الرئاسة الفلسطينية تحذر: إسرائيل تخطط ل«أكبر جريمة إبادة جماعية» في رفح    أغسطس «2020».. آخر فوز للراقي    بسبب الهلال..عقوبات من لجنة الانضباط ضد الاتحاد وحمدالله    مخبأة في حاوية بطاطس.. إحباط تهريب أكثر من 27 كيلوغراماً من الكوكايين بميناء جدة الإسلامي    هيئة تطوير المنطقة الشرقية تشارك في منتدى الاستثمار البيئي استعادة واستدامة    "آلات" تطلق وحدتَي أعمال للتحول الكهربائي والبنية التحتية للذكاء الاصطناعي    تعليم الطائف ينظم اللقاء السنوي الأول لملاك ومالكات المدارس الأهلية والعالمية    تقديم الإختبارات النهائية للفصل الدراسي الثالث بمنطقة مكة المكرمة.    هيئة الأمر بالمعروف بنجران تفعّل حملة "الدين يسر" التوعوية    وحدة الأمن الفكري بالرئاسة العامة لهيئة "الأمر بالمعروف" تنفذ لقاءً علمياً    انطلاق "مهرجان الرياض للموهوبين 2024".. غداً    في نقد التدين والمتدين: التدين الحقيقي    مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية يُنظم مؤتمرًا دوليًا في كوريا    ارتفاع أسعار الذهب    550 نباتاً تخلق بيئة نموذجية ب"محمية الملك"    وزير الدفاع يستعرض العلاقات الثنائية مع "كوليبالي"    "المرويّة العربية".. مؤتمر يُعيد حضارة العرب للواجهة    أمطار ورياح مثيرة للأتربة على عدد من المناطق    مساعدات إيوائية لمتضرري سيول حضرموت    80 شركة سعودية تستعرض منتجاتها في قطر    السعودية.. الجُرأة السياسية    «كلاسيكو» تأكيد الانتصار أم رد الاعتبار ؟    اللذيذ: سددنا ديون الأندية ودعمناها بالنجوم    5 مشروبات تكبح الرغبة في تناول السكَّر    انطلاق بطولة كأس النخبة لكرة الطائرة غدا    محافظ الطائف يناقش إطلاق الملتقى العالمي الاول للورد والنباتات العطرية    سمو ولي العهد يهنئ ملك مملكة هولندا بذكرى يوم التحرير في بلاده    المجرشي يودع حياة العزوبية    «عكاظ» ترصد.. 205 ملايين ريال أرباح البنوك يومياً في 2024    تدخل عاجل ينقذ حياة سيدة تعرضت لحادث مروري    وصول التوءم السيامي الفلبيني إلى الرياض    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على بدر بن عبدالمحسن    بدر بن عبد المحسن المبدع الساعي للخلود الأدبي    فيصل بن نواف: جهود الجهات الأمنيّة محل تقدير الجميع    السعودية وأميركا.. صفحة علاقات مختلفة ولكنها جديدة    فوضى المشهد السياسي العالمي اليوم    100 مليون ريال لمشروعات صيانة وتشغيل «1332» مسجداً وجامعاً    وزير الموارد البشرية يفتتح المؤتمر الدولي للسلامة والصحة المهنية    هدف لميسي وثلاثية لسواريس مع ميامي    القادسية لحسم الصعود أمام أحد.. الجبلين يواجه العين    فيصل بن مشعل: يشيد بالمنجزات الطبية في القصيم    «أكواليا» تستعرض جهودها في إدارة موارد المياه    وزير الدفاع يستعرض العلاقات الثنائية مع "كوليبالي"    الدور الحضاري    رحيل «البدر» الفاجع.. «ما بقى لي قلب»    المعمر، وحمدان، وأبو السمح، والخياط !    