العفو من الأخلاق التي مدحها المولى عز وجل في قوله: الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين، وصور العفو في تاريخنا الإسلامي متعددة، ونماذج التسامح متنوعة، والملك عبدالعزيز - رحمه الله - بطل من أبطال الصفح وإقالة العثرات، وله مواقف متنوعة في هذا المجال، فقد أغضى عن الزلات، وتناسى الهفوات، وكظم غيظه ودفع بالتي هي أحسن، وله مواقف كثيرة تصوّر عظمته، وتكشف عن مكارم أخلاقه، وسموّ مشاعره. فها هو ذا يحزم ويقمع فئة شذّت عن الطاعة وخرجت عن الجماعة، وناوأته وتمرّدت عليه، وأشهرت السلاح في وجهه، وأبت مسالمته وطاعته، ورفضت عفوه ودعوته. وشاءت إرادة الله أن يحصل الصدام المسلح، وأن يحسم تمردهم، وينتصر على هجومهم، وهرب عدد منهم إلى خارج الوطن، وضاقت بهم الأرض بما رحبت، وأيقنوا أن غضب الملك البطل أرحم من عطف الآخرين، وان قسوة الملك الصقر أجمل من إكرام المجاورين، فعنده العزة والكرامة، وعند غيره الذلة والمهانة. ولهذا جاؤوا وهم في حيرة وحسرة، وأقبلوا وهم في خوف ورهبة، وقرروا اللجوء للملك عبدالعزيز خصمهم بالأمس، وقالوا:"إن عفا فهو الأمل والرجاء، وان قسا فبما ظلمنا". وجاء الجانحون المقرون بذنبهم، الطامعون في العفو والصفح، وحين وصلوا إلى معسكر الملك المنتصر، وجدوا قبولاً وضيافة بعد عناء ومشقة، ولقوا طمأنينة وراحة بعد خوف وحسرة، وباتوا ليلة آمنة. وفي الصباح حان موعد اللقاء مع الملك البطل، وجاء المذنبون، وجلس الملك في صيوانه ومن حوله رجاله وجنوده، وتقدم المسؤول عن الضيوف آنذاك إبراهيم بن جميعة، وقال بلهجة قاسية:"امشوا يا بدو، عبدالعزيز يدعوكم"، وانتظم هؤلاء الأعراب في صفوف، وساروا للمجهول، وجلسوا أمام الملك وجمع من الجنود يحيطون بالمكان، والنفوس وجلة، وأحسب أن ألسنتهم قد تيبست، وان أفواههم قد جفت، وان قلوبهم قد زاد نبضها وعظم اضطرابه، فهل يا ترى سيكون النطع والسيف، أم العفو والتسامح؟ وسكت القوم فلا تسمع أنفاسهم، ولا تحس وجودهم، وتكلم الملك فقال:"ماذا جاء بكم؟! بالأمس كنتم فرساناً متعطشين للدماء، سفكتم دم إخوانكم المسلمين، وتعديتم الحدود، وبغيتم على وطنكم. لو أمرت الآن بقتلكم جميعاً فهل أكون ظالماً؟ وهل بيني وبينكم عهد وأمان؟". وزاد تعنيفه، وتوالى تأنيبه، وتكرر تقريعه، وكان الموت قاب قوسين أو أدنى، ولم يحل دون الموت سوى إشارة منه وتتلاعب السيوف برؤوسهم، وكانت لحظات رهيبة، وحالاً عصيبة، وكان التاريخ يعيد نفسه، فهذا المشهد شبيه بالمشهد الذي كان عند الخليفة العباسي المعتصم"بطل عمورية"الذي قال فيه الشاعر أبو تمام: السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب ففي ذات يوم جيء بتميم بن جميل، الذي خرج عن الطاعة، وجلس المعتصم وقد وضع السيف والنطع، وعنف تميماً فقال له:"هل لك من عذر أو حجة؟"، فقال تميم:"أما إذا أذن لي أمير المؤمنين فإني أقول: الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، يا أمير المؤمنين، إن الذنوب تخرس الألسنة، وتصدع الأفئدة، ولقد عظمت الجريرة، وكبر الذنب، وساء الظن، ولم يبق إلا عفوك أو انتقامك، وأرجو أن يكون أقربهما منك وأسرعهما إليك أولاهما بإمامتك، وأشبههما بخلافتك"، ثم أنشأ يقول: أرى الموت بين السيف والنطع كامناً يلاحظني من حيثما أتلفت وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي وأي امرئ مما قضى الله يفلت ومن ذا الذي يدلي بعذر وحجة وسيف المنايا بين عينيه مصلت وما جزعي من أن أموت وإنني لأعلم أن الموت شيء موقت ولكن خلفي صِبية قد تركتهم وأكبادهم من حسرة تتفتت كأني أراهم حين أُنعى إليهم وقد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا فإن عشت عاشوا خافضين بغبطة أذود الردى عنهم وإن مت موتوا فكم قائل: لا يبعد الله روحه وآخر جذلان يسر ويشمت وعند ذلك تبسم المعتصم، وقال: كاد والله يا تميم أن يسبق السيف العذل، اذهب فقد غفرت لك الصبوة، وتركتك للصبية. وكذلك الملك عبدالعزيز، فبعد أن عنف أولئك الجناة وقف أحدهم، واستأذن الملك في الكلام فأذن له، فقال الأعرابي: يا عبدالعزيز ليس بيننا وبينك عهد ولا أمان، إن قتلتنا قتلتنا غير مظلومين، وان عفوت فما جاء بنا إليك إلا معرفتنا بمكارم أخلاقك، اخترناك أباً لنا وقائداً، ونعترف بأننا أخطأنا في حقك كثيراً وأسأنا الأدب، وزعزعنا الأمن وبقدر ذنوبنا وأخطائنا ينتظر إخواننا هؤلاء منك، فالعفو أقتل لنا من السيف، ونحن كرام وسنحافظ على ولائنا، وسنقدر لك هذا العفو إن شاء الله، فاعف عنا ولا تؤنبنا فإننا لا نحتمل التأنيب، لست صاحب أقوال بل صاحب أفعال، بالأمس كنت أقود كوكبة من الفرسان، أما اليوم فنحن المهزومون وأنت المنتصر، وبقدر انتصاراتك يكون عفوك، قل كلمتك يا عبدالعزيز فأنت رجل المواقف. ومكث القوم وكأن على رؤوسهم الطير، وانتظر الجميع قرار الملك، فقال الملك ما معناه: حسبي الله عليكم، والله إنكم مني بمنزلة الأبناء، إذا قطعت رحمي فيكم وأنتم عضدي الأيمن، فبأي عضد أتقي مصائب الحياة؟ أنتم أبنائي وقد عفوت عنكم. ثم التفت إلى أنصاره والى جميع من حوله، وقال لهم: هؤلاء إخوانكم وأبناء عمومتكم، انهم من خيرة شعبي، انهم من أعطى من نفسه ودمه وعرقه لهذه الدولة الشيء الكثير، وماضيهم يشفع لحاضرهم، لا أريد أن أسمع من يقول منكم: نحن أنصار عبدالعزيز ورجاله وهؤلاء أعداؤه وخصومه، فلهم عندي مثل ما لكم. هذه قصة تكشف عن عطف الملك ورقته وعظمته وتسامحه وبعد نظره وعلو همته، فقد جعل من خصومه رجالاً له، وصير عداوتهم عطفاً ومحبة قال تعالى"ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم". * عضو مجلس الشورى.