تتقدم تجربة الفنان التشكيلي ناصر الموسى، كواحدة من التجارب العميقة، والتي تحفر خصوصيتها في دأب واضح. وبدا أن الحروفية في ما تعنيه من علاقة آسرة بين الحرف وتداعياته وبين اللون، تأخذ مكانتها في شكل جديد، حيث يجتهد الموسى في اكتشاف وإعادة اكتشاف ممكنات الحرف التعبيرية. بدأ الموسى الرسم عام 1973، ومنذ ذلك، وهو لا يكل ولا تفتر له همة، يمارس الرسم كمن يقبل على الحياة. والرسم يرافقه في كل مكان يقصده. يعد مرسمه الأنيق ملتقى تتحاور فيه وجهات النظر والأساليب الفنية التي يتبناها الفنانون، الذين يزورون مرسمه من وقت إلى آخر. شارك الموسى في معارض كثيرة، داخل السعودية وخارجها، وأصدر أكثر من كتاب في ثقافة اللون، ويرأس حاليا لجنة الفنون التشكيلية في جميعة الثقافة والفنون. هنا حوار معه. بداية وبعد كل ذلك التطواف في دروب الحروفية ومجاهلها، ما المحصلة التي يمكن أن تقولها للقارئ؟ - العمر كله تجارب يخوضها المشتغل على اللون، هذا المشتغل الذي عابر في معنى من المعاني. وفيما يخصني أعتبر تلك التجارب بمسراتها ومراراتها حواراً مع العمر، فمنهم من عًّبر ولم يكتب الحرف الأول من اسمه، لكن المهم من عبر وأبدع وخلد في هذا العمر، وركب قطاره ورحل، تاركاً اسمه محفورا في الزمن. ماذا عن تجربتك التشكيلية، التي تجلت في تحويل شخوص الأمسيات السردية إلى أعمال تشكيلية، وهو ما يمكن ملاحظته في مجلة التوباد تحديداً؟ - الرسوم التعبيرية التي تكون مصاحبة للمقالات والمواد، التي تنشر في مجلة التوباد، هي من دواعي الإخراج الصحافي، فمن مهمات مخرج المجلة البحث عن أساليب تجعل القارئ يقبل على المادة الأدبية، ولن يتوافر ذلك سوى من خلال تقديمها في شكل جمالي، عبر الإخراج، وهذا دور يأخذ جهداً كبيراً، وإن وُفّق الرسام في ذلك فهذا حسن، وإن جاء رسمه نصاً موازياً بصريا إلى جانب النص الأدبي، فلن تخسر العين شيئا، فقد وقعت على نصين بدلاً من نص واحد، والحكم دائماً للمتلقي الذي نحترم ذوقه كثيرا". الفنان عاجز عن تأمين لوازمه في تصورك هل يستطيع الفنان التشكيلي السعودي، الاعتماد على فنه، كمصدر للدخل أو على الأقل في توفير جزء من حاجاته في الحياة؟ - قديماً قيل أن الفن لا يؤكل عيشاً. ولكن الفنون في هذا الوقت تعددت وأصبحت تؤكل خبزاً وأكثر من الخبز، غير أنه فيما يخص الفن التشكيلي، يحتاج الأمر إلى وقفة من الفنان حتى يدرك أنه يستطيع تأمين بعض لوازمه، ولا يكون ذلك سوى بالاعتماد على الآخر، الذي يتبنى المشروع الإبداعي بدلاً عنه حتى يتمكنا من أن يأكلا معاً. فعلى الفنان أن ينتج، فيما على الآخر أن يوفر فرصاً تسويقية لهذا المنتج وفق آلية ترضي الطرفين. ففي الغرب، مثلاً، تقوم مؤسسات على تسويق الإنتاج الإبداعي إعلامياً ومادياً. ونتمنى أن يسود ذلك النظام حركتنا الإبداعية التشكيلية والتي لا أرى عائقا في طريقها. في ظل الظروف الراهنة، أيُّ السبل تجعل المتلقي أكثر التصاقاً بجمالية الصورة؟ - الصورة ومن خلال الثورة الإعلامية الراهنة، فرضت ذاتها على عين المشاهد، لكن من المهم أن يدرك أثرها بصرياً"لأن العين هي نافذة على العالم، بما فيه الجمال. يحتاج الفنان قبل المتلقي إلى مزيد من الوقت، لتدريب العين على قراءة اللون بجوار ألوان أخرى، ومحاولات الحوار معها بصرياً في كل وقت. العين ترى وتسقط على اللون أينما اتجهت، لكنها تحتاج إلى تدريب من قِبَل المتلقي، وأن يعطي ذوقه فرصة الحوار البصري مع النصوص البصرية، فالعين نافذة البصيرة في الدماغ. كيف تقيًّم واقع الحركة التشكيلية السعودية .. هل تواكب مثيلاتها في الوطن العربي؟ - من المهم أن أشير هنا إلى ما وصلت إليه حركة التشكيل في السعودية، إذ حققت حضوراً مشهوداً خلال العقدين المنصرمين، وصار هناك من يهتم برصد مستويات التطور في الممارسة والأداء، لفناني المملكة وأطروحاتهم الإبداعية في ميدان النص التشكيلي، بصفته أدباً وفكراً بصرياً مرموقاً. كما يمكن التطرق إلى المسابقات وبيوت التشكيليين، التي أسست في بعض المدن، إضافة إلى المعارض الشخصية والجماعية التي نجم عنها مواهب تبلورت لاحقا، فأخذت مكانها في شكل رموز وأساتذة لحركة التشكيل السعودي، أمثال عبدالحليم رضوي، محمد الرصيص وسواهم. لا يوجد نقد... وهناك اجتهادات شخصية في رأيك هل أثر عدم وجود الناقد التشكيلي المتخصص، والافتقاد إلى المؤرخ للحركة التشكيلة وكذلك إلى مطبوعة علمية تعكس الحراك التشكيلي في أبهى مستوياته، هل أثر على مسيرة الحركة التشكيلية؟ - النقد التشكيلي لا يواكب حركة الفن"لأنه تابع ولا يمكنه أن يجاريها، فالنقاد أقل عدداً من الفنانين، بل معظم الذين يكتبون في النقد هم فنانون غير متفرغين. وما صدر من كتب عن الفن التشكيلي، بدءاً بكتابي لوحة وفنان الصادر عام 1409 عن مهرجان الجنادرية، الذي تناول مسيرة تاريخ الفن التشكيلي، ودراسة تحليلية عن 32 فناناً وفنانة في الوسط التشكيلي السعودي، وما أتى بعده من كتب وإصدارات، يعد اجتهادات شخصية. وبالنسبة إلى عدم وجود الناقد العلمي لهذه الحركة في السعودية وفي الوطن العربي، فهذه مسألة يمكن إدراكها في الجانب الأدبي عامة والتشكيلي خاصة، فجوانب الذوق البصرية تتطلب وقتاً كافياً، كي تفرز الحركة التشكيلية نقاداً منها, وهي عملية نادرة، نتمنى من الصحافيين إدراك هذا الدور وأهميته في توجيه هذا النشاط الإيجابي، حتى يمكن خدمة الحركة ومبدعيها، بدلاً من الخوض في تناول الجوانب الذاتية والشخصية للمبدع فقط. وأرى أن المطبوعات في هذه الجوانب قليلة، ولا ترقى إلى ما نطمح إليه. يقال إن المعارض التشكيلية، الداخلية والخارجية على السواء، صارت مكررة ولا تستوعب الجديد؟ - إعداد المعارض الداخلية والخارجية، قد يقع في مثل هذا التكرار, لكن يجب ألا نعمم. ومع ذلك يمكن ملاحظة تكرار الأسماء في أغلب هذه المعارض، وآمل من الجهات المختصة، أن تحرص على انتقاء الأسماء البارزة، لجهة فرادة التجربة وتنوعها وعكسها لوعي وإدراك الرسام في السعودية جملة من الأمور على صعيد التشكيل والحياة في شكل عام، من أجل أن تقوم بتمثيل الفنانين عموماً. أخيراً، ماذا عن الرسامات، هل تتطور تجاربهن بعيداً عن المعوقات، وهل يمكن مقارنتهن بأسماء نسائية في الوطن العربي؟ - بداية لا أفرق في الفن التشكيلي بين العنصر الرجالي أو النسائي، فجودة العمل تفرض نفسها، وبالنسبة إلى مستوى بعض التشكيليات السعوديات، فقد حقق بعضهن وجوداً ملموساً في المحافل الدولية، وبالتالي هن جديرات بالاهتمام وأخذن حيزهن في عمق المشهد التشكيلي السعودي، وآمل أن يأتي الرد النقدي من خارج الدائرة التشكيلية، كي يكون أكثر صدقية وبعيداً عن الذاتية.