نجم صادق هدايت 1903- 1951 يلمع في سماء ايران. هذا يحدث بعد خمسين سنة على موته منتحراً بالغاز في باريس. كاتب يعاد اكتشافه في الوطن بعد ان عُرف جيداً خارج الوطن. سيرة تشبه سيرة الروسي ميخائيل بولغاكوف صاحب "المعلم ومرغريتا". لكن الإيراني صادق هدايت لا يتشابه والروسي ميخائيل بولغاكوف إلا في هذه النقطة. خيال بولغاكوف حرّره من قيود العالم. هذا روائي استدعى الشيطان الى موسكو ليكتب نصاً لُعبياً وملحمياً في آن معاً. نص يحظى بحسد غابرييل غارسيا ماركيز. هدايت، في الجانب الآخر، لم يحرره الخيال من قيود العالم. هدايت، مثل كافكا، سحبه الخيال الى القعر. دمّره تماماً. اكتشف مؤرخو حياة آرنست همنغواي ان الكاتب الأميركي الذي انتحر بطلقة من بندقية صيد كان مصاباً بالبارانويا. ولا شيء يغذي البارانويا كما تفعل الوساوس والمخيلة. هذه دائرة مظلمة. كافكا وهمنغواي وهدايت. ويمكن اضافة اسماء اخرى، من الياباني ياسوناري كاواباتا 1899- 1972 الذي انتحر بالغاز مثل هدايت، الى الروسي الغامض أ.أجييف الذي لا احد يعرف اين اختفى في ثلاثينات القرن العشرين بعد ان أرسل مخطوطته "رواية مع كوكايين" الى مجلة باريسية تصدر بالروسية. نجم صادق هدايت يلمع في سماء ايران. لماذا يستعيد الإيرانيون صاحب "البومة العمياء" اليوم؟ نشر هدايت "البومة العمياء" للمرة الأولى عام 1936. نشرها بخط يده في بومباي الهند. ولم تطبع في ايران إلا بعد انتحاره بسنتين. خلال النصف الثاني من القرن العشرين رمت التيارات الإيرانية السياسية هدايت بشتى التهم. لكن هدايت يبقى هدايت. كاتب مقيم في عزلة صاخبة يزعم انه يكتب لظلّه وحسب، "ظلّي الساقط امام المصباح على الجدار ينبغي ان أعرفه بنفسي" "البومة العمياء"، ترجمة عمر عدس، منشورات الجمل، 1999، بينما هو يكتب لمجموعة هائلة من الظلال اسمها الوحيد هو: القُراء. "البومة العمياء" كتاب عن الخوف. أن يقال ان هدايت كتبه تحت تأثير الأفيون لا يُنقص من قيمته شيئاً أو يزيد. الإنكليزي توماس دي كوينسي 1785- 1859 فعل أمراً مشابهاً في "اعترافات آكل أفيون انكليزي" نشرها سنة 1821 في "لندن ماغازين". وكذلك فعل كولريدج في قصيدة "قوبلاي خان". لكن الأفيون هنا ليس إلا ذريعة. خدعة من كاتب يريد الحرية كاملة، ليقول ما يريد كاملاً وبلا أي رقيب. ذلك هو إنجاز هدايت في "البومة العمياء". أن يفتح روحه على طاولة. أن يفرغ ما في رأسه امام القراء. وأن يفعل ذلك بجرأة لا متناهية تولد من خوف لا متناه. ماذا يقدر الواحد ان يخسر بعد ان خسر كل شيء؟ "أريد الآن أن أضع حياتي كلها في يدي وأعصرها مثل عنقود عنب..."، يكتب هدايت. ويصف نفسه وحيداً في غرفة، ويصف نافذة يطلّ منها على العالم: السماء والأشجار والرجال والنساء. يطلّ الكاتب من نافذة على إيران، أو على الهند، أو على أي مكان في هذا العالم، ويكتب حكايته. "مهما بالغت في الانطواء على نفسي مثل الحيوانات التي تقضي الشتاء داخل احد الجحور، فإني كنت اسمع اصوات الآخرين بأذني، وأسمع صوتي في حنجرتي ... في هذا الفراش الرطب الذي تشرّب برائحة العرق، حين يثقل جفناي، وأريد أن أسلم نفسي للعدم ولليل الخالد، كل الذكريات الضائعة والمخاوف المنسية تدب فيها الحياة من جديد: الخوف من ان يتحول ريش الوسادة الى خناجر، وتكبر أزرار سترتي فتصبح بحجم حجر الطاحون. الخوف من ان تنكسر كسرة الخبز الرقيقة مثل الزجاج حين تقع على الأرض. القلق من ان أغفو فينسكب زيت السراج على الأرض وتشبّ النار في المدينة ... الخوف من ان يصير فراشي شاهد قبر ويدور بواسطة مفصل حول نفسه فيدفنني وتنطبق الأسنان المرمرية على نفسها. الخوف والرعب من ان ينقطع صوتي فلا يخف أحد لنجدتي مهما صرخت". خوف هدايت يمزج السردي بالشعري، ويبدأ دوماً من وسواس. خيال الرجل قتله. لكنه خيال يبدأ من الواقعي مرة تلو اخرى. يجوز ان نسمي هذا: كيمياء الوسواس. خوف لا منطقي، خوف هستيري، ينطلق من سبب مقنع، على الأقل بالنسبة الى المريض. وخوف هدايت هو بالتالي حال متطرفة لخوف يعانيه الإنسان العادي.خوف يتعاظم في لحظات الاضطراب. نجم صادق هدايت يلمع في سماء ايران. بعد نصف قرن على تحلل ذرات جسده، وفي صورة تُذكر بمقطع من "البومة العمياء"، نرى يدين طويلتين بأصابع طويلة حساسة تجمع بدقة كل ذرات جسده، وتعيد ترتيب اعضائه. يعيش الكاتب في روايته. يستمر بعد الغياب.