عزل المجلس المؤقت    "سلمان للإغاثة" يُدشِّن البرنامج الطبي التطوعي لجراحة القلب المفتوح والقسطرة بالجمهورية اليمنية    البحث عن حمار هارب يشغل مواقع التواصل    تأملاّيه سياسية في الحالة العربية    أمراء ومسؤولون وقيادات عسكرية يعزون آل العنقاوي في الفريق طلال    فلكية جدة : شمس منتصف الليل ظاهرة طبيعية    باسم يحتفل بعقد قرانه    تقدير دعم المملكة ل "التحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب"    مهرجان الحريد    إستشارية: الساعة البيولوجية تتعطَّل بعد الولادة    آل معمر يشكرون خادم الحرمين الشريفين وولي العهد    لا توجد حسابات لأئمة الحرمين في مواقع التواصل... ولا صحة لما ينشر فيها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سؤال الأسئلة : إلى أين يذهب المصريون ؟
نشر في الحياة يوم 30 - 01 - 2013

كان إصدار الدستور المصري الجديد هو الحدث الأكثر إثارة للجدل في الآونة الأخيرة. وقد تركز هذا الجدل على قضايا ومسائل دستورية بالغة الأهمية. ولكن، هناك قبل ذلك سؤال جوهري لا ينبغي تجاوزه هو هل يؤذن الدستور الجديد على ما تضمنه من أحكام خلافية بميلاد مجتمع ديموقراطي أم إن المجتمع الديموقراطي هو ضمانة الدستور الجديد؟ لنتعرّف ابتداء أنّ الدستور، أي دستور، مهما بلغت مثاليته لا يؤسس بذاته مجتمعاً ديموقراطياً ناضجاً، ولا يعني بالضرورة إقامة حياة دستورية سليمة، ولن يضمن لنا الدولة الحديثة التي نتطلع إليها ما لم تتوافر مجموعة القيم الثقافية والممارسات الاجتماعية التي تصنع المجتمع الديموقراطي. فالدستور ليس زراً تضغط عليه الشعوب فتنهال عليها الحقوق والحريات وتنعم بسيادة القانون وتوازن السلطات، بل هو مخزون مكتوم وغير مكتوب لمجموعة من القيم الثقافية والممارسات الاجتماعية. فأين المجتمع المصري بجماهيره ونخبته من هذه القيم والممارسات؟ وهل يكفي النص عليها في الدستور لكي ينضح بها وعي المصريين وسلوكهم؟ لنسجل ابتداء أنه ليس في هذه القيم الثقافية والاجتماعية من غرائب أو أسرار. إنها تعني ببساطة قيم الحرية وقبول الاختلاف واحترام الإرادة الشعبية. والحرية فهم عميق لا يكتمل بغير وجود إنساني حر يحترم حريات الآخرين. لكن أحداث ما بعد ثورة 25 يناير كشفت عن خلل في فهم المصريين قيمةَ الحرية فتحولت إلى حال من الفوضى والانفلات ضد الآخرين وضد المجتمع وضد الدولة كسلطة لحفظ النظام والأمن. نعم، بوسعنا أن نفهم وربما نتقبل أن ما عاناه المصريون من قهر وكبت واستبداد تم التنفيس عنه في الأسابيع والشهور الأولى بعد سقوط النظام السابق. لكن ما يصعب فهمه أو تبريره هو استمرار حال الفوضى والعنف على نحو منهجي ومنظم لمدة طويلة. يمكننا أيضاً أن نفهم في مجتمع حر مشروعية الحركات الاحتجاجية الشعبية من تظاهرات وإضرابات واعتصامات، لكن ما لا يمكن فهمه هو أن تنفلت هذه الحركات الاحتجاجية فتشمل الجميع ضد الجميع، وللتعبير بالأساس عن مطالب مالية يستحيل تلبيتها في ظل شحّ موارد الدولة وتراجع معدلات الإنتاج.
السؤال هو: هل تعتبر مظاهر الانفلات والفوضى والعنف تعبيراً عن خلل في إدراك المصريين قيمةَ الحرية أم هي نتاج مدبر ومصطنع لقوى ما سمي بالثورة المضادة من الظلم أن يتحمل عموم المصريين المسؤولية عنه؟ أغلب الظن أن الإجابة مزيج من التفسيرين معاً. ثم إن قوى الثورة المضادة كتجمع لأصحاب المصالح المناوئين للثورة هم في نهاية المطاف من المصريين، ما يعني في الحالين أن مفهوم الحرية لم يتجذر بعد بمقوماته وضوابطه في وعي المصريين وسلوكهم. هذه قضية جديرة بالنقاش. نخشى أن يتوقف المصريون عند قشور الحرية ومظاهرها التعبيرية من دون تحمل تبعاتها الحقيقية. سيكون أكبر"مقلب"يشربه المصريون إذا اعتبروا أن الحرية هي أن تتعرى علياء المهدي أو غيرها من الفتيات ليعبرن عن احتجاجهن. يحتاج المصريون لمزيد من فهم الحرية في ذاتها، ولمقدار من التحلي بالمسؤولية عن ممارستها. والعجيب أن المصريين نجحوا نجاحاً باهراً على مدى ثمانية عشر يوماً في ميدان التحرير وغيره من ميادين مصر وشوارعها في ممارستهم المسؤولة للحرية حتى أصابوا العالم بالدهشة حتى حدث ما حدث.
التفرقة الواجبة
الأكثر قلقاً، على صعيد آخر، هو افتقاد قبول الاختلاف كقيمة ثقافية وسلوك اجتماعي، تجلّى ذلك لدى النخب السياسية والحزبية ربما بأكثر مما بدا لدى عموم المواطنين. فقد كشفت السنتين الأخيرتين عن أن ثمة أزمة عميقة بين النخب السياسية والحزبية المدنية من ناحية والإسلامية من ناحية أخرى. والأخطر أن هذه الأزمة ليست كما تبدو في الظاهر أزمة اختلاف سياسي بين رؤى وبرامج سياسية لدى الفريقين. لو كان الأمر كذلك كما يحدث في العالم كله لهان الأمر كثيراً. الأزمة في الواقع هي أزمة تناقض سياسي وفكري وثقافي وربما نفسي أيضاً. هو تناقض يصل إلى حد الانشطار والقطيعة الكاملة على صعيد المنطلقات والمرجعيات. من ناحية النخب المدنية هناك رفض للآخر الإسلامي. وللرفض مكوّنات ثلاثة. مكوّن سياسي مبعثه عدم احترام الإرادة الشعبية التي أتت بالإسلاميين إلى مقاعد البرلمان ومنصب الرئاسة وذلك لمبررات سيرد ذكرها. ومكوّنه الفكري هو رفض الأسس الأيديولوجية التي ينطلق منها المشروع الإسلامي خصوصاً في امتداده الأممي وعمقه الديني وهويته الثقافية. ومكوّنه النفسي ناتج عن الأحكام المسبقة والهواجس الحاضرة والشكوك المستقبلة في مواجهة تيار الإسلام السياسي. أما نتائج الانتخابات أو التشكيك في اللجنة التأسيسية التي وضعت الدستور أو رفض الدستور ذاته، فليست سوى الأعراض الخارجية لحال الرفض العميق للآخر الإسلامي. وبالقياس ذاته فإن رفض النخب الإسلامية غيرَها من النخب السياسية والحزبية المدنية يكشف، مع تفاوت في الدرجة، عن تنافر حاد مع منطلقات ومرجعيات هذا التيار المدني.
ربما يقتضي الإنصاف إجراء تفرقة واجبة بين جماعة"الإخوان المسلمين"وحزب الوسط من ناحية، وبين التيارات السلفية المتشددة من ناحية أخرى. فجماعة"الإخوان المسلمين"وهي الرافد الأيديولوجي لحزب الحرية والعدالة بدأت منذ سنوات سابقة على ثورة 25 يناير مرحلة انفتاح على القوى المدنية. وحزب الوسط نفسه نشأ كهجين سياسي جريء في الجمع بين الإسلامي والمدني. لكن التيارات السلفية تحمل في أدبيات رؤيتها رفضاً لا تخطئه العين للأحزاب والقوى المدنية. وقد أفضت الفتاوى والتصريحات التي أطلقها بعض رموز هذه التيارات وشيوخها إلى تعميق أزمة قبول الآخر المختلف في المجتمع المصري. المفارقة المضحكة أن مصطلح قبول الآخر كان بدأ في الرواج على خلفية مقولات صراع الحضارات مقصوداً به الغرب ثم سرعان ما اكتشفنا أننا نعيش أزمة قبول الآخر وبشدة داخل ثقافتنا الواحدة ومجتمعنا الواحد!
في الأحوال كافة ترتب على افتقاد قيمة قبول الاختلاف والتنوع من الطرفين المدني والإسلامي حال من التشكيك يلزم لتبديدها سنوات من الثقة المتبادلة. يكفي أن المصطلح المستخدم في التصنيف السياسي إلى قوى إسلامية وقوى وطنية أو مدنية يبدو وكأنه ينزع عن الأولى صفة الوطنية أو المدنية وهو أمر غير دقيق. وكذلك التصنيف إلى قوى إسلامية وقوى علمانية يوحي بمناصبة الثانية العداء للإسلام وهو أمر غير منصف.
إن المجتمعات المعاصرة من حولنا تعرف حدّة الاختلاف السياسي والفكري لدى قواها الاجتماعية ونخبها السياسية والحزبية لكنهم لم يصلوا مثلنا إلى هذه القطيعة وربما الكراهية التي تتصاعد أبخرتها المقلقة لتزيد من تلوث سمائنا الملبّدة وغيومها. فالأحزاب الدينية في إسرائيل وأحزاب اليمين المتطرف في أوروبا لم تُوجِد مثل هذا المناخ من الهلع النفسي ولم تصنع مثل هذه الأزمات السياسية الخانقة التي نراها في مصر. وحينما حقق حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف في فرنسا نسبة تأييد شعبي وصلت في بعض الاستحقاقات الانتخابية إلى 20 في المئة لم تقم قيامة الأحزاب الأخرى في فرنسا، ولكن المجتمع الفرنسي شهد نقاشاً سياسياً عقلانياً وهادئاً وعميقاً حول أسباب الظاهرة ومآلاتها، وتم الاحتكام في تواضع سياسي وبروح رياضية إلى المنطق الديموقراطي ولوازمه التي يخضع لها الجميع.
وأخطر ما في المشهد المصري الراهن أنه تجاوز خطأ رفض الرأي الآخر ليرتكب خطيئة رفض الآخر المختلف نفسه. وتجلّى ذلك في رفض الإرادة الشعبية التي منحت هذا الآخر شرعية الحكم. هنا، تُوأَد الديموقراطية وهي بالكاد تطلق شهقتها الأولى احتفاء بالحياة. هنا، نضيّع على تجربة تحولنا الديموقراطي فرصة أن تصحح نفسها بنفسها، وننصّب من أنفسنا أوصياء على الديموقراطية مهما كانت بواعثنا الأخلاقية أو الوطنية.
... إلى التواضع
ولأن ثقافتنا لم تتح لنا بعد التحلي بتواضع قبول الآخر المختلف، ولا من باب أولى قبول الرأي الآخر فإننا سرعان ما شككنا في تصويت الغالبية بالموافقة على الدستور، بل وتعالينا بكثير من الغرور على نتائج هذا التصويت، فتحدثت رموز ثقافية ونخب سياسية عن رفض القاهريين المتعلمين وميسوري الحال والمتحضرين، الدستورَ الجديد في مقابل موافقة الفلاحين والفقراء وغير المتحضرين من سكان مدن الوجه البحري والصعيد. كيف يمكن والحال كذلك أن نفهم ما ينص عليه الدستور الجديد من مبادئ المساواة والمواطنة وحظر التمييز بين المصريين إذا كانت النخبة المثقفة والسياسية هي أول من يرتد على هذه المبادئ، وينتهك علناً ولو من باب التحليل السياسي، مبدأ المساواة ويميّز بين مواطني الجمهورية بسبب وضعهم الاقتصادي أو المناطقي أو الثقافي؟
دعونا نعترف إلى أن عموم المصريين والنخبة والمثقفين كانوا على مدى الستين عاماً الماضية فقدوا ذاكرة الممارسة الديموقراطية في أية انتخابات برلمانية أو رئاسية حقيقية، حتى أساتذة الجامعات لم يمارسوا ديموقراطية انتخابات رؤساء جامعاتهم. لم يكن غريباً إذاً أن يثور اللغط والرفض والتشكيك حول نتائج صناديق الاقتراع في مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير. فلم يخلُ موقف النخب الحزبية والسياسية من اعتراضات لا تليق بهذه النخب. من أمثلة ذلك القول إن الدستور لن يكتسب شرعيته ما لم يوافق عليه أكثر من ثلثي المقترعين وهو الشرط الذي لا مثيل له في أي نظام دستوري في العالم. فهناك دساتير حديثة صدرت بموافقة أقل من ستين في المئة من أصوات المقترعين. والدستور الأميركي الذي صدر في زمن مختلف وسياق مخالف اشترط لنفاذ أية تعديلات لاحقة موافقة ثلاثة أرباع الولايات الأميركية لأن الأمر يتعلق بدولة فيديرالية ذات نظام خاص. كما تجلّى الالتباس حول مفهوم"التوافق"في صوغ الدستور لدى كثير من المصريين. وبدا للبعض أن الغالبية الشعبية لا تكفي ما لم تصل إلى حد التوافق، وهو أمر لا يخلو من غموض وإيجاد مستحدث لضرب جديد من ضروب الإرادة الشعبية. فالتوافق لا يعني الإجماع وفق مدلوله اللغوي لأنه أدنى من الاتفاق وكذلك وفق الواقع لأنه يكاد يكون مستحيلاً التحقق لدى هيئة مقترعين على الاستفتاء يبلغ عددها خمسين مليوناً من المواطنين. كما أن التوافق لا يعني بالضرورة غالبية موصوفة كالثلثين مثلاً أو غيرها لأن الغالبية الموصوفة لا تكون إلا بنص يواجه حالات خاصة. هكذا، كشف لنا النقاش السياسي الدائر في مصر أن مفهوم احترام الإرادة الشعبية مثلما عرفته البشرية منذ ديموقراطية اليونان القديمة لم يتجذر بعد في الثقافة السياسية للمجتمع المصري. من المحزن أن البعض كاد يصل إلى حد فرض الوصاية على الإرادة الشعبية مثلما فعل النظام السابق في مصر على مدى العقود الماضية. الخلاف بينهما لم يكن في الطبيعة بل في الدرجة. فالنظام المستبد السابق"ألغى"الإرادة الشعبية كليّة من خلال انتخابات صورية ومزيفة، أما معظم النخب السياسية والحزبية فحاولت"تأويل"هذه الإرادة الشعبية والحط منها. مثل هذه الثقافة تثير القلق خصوصاً إذا كانت هي ثقافة التيار الليبرالي الذي كان عليه أن يعطي دروساً في تقبل رأي الغالبية الشعبية المخالفة له.
دلالتان
للمشهد السياسي الراهن دلالتان جديرتان بالرصد والتأمل. الدلالة الأولى أن القيم الثقافية والاجتماعية المؤسسة لمفهوم الديموقراطية لا تخلو لدى معظم النخب المصرية من مقدار من الالتباس وربما التهافت. يكفي تأمل مواقف المرشحين الخاسرين في الانتخابات الرئاسية. باستثناء السيد عمرو موسى الذي اتسم موقفه بمقدار كبير من الموضوعية والمسؤولية فإن غيره هاجم نتائج الانتخابات بضراوة إلى حد اعتبارها منعدمة والانعدام مصطلح خطير في معناه القانوني أسرف البعض في استخدامه لا لشيء إلا لكونه خسر الانتخابات. وكانت المقارنة مؤسفة بين ليبرالي فرنسي مثل ساركوزي يتقبل خسارته بفارق طفيف في انتخابات الرئاسة الفرنسية بينما ترفض رموز سياسية مصرية محترمة حقيقة خسارتها فتهيل التراب على أول انتخابات ديموقراطية حقيقية تشهدها مصر عبر كل تاريخها لاختيار رئيسها.
ولئن كان هذا هو موقف الأحزاب والتيارات المدنية فإننا لا نعرف ماذا سيكون عليه موقف الأحزاب والقوى الإسلامية حال خسارتها انتخابات أو استفتاءات مقبلة. هل سيكون هو التشكيك ذاته أم يصل الأمر كما يعتقد البعض إلى الانقلاب على نتائج صندوق الاقتراع؟ في الحالين نحن بصدد دلالة أولى متشائمة للمشهد المصري الراهن تقول إننا نفتقر إلى مجموعة من القيم الثقافية والاجتماعية المؤسسة للممارسة الديموقراطية. هذا واقع يهدد بتفريغ الكثير من النصوص المنظمة للعملية الديموقراطية في الدستور الجديد من محتواها.
أما الدلالة الثانية المتفائلة للمشهد الراهن فخلاصتها أننا في مرحلة انتقالية بالكاد تضع أوزارها عقب ثورة شعبية جارفة هي الأولى في تاريخ مصر كله. وللمراحل الانتقالية للثورات كما يسجل التاريخ، ناموسٌ لا يكاد يتغير تسوده مظاهر الحيرة والشك والفوضى والعنف وتصفية الحسابات السياسية والاجتماعية وحركات الارتداد والانتكاس بفعل القوى المضادة للثورة. وهنا، يجب عدم القياس على بعض الثورات المخملية أو الثورات التي أنهت حقبة أيديولوجية معينة. القياس يجب أن يكون على الثورات التي أحدثت قطيعة سياسية واجتماعية وثقافية مع النظم السابقة عليها. كان وما زال من الطبيعي إذاً أن تعيش مصر على مدى عامين ما عاشته من فوضى واضطراب ومحاولات ارتداد وانتكاس. غير الطبيعي ألا يكون شيء من هذا حدث. وبالتالي فإن المخزون المصري من القيم السياسية والاجتماعية للديموقراطية ما زال لدى هذه الرؤية المتفائلة موجوداً لكنه غائر بفعل الزمن وافتقاد الممارسة.
أياً كان نصيب الدلالتين السابقتين من الصحة أو الدقة فإن سؤال اللحظة الأكثر جدوى هو كيف السبيل إلى أن نحتكم إلى هذه القيم الثقافية والاجتماعية للديموقراطية الحرية وقبول الاختلاف واحترام الإرادة الشعبية لتكون قوة حماية مجتمعية لنصوص الدستور الجديد؟ لعلّ البداية هي أن يتجاوز كل طرف الهواجس والشكوك التي صنعتها مخيلته السياسية عن الطرف الآخر. علينا أن نعترف أن التيار الإسلامي خرج من صفوف المصريين، واكتسب شرعية ديموقراطية، أياً كانت أسباب ذلك وجذوره. فلم يعد مقبولاً ولا مجدياً إنكار حقيقته وتأثيره. بل إن إخراجه من ظلمات العمل السري إلى واجهة الحياة السياسية اليومية هو أمر يصب في مصلحة الجميع. ظل هذا التيار لدى الكثيرين ولعقود طويلة من الزمن هو الشبح الذي تنسج من حوله الأساطير والمخاوف. ها قد ظهر أن الشبح قد خرج من رحم مجتمعنا وطين أرضنا وإخفاق حاضرنا ففيمَ الدهشة إذاً؟
وننسى أن وصول التيار الإسلامي إلى السلطة سيحقق ثلاث فوائد لا تقل إحداها أهمية عن الأخرى. الفائدة الأولى هي اختبار رؤية التيار الإسلامي وممارسته على أرض الواقع وهو يقود زمام الدولة بعيداً من أدبيات الخطاب الدعوي. سيكون مفيداً ومثيراً أن نعرف موقف التيار الإسلامي من قضايا المواطنة والحريات بل وموقفه من المسألة الديموقراطية ذاتها إذا لم يحصل على الغالبية في انتخابات برلمانية أو رئاسية مقبلة. هذا هو المحك الوحيد لاختبار كل ما لدى النخب المدنية من هواجس وشكوك في مواجهة التيار الإسلامي.
