كنت أشارك في المؤتمر السنوي للجمعية الأوروبية للعلوم السياسية الذي عقد في جامعة كنت بإنكلترا وذلك قبيل وقوع أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001 بأيام. دعيت لإلقاء الخطاب الافتتاحي للمؤتمر مع رئيس جامعة كنت. وبعد أن انتهى المؤتمر توجهت إلى لندن لأمضي بضعة أيام وأزور المكتبات للاطلاع على ما صدر من كتب جديدة في ميادين اهتمامي العلمي. كنت في طريقي إلى مكتبة"الساقي"وكان بصحبتي في السيارة الدكتور خير الدين حسيب مدير مركز دراسات الوحدة العربية، حين وصلني خبر الهجوم الإرهابي على الولاياتالمتحدة الأميركية. أدركت لحظتها أن العالم سيتغير تغيرات عميقة على العديد من الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية كرد فعل على هذه الأحداث المهولة، وخصوصاً بعد أن شاهدت على شاشة التلفزيون البريطاني خطابات الرئيس بوش والرئيس جاك شيراك ورئيس الوزراء توني بلير، واستخلصت منها خيطاً رئيسياً يتمثل في تأكيدهم أن الهجوم الإرهابي على الولاياتالمتحدة الأميركية هو عدوان موجه بالأساس لضرب قيم الحياة الغربية. وأدركت على الفور أننا على شفا حرب ثقافية كبرى بين الغرب والعالم الإسلامي والعربي، بحكم أن من قاموا بالهجوم الإرهابي - حسب الرواية الرسمية - هم عرب ومسلمون. قبيل سفري لحضور المؤتمر في انكلترا كنت مشغولاً بكتابة سلسلة مقالات عن صراع الحضارات وحوار الثقافات. وعقب وصولي الى القاهرة قطعت هذه السلسلة، لأبدأ البحث في أحداث 11 أيلول سبتمبر والنتائج التي ستترتب عليها. وأصدرت نتيجة لذلك مجموعة أبحاث متعمقة في كتابي"الحرب الكونية الثالثة: عاصفة سبتمبر والسلام العالمي"الذي صدر عن دار"ميريت"في القاهرة عام 2003، ثم صدر في طبعة أخرى عن دار"المدى"في دمشق في العام نفسه. وصدر الكتاب بمقدمة عنوانها"من الفوضى الطليقة إلى الهيمنة المقننة". وتعقبت فيها التطورات الدولية المهمة التي حدثت في العالم عقب انهيار الاتحاد السوفياتي حوالي عام 1991 ونهاية عصر الحرب الباردة، وما تبع ذلك من تغيرات كبرى في عديد من بلاد العالم، وخصوصاً في البلاد التي كانت واقعة في دائرة نفوذ الاتحاد السوفياتي أو تلك التي انفصلت عنه مثل جورجياوأوكرانيا. وبدأت مقدمة كتابي المشار إليه بسؤال جوهري مفاده:"ترى هل نستطيع أن نصوغ تعميمات صحيحة تتعلق بفهم منطق الأحداث العالمية التي ما برحت تنهال على الوعي الإنساني المعاصر في كل حين؟ أم أننا نعيش في عالم يتسم بانعدام اليقين وليست هناك إمكانية للتنبؤ بمستقبله، كما تذهب إلى ذلك عبارة أضحت كلاسيكية في أدبيات العلاقات الدولية؟ هل نحن نعيش في عالم تسوده الفوضى بلا حدود، أم أن هناك إرهاصات تشي بتشكل نظام عالمي جديد يختلف تماماً في توجهاته عن النظام العالمي الذي عشنا في رحابه طوال القرن العشرين؟". كان هذا هو السؤال الرئيسي الذي طرحته على نفسي، وبادرت بالإجابة محاولاً استخلاص قانون عام يفسر التغيرات الكبرى التي حدثت في العالم بعد نهاية عصر الحرب الباردة، وصغت هذا القانون في عبارة مفردة هي"من الفوضى الطليقة إلى الهيمنة المقننة". وقصدت بذلك أن العالم دخل عقب نهاية عصر الحرب الباردