأمر الواقع، وأضاف:"إن نحن خرقناه نكون انتقلنا إلى ثقافة أخرى، ما يتعارض مع طبيعة المكان الذي نعيش فيه، ونصبح كالزرع الذي غُرس في غير بيئته". ونبه الرفاعي إلى أنه ليس من حق المثقف أن يقول ما يشاء بلا قيود، ذاكراً أنه حتى في أعرق القوميات التي تقدس الحرية، توجد قيود وأعراف وتقاليد. وذهب إلى أن سائر الأمم تتفق على ما يعد ضد الأعراف والتقاليد. فلا توجد أمة تقبل التناول المفرط للجنس عبر الأدب، أو تقبل انتشار الشذوذ الأخلاقي، وأشار إلى وجود فارق بين انتشار القيم المنحرفة ورضا المجتمع عنها. وقال:"أن الفارق بيننا وبين غيرنا أننا نتمسك بديننا، ونحرص على قيمنا، بشكل أكبر"، مؤكداً أن الانفلات من عقال الدين لا يعد من قبيل الحرية، رافضاً التطاول على الدين والرسل، وإطلاق العنان للخرافات تحت مسمى الحرية. وتابع:"إن تجاوز حدود الأدب مع الله والدين والرسل والقيم يفقد الكاتب تميزه، ويصبح ما يكتبه هذياناً". واعتبر الرفاعي أن الرقابة مطلوبة، لكن بضوابط، مرجعاً أهمية وجودها إلى وجود من لا يجيد استخدام أدواته، أو يريد أن يطاول الجبال بالقفز فوق القيم المقدسة والعادات المرعية، أو الإساءة إلى الخالق وإلى أنبيائه ورسله ودياناته. وتساءل:"ماذا يفيدني أن أقرأ لكاتب يعلن كفره صراحة؟ وإذا سألته لماذا تكتب بهذه الطريقة يقول إنني أعبر عن شخصيات موجودة". معتبراً ذلك جبناً وهروباً من الواقع،"إذا كنت لا تؤمن بما تقول على لسان شخصيات أنت خلقتها، فلماذا خلقتها أصلاً، ولماذا لم تدعها كامنة في عقلك أنت وحدك، بدلاً من أن تطلق شياطينها في الهواء؟". وأكد أننا في حاجة إلى أمانة مع الذات، وحرفية أكثر في تناولنا للأدب الذي يعبر عن منطقتنا، وزاد:"لسنا مضطرين إلى الكفر أو الانحراف لنصبح عالميين، أو ليتحدث عنا الغرب، وإذا أردنا أن نصب نتاجنا الفكري في منطقتنا، فعلينا احترام التقاليد والدين، وإذا أردنا غير ذلك فعلينا أن نترك تلك البقعة من الأرض، ونبحث لنا عن مكان آخر نصب فيه أفكارنا، لكي لا نتحول إلى آلة هدم بلهاء، في أيدي من لا يكنون أي حب أو احترام لتقاليدنا وديننا". الخطوط الحمر بينما حدد الشاعر الدكتور يوسف العارف ثلاثة عوائق تقف في وجه المبدع السعودي، تتمثل في الخطوط الحمر، وعلاقة المبدع السعودي بدور النشر داخل السعودية، والرواية السعودية وعدم السماح بتوزيعها في السوق السعودية. ويرى العارف أن الخطوط الحمر يفترض ألا تكون من الرقيب فقط، مؤكداً ضرورة أن تتوافر لدى المبدع ثوابت يسير في ضوئها، تتعلق بالانضباط، ومراعاة القيم الدينية والاجتماعية. مضيفاً أن النشر الخارجي يحقق للمبدع السعودي الانتشار، والتعريف بالثقافة السعودية، لافتاً إلى أن منع الرواية السعودية من التداول الداخلي يعد دعاية لها. في ظل تطور النشر الإلكتروني، وغزارته، ما أدى إلى إزالة أية حواجز أو موانع، أما حرية النشر"فأي كتاب أريده سأحصل عليه من هنا أو من هناك". أما القاص مسعد الحارثي فيعتبر أن الخطوط الحمر في المجتمع السعودي تشكل عقدة متجذرة داخل كل مبدع، تتمثل في"عقدة الخوف"، الخوف من رجل الدين، الخوف من السلطة، الخوف من نظرة المجتمع، الخوف من وصفه أو نعته بالعلماني أو الليبرالي، موضحاً أنها اتهامات يطلقها الكثير من أفراد المجتمع من دون أن يعي ما تعني. وزاد الحارثي:"ما ينطبق على المبدع السعودي ينطبق على دور النشر"، مشيراً إلى أنها تفضل نشر كتاب"عن طريقة صنع الكنافة"، بدلاً من رواية تحكي همّ مجتمع كامل.
