قرأت ما كتبه الأخ إبراهيم التميمي في صحيفتكم الغراء"الحياة"بتاريخ 14 ? 3 - 1428ه، الذي كان تعقيباً على ما كتبته عن بعض تصرفات العاملين في"بقيع الغرقد"وقد اعتبرني مخالفاً للسنة الصريحة، عندما ذكرت مشاق السفر وبذل المال فيه لأجل الزيارة، معتبراً ذلك داخلاً في تحريم شد الرحال لغير المساجد الثلاثة الذي ورد فيه النهي صراحة، بقوله صلى الله عليه وآله وسلم لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد، المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى. والحقيقة أنني لم أخالف السنة وإنما خالفت طريقة فهم الأخ إبراهيم لهذا الحديث، وهو جواز زيارة المقابر من دون سفر وشد رحل، ولذلك فإنني أحببت أن أقف معه وقفة علمية وموضوعية حول مفهوم هذا الحديث وما يتضمنه من خلال ما فهمه السابقون من العلماء والفقهاء. فمعنى الحديث الظاهري هو النهي عن شد الرحال إلى أي مسجد من المساجد سوى المساجد الثلاثة، ولا يعني عدم شد الرحال إلى أي مكان من الأمكنة إذا لم يكن المقصود مسجداً، لأن سياق الحديث يتكلم عن المساجد، وبالتالي فهو غير متعرض لشد الرحال لزيارة الأنبياء والصالحين، لأن موضوع الحديث إثباتاً ونفياً هو المساجد، وأما غير ذلك فليس داخلاً فيه، فالاستدلال به على تحريم شد الرحال إلى غير المساجد باطل، لأننا إذا أخذنا الحديث في عدم شد الرحال إلى أي مكان من الأمكنة إلا على ثلاثة مساجد فهذا يلزم أن تكون جميع السفرات محرمة سواء كان السفر لأجل زيارة المسجد أو غيره من الأمكنة، وهذا لا يلتزم به أحد من الفقهاء. ثم إن النهي عن شد الرحال إلى أي مسجد غير المساجد الثلاثة ليس نهياً تحريمياً وإنما هو إرشاد إلى عدم الجدوى من سفر كهذا، وذلك لأن المساجد الأخرى لا تختلف من حيث الفضيلة، فالمساجد الجامعة كلها متساوية في الفضيلة فمن العبث ترك الصلاة في جامع هذا البلد والسفر إلى جامع بلد آخر مع أنهما متماثلان. وفي هذا الصدد يقول الغزالي في كتاب آداب السفر، وهو أن يسافر لأجل العبادة إما لحج أو جهاد... ويدخل في حملته زيارة قبور الأنبياء وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والأولياء وكل من يتبرك بمشاهدته في حياته يتبرك بزيارته بعد وفاته، ويجوز شد الرحال لهذا الغرض ولا يمنع من هذا قوله صلى الله عليه وسلم، لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى، لأن ذلك في المساجد، فإنها متماثلة...". والدليل على أن السفر لغير هذه المساجد ليس أمراً محرماً، هو ما رواه أصحاب الصحاح والسنن كان رسول الله يأتي مسجد قباء راكباً وماشياً فيصلي فيه ركعتين، ولعل استمرار النبي على هذا العمل كان مقترناً لمصلحة تدفعه إلى السفر إلى قباء والصلاة فيه مع كون الصلاة فيه أقل ثواباً من الثواب في مسجده. إنني أتعجب من انزعاج الأخ إبراهيم من وقوف الزائر طويلاً عند القبور وذلك بقوله: الزيارة للمقبرة والمقبورين لا يلزم الوقوف عند القبر بل يكفي السلام عليهم والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة وأخذ العظة بموتهم...، وهذا يعزز ما ذكرته عن مضايقة الزوار من العاملين في البقيع وهو خلاف ما ينادي به القرآن بقوله تعالى ولا تصلِ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون، فيكون معنى الآية الكريمة: أن الله تعالى ينهي نبيه صلى الله عليه وآله وسلم عن مطلق الاستغفار والترحم على المنافق سواء كان بالصلاة أو مطلق الدعاء وينهي عن مطلق القيام على القبر سواء كان عند الدفن أو بعده. ومفهوم ذلك أن هذين الأمرين يجوزان للمؤمن فضلاً عن الأنبياء والأولياء، وبهذا يثبت جواز زيارة قبر المؤمن وقراءة القرآن على روحه حتى بعد مئات السنين. وأخيراً، لماذا يريد الأخ التميمي أن يحرم المسلمين من نعمة الحصول على الآثار التربوية والأخلاقية من زيارة هذه القبور، وذلك لأن مشاهدة المقابر تؤدي إلى الحد من روح الطمع والحرص على الدنيا، وربما تغير سلوك الإنسان عندما يرى أن المنزل الأخير لحياته إنما هو بيت ضيق ومظلم باقٍ فيه إلى ما شاء الله وهذا ما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، بقوله: كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها ترق القلب وتدمع العين وتذكر الآخرة ولا تقولوا هجراً. ? المدينة المنورة