لا يختلف اثنان في ديار العرب والمسلمين حول أن الفساد الإداري والمالي والرشوة والمحسوبية ضاربة أطنابها ومتغلغة في جسم الأمة حتى النخاع، فقد انتشر الفساد على يد أناس فسدت ذممهم وأخلاقهم وغلّبوا شهواتهم وأعماهم حب المال، فسوّلت لهم نفوسهم البغيضة الاستيلاء على أموال ليس لهم فيها حق مستغلين سلطاتهم ونفوذهم لتحقيق منافع خاصة لهم ولأقربائهم وحلفائهم بل وجلسائهم. إن الوظيفة أمانة وكُلف بها شاغلوها لخدمة الناس، ولكن للأسف كثيرون يستغلونها لمصالحهم الذاتية وضرر الناس، يعطون من لا يستحق ويمنعون من يستحق، يدعمون القوي ويظلمون الضعيف. إن الرشوة ظلم وأكل حرام وإفساد في الأرض، وآكل الرشوة إنما يأكل في بطنه ناراً، وهو ملعون في الدنيا والآخرة فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لعن الله الراشي والمرتشي. كان السلف الصالح يعرف خطورة المال الحرام على الدين، فكانوا يتحرون أن يكون مطعمهم طيباً ففي صدر الإسلام والدين لا يزال أثره قوياً في صدور المؤمنين، وعندما علم بعض الصحابة رضي الله عنهم عقوبة أخذ المال الحرام سواء من المال العام أم من المواطنين استعفوا من الولاية واعتذروا من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قبولها لخوفهم، على رغم قوة إيمانهم أن يلحقهم بعض من الغلول فقبل النبي عذرهم ومنهم أبو مسعود الأنصاري الذي قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعياً ثم قال: انطلق أبا مسعود لا ألفينك يوم القيامة تجيء على ظهرك بعير من ابل الصدقة له رغاء قد غللته، قال إذاً لا أنطلق، قال عليه الصلاة والسلام: إذاً، لا أكرهك رواه أبو داود. أما في زماننا هذا فقد شاعت الرشوة وانتشرت المحسوبية وعم الفساد واستغل كثير من أصحاب النفوذ نفوذهم لا يفرّقون بين حلال وحرام، أصبحوا هم أصحاب السطوة والكلمة. أما الصادق والأمين فقد أصبح غريباً بينهم مذموماً مهضوماً يحارَب اشد الحرب على طهره وعفة يده ونقاء نفسه فيحرم مما يستحق من ترقيات ويحجب عنه ما يستحق من حقوق ويلاقي من المضايقات ما يلاقي بل ربما أحيل للتقاعد مبكراً جزاء له على أمانته وعفة يده! إن معظم القادة والموظفين ممن وضعتهم الظروف في وظائف حساسة لا يمكنهم استغلال نفوذهم الوظيفي لو شرع لهم قانون من أين لك هذا؟ فيدوّنون فيه قبل تسلمهم زمام وظائفهم كل ممتلكاتهم وممتلكات من تحت ولايتهم. لو حدث هذا لاعتذر الكثيرون منهم لأن القانون سيقف لهم بعقابه بالمرصاد. إن الصورة في أقطار العرب مظلمة كئيبة، الفساد قد استشرى وعمّ، فالرشوة والمحسوبية والواسطة أصبحت شخوصاً تعيش وسط الناس وتمشي بينهم، وأكثر من يعاني من هذا الثالوث عامة الناس وفقراؤهم، فلا مال للرشوة لديهم ولا ظهر يسندهم، مصالحهم معطلة وحقوقهم متعثرة وأبناؤهم عاطلون عن العمل. هذا، لأن صاحب السطوة والنفوذ يوزّع الوظائف بين أهله وذويه وربعه ومحبيه وكأن الوزارة أو الهيئة أو المصلحة أو الإدارة التي يقع على رأسها ضيعة يملكها يقسمها بين أهله وعشيرته، أما من هم أولى منهم أهلية وخبرةً وأمانةً فلهم الله. إن المحسوبية من أسوأ أنواع السرقة فهي إعطاء من لا يملك لمن لا يستحق، وان الرشوة قد أرهقت الغلابة والفقراء، وهي رشوة وان اتخذت مسميات مثل الاكرامية أو الحلاوة فقد أنهكت جيوب المواطنين الذين يسعون جاهدين لإنهاء إجراءات معاملاتهم أمام الجهات الحكومية وغير الحكومية. إن الرشوة ظلم والمحسوبية ظلم والواسطة ظلم والظلم ظلمات يوم القيامة بل هو ظلمات في الدنيا يأخذ من الضعيف ليعطي القوي ومن الفقير ليعطي الغني ومن العاجز ليعطي القادر. المهم أن قضية الفساد الإداري والمالي بكل أنواعه وصنوفه أصبحت ظاهرة علنية في الوطن العربي من خليجه إلى محيطه، وأصبح الثراء الفاحش غير المعروف مصدره لبعض المسؤولين في أجهزة القطاع العام واضحاً للعيان، وقصورهم ويخوتهم وطائراتهم الخاصة تبرز الفساد، ولا يمكن لهم أبداً الفوز بها من دون استغلال نفوذهم الوظيفي أسوأ استغلال، وهم الذين يشهد الكثيرون بأنهم لم يكونوا يوماً من أصحاب الثروات، ولم يعرف عن آبائهم أو آباء آبائهم أنهم ملكوا يوماً ثروات كبيرة تكفي لشراء منزل متوسط، فهم من مستوري الحال. وبين عشية وضحاها يصبح بعض من قذفت به الأقدار ليتولى منصباً قيادياً، من كبار المسؤولين ومن أصحاب الثروات ومن وجوه المجتمع، ولو أن هؤلاء السادة من الموظفين كان مصدرهم الراتب والمكافآت والبدلات لما بلغوا الثريا في ثرواتهم وسكنوا القصور والشقق الفارهة في الداخل والخارج في أرقى الأحياء، وأغلى الأبراج التي تشيد مطلة على البحار والأنهار والمناظر الخلابة. وكل ما يسمعه الناس في الوطن العربي عن قوانين وأنظمة ولوائح صيغت بعناية قانونية ورقابات على مثل هؤلاء الفاسدين احتيل عليها ولوي عنقها بأسلوب يفوق صياغتها فأصبحت حبراً على ورق. وأصبح الفاسدون ينفّذون خططهم في الاستيلاء على المال العام وإرهاق عاتق المواطنين في الرشاوى جهاراً نهاراً، لأنهم ضمنوا غياب الرقابات وأمنوا من العقاب ومن يضمن هذا يفعل ما يشاء. أعرف أن محاربة عاهة الفساد في البلاد العربية تحتاج إلى جهد وشجاعة ومقاومتها في غاية الصعوبة لأن المجتمعات قبلية وعشائرية، الوصول إلى الرؤوس فيها صعب ومعاقبتهم لها حسابات كثيرة. ولا اقل أن نفعل مثل الصين التي طبقت أقسى العقوبات على كل من ثبت انه ارتشى أو أفاد من موقعه الوظيفي أو السياسي، ونحن أولى أن نقاوم الفساد بالشدة منهم، فنحن أهل الإسلام وبنو الطهر والعفاف والعدل، فلا كبير أمام الشرع والقانون وإنما أهلك من كان قبلكم أنهم كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. ونحن والله مهددون بالهلاك - إلا إذا بلغنا والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها. فهل فينا من الشجاعة والعزيمة ما يبلغ بنا هذا المرتقى أم أننا استسلمنا ننتظر الهلاك؟ * مفكر سعودي - رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية