لو كان فرويد حياً وعلى نشاطه الدراسي والتجديدي، يوم عرفت رواية صادق هدايت"البومة العمياء"، على نطاق واسع، ونخبوي في الوقت نفسه، في فرنسا، كان من شأنه أن ينكب عليها دراسة وتمحيصاً. وعلى الأقل لأن كل ما فيها، يؤكد الكثير من نظرياته في عالم التحليل النفسي، ولا سيما في مجالين أساسيين: عقدة أوديب من جهة، والكآبة السوداوية من جهة ثانية، ففي هذه الرواية، التي هي أشهر أعمال ذلك الكاتب الإيراني، ابن القرن العشرين بامتياز، وأشهر كتّاب ايران في العصور الحديثة، يبدو هدايت وكأنه، في كل صفحة من صفحاته يطبق واحدة، أو أكثر، من أفكار فرويد في هذا المجال. ولعله يصل في هذا المجال الى ذروته، حين يكتب في واحد من فصول الكتاب:"انني لا أكتب إلا من أجل ظلي الحاضر أمامي هذا على الحائط في مواجهة الضوء. اشعر بأن عليّ أن أقدم نفسي اليه". ومن يقدم نفسه هنا، إنما هو راوي"البومة العمياء"الذي يكاد يكون صادق هدايت نفسه، ما يعني اننا أولاً وأخيراً، أمام عمل ينتمي الى أدب السيرة الذاتية، حتى وان تم التعامل معه دائماً بوصفه رواية. وهنا قبل أن نتحدث عن هذا العمل، لا بد أن نشير أنه كان واحداً من آخر أعمال هدايت التي طبعت خلال حياته، ذلك أنه معروف أن الكاتب انتحر بعد صدورها بسنوات قليلة، عن عمر يناهز الثامنة والأربعين حين كان مقيماً في باريس مشكلاً جزءاً من حياتها الثقافية مختلطاً خاصة بالسورياليين الذين عرفوه عن كثب وقدروه حتى من قبل أن تترجم"البومة العمياء"الى لغتهم. فهو كان قبل ذلك عرف بقصص قصيرة له ترجمت الى الفرنسية، التي كانت في صباه، على أية حال، لغته الثانية إذ تعلمها في ايران. ولا بد أن نضيف هنا أن"البومة العمياء"لم تصدر أول الأمر في طهران، ولا في فرنسا - كما يقول البعض -، بل في بومباي في الهند، حيث أقام هدايت طوال العام 1937، الذي كتب فيه هذا العمل. أما الطبعة الهندية فكانت خاصة وطبع على غلافها أنها ليست للبيع ولا للنشر في ايران. صحيح أنها طبعت في طهران لاحقاً عام 1941 ولكن ليس ككتاب، بل كمسلسل في صحيفة"ايران"اليومية. لكنها منذ ذلك الحين راحت تلعب لعبة القط والفأر مع الرقابات المتعاقبة، حيث كان كل حكم جديد يحرص على منعها كواحد من أول نشاطاته. ومن هنا نجدها اليوم ممنوعة في ايران، من دون أي تبرير، كما منعت في عهد الشاه. فقط خلال عهد مصدق، القصير زمنياً، لم يفرض على"البومة العمياء"أي منع. وهنا، مع شيء من حسن النيات قد يمكن أن نقول ان منع الرواية ليس سياسياً، ولا حتى دينياً بوضوح ولا أخلاقياً: ربما كان المنع دائماً ينطلق من شهرة الرواية بأنها قد استبقت انتحار الكاتب وبررته. والحقيقة أن رواية"البومة العمياء"يمكن اعتبارها واحدة من أكثر الأعمال الأدبية كآبة وسوداوية في تاريخ الأدب. وهي، في هذا، تعكس بالتأكيد مزاج كاتبها، منذ ناهز سن الشباب وحتى رحيله. وهو أمر تقوله سيرة هدايت. كما تقوله صفحات الرواية نفسها. ومع هذا تقول سيرته أنه متحدر أصلاً من أسرة ثرية من شمال ايران، وانه كان في طفولته صبياً منفتحاً على الحياة، دللِّه والداه المتنوران المثقفان أكثر من أي من أخوته وأخواته. مبدلين له المدرسة كما يشاء محققين له كل أمنياته، ثم ما ان بلغ سن المراهقة حتى تبدل مرحه غماً واقباله على الحياة ادباراً عنها، كما يروي أخوه وكاتب سيرته. لماذا وكيف حدث هذا؟ ليس ثمة جواب واضح. كل ما في الأمر ان هذا التبديل حدث لديه في شكل مباغت ليبقى كئيباً وحيداً متجولاً برماً بالحياة حتى انتحاره. ومهما يكن من أمر فإن صادق هدايت يبدو وكأنه، في"البومة العمياء"أكثر مما في أي نص آخر من نصوصه، قد قدم مفاتيح عدة للتحليل... هي، بعد كل شيء، وكما ألمحنا أعلاه، مفاتيح فرويديه. ذلك أن أول ما يشعر به المرء وهو يقرأ كل تلك الصفحات الحزينة والسوداء التي خطها قلم هدايت، خلال السنة التي أمضاها في بومباي، هو أن كل النساء اللواتي يحطن بالكاتب في الرواية صالحات طيبات خيّرات يحللن لدى الراوي، مكان أمه. بينما كل الرجال يشبهون أباه، فينفر منهم ومن الرجال في شكل عام، نفوره المكشوف هنا، من أبيه. اننا هنا أمام عقدة أوديبية بامتياز. غير أن الكاتب، يعطي للعقدة الأوديبية هنا، بعداً وجودياً يدنو من السوريالية، ما يجعلها شديدة الخصوصية. ذلك ان الشخصية المحورية هنا، بعد الراوي ? أو حتى التي تبرر وجود الراوي ? انما هي الموت. هذا الموت الذي يحل ضيفاً ثقيلاً، منذ الصفحات الأولى، في حياة وأفكار بطلنا الراوي، الذي هو الراوي. فالراوي يحكي لنا كيف أنه يعيش ليله ? وربما نهاره أيضاً ? وسط كوابيس تقول له ان"وجود الموت يلغي في حياته كل قدرة على التخيل"، مضيفاً"اننا ثمرة من ثمار الموت، تقول هذه الكوابيس، والموت هو الذي يخلصنا من أوهام الحياة وإغواءاتها المزيفة. الموت هو الذي ينتزعنا الى الواقع، من عمق أعماق الحياة ... أن للموت أصابع تشير الينا طوال سنوات حياتنا". ولعل ما يلفت النظر هو ان الراوي، إذ يحكي هذا كله، انما يوجه حديثه الى ظله، هذا الظل الذي يقدمه الينا على شاكلة بومة، تصغي اليه باهتمام وتتابع اعترافاته. ليس في الأمر إذاً، حكاية أو حبكة. ما لدينا هو مشاهد متتالية منتزعة من حياة الراوي، واصفة أحزانه ولا جدوى كل ما يفعل. انه الفراغ الوجودي التام. وإنها الحياة وقد صارت ? بالنسبة الى الراوي ? عبئاً لا خلاص منه إلا بالموت وهذا ما يجعل الباحث الإيراني ايراج بشيري، الذي كتب دراسات عدة عن هدايت، ويعتبر أحد كبار المتخصصين في حياة وعمل هذا الأخير يقول انه بعد عمل استغرق 10 سنوات على دراسة"البومة العمياء"? في إطار إنتاج هدايت الأدبي ككل، كما على المشاركة في ترجمة جديدة لها بالإنكليزية، بات في إمكانه أن يختصر عالم هدايت بأنه"عالم أسود... لا يبدو لك سواده إلا إذا كنت داخله. بل انه يستحوذ عليك كوسواس حتى وإن تركته، على الأقل خلال مدة من الزمن تلي تركك له, اما إذا تركته لحاله منذ البداية ولم تتسلل اليه، فإنه يتركك هو الآخر لحالك...". مهما يكن لا بد أن نقول هنا ان الرواية كلها، وفي عمق أعماقها، لا تقدم صورة واضحة للراوي وقد استسلم أمام هذا"القدر الوجودي"، بل على العكس: الرواية تحكي لنا الصراع الذي يخوضه الراوي مع العلاقات التي يقيمها، كما ضد أفكاره الانتحارية التي تبدو وكأنها لا تريد أن تفارقه. ومن هنا قد يجوز أن نقول، ان انتحار صادق هدايت نفسه، لا مصير بطل"روايته"هو النهاية الحقيقية لهذا النص الأدبي. ذلك أن ثمة في هذا النص ما يغرينا حقاً بالقول ان كتابته نفسها، كانت فعل دفاع عن الذات... تبعاً لنظرية في التحليل النفسي، تقترحها آنا فرويد في مجال استكمالها تحليل سيغوند فرويد في شأن"العقدة الأوديبية". وفي هذا المعنى يصبح من الضروري الانتباه الى أن طيبة النساء في"البومة العمياء"، مقابل شر الرجال، انما يعكس رغبة هدايت في أن تكون كل امرأة أمه، ويتخلص من كل رجل، لأن كل رجل انما هو صورة أبيه. ولد صادق هدايت في طهران عام 1903، وهو درس أولاً في"دار الفنون"الإيرانية، ثم انتقل الى ليسيه فرنسية في طهران، حيث بقدر ما أهمل الدراسة انكب باجتهاد على قراءة تشيكوف وكافكا وادغار آلن بو. ثم سافر بعد ذلك ليمضي أربع سنوات متنقلاً بين فرنسا وبلجيكا. وهو كان يعود بعد ذلك من عام الى آخر الى ايران ليسأم بسرعة ويسافر الى مناطق أخرى من العالم مكتفياً بالكتابة والقراءة، محاولاً أن يبقى وحده منعزلاً متأملاً سوداوياً قلقاً، طوال الوقت. ولقد مكنه هذا كله من أن ينتج أعمالاً مسرحية وشعرية وبحثية عديدة، حتى وإن كان كثر يعتقدون أنه لم يكتب طوال حياته الأدبية ذلك النص الذي يعتبر أشهر نص أدبي ايراني، وواحداً من أمهات النصوص الأدبية في العالم طوال القرن العشرين. [email protected] نشر في العدد: 16771 ت.م: 05-03-2009 ص: 14 ط: الرياض