الفائدة الثانية هي أن انتقال التيار الإسلامي من أدبيات الخطاب الدعوي إلى متطلبات الرؤى والبرامج السياسية لا بد أن يحدث حراكاً داخلياً عميقاً في صفوف هذا التيار. هذا الحراك سيفرز اجتهادات سياسية وفكرية إسلامية جديدة. قد نرى وسطاً إسلامياً معتدلاً أو يساراً إسلامياً تقدمياً في ظل عصر سريع الإيقاع كثير المتغيرات. وهذه احتمالات ستثري حتماً الرؤية السياسية للتيار الإسلامي نفسه حتى وإن رأى فيها بعض الإسلاميين مخاوف على وحدة التيار الإسلامي المعروف تاريخياً بانضباطه التنظيمي والسياسي. هذا كله سيصب في مصلحة الوطن وسيدفع مرحلة تحولنا الديموقراطي قدماً إلى الأمام.
الفائدة الثالثة أن وصول التيار الإسلامي إلى الحكم سيمثل استنفاراً إيجابياً ومطلوباً للأحزاب والقوى المدنية وسيقوي من عضدها من دون أن تدري. فقد ظلت هذه الأحزاب والقوى لفترة طويلة ذات طابع نخبوي وربما انعزالي وكأنها في برج عاجي بينما كان الإسلاميون ينشطون في الشوارع والعشوائيات والأحياء الفقيرة والمدن الجامعية والنقابات المهنية، وهم في كل هذا غير ملومين. اللوم يتحمله الذين ابتعدوا عن هموم الناس وآثروا أن يطلوا عليهم من خلال الفضائيات. الآن تدق ساعة الحقيقة ويفتح الشارع أبوابه للجميع. لم يعد لائقاً بعد اليوم أن نلوك الحجة التي ظللنا نرددها من دون أن ندري أن فيها إدانة لنا، وهي أن التيار الإسلامي يفوز في صناديق الاقتراع لأنه الأكثر تنظيماً... فماذا يكون الحزب إن لم يكن منظماً؟! أليس عنصر التنظيم هو ما يميّز نشاط الحزب عن نشاط الفرد؟ أليس الحزب في أبسط معانيه هو مجموعة من المواطنين تنظمهم أفكار وبرامج يسعون إلى تطبيقها من خلال كسب ثقة الشعب للوصول إلى الحكم على طريق التداول السلمي للسلطة؟ ربما كان يتمنى كاتب هذه السطور لو أن التيار الإسلامي ظل يعمل كقوة ضمير أخلاقي تلهم المجتمع بالقيم والمبادئ بعيداً من أتون السياسة وصراعاتها. لكن، إذا اختار هذا التيار أن يعمل بالسياسة فهذا حقه الطبيعي. ويبقى الاختيار للشعب.
الأمر المؤكد في نهاية المطاف أن الدستور وحده لن يصنع بين ليلة وضحاها المجتمع الديموقراطي الذي نتطلع إليه. هناك مجموعة من القيم الثقافية والممارسات الاجتماعية التي ينبغي إحياؤها وترسيخها والدفاع عنها لكي تصبح هي الحارسة لنصوص الدستور الساهرة على حمايته من كل اعتداء أو جور. في كلمة واحدة علينا ألا نخذل الديموقراطية لكي لا تخذل أحداً.
* أستاذ في كلية الحقوق - جامعة الإسكندرية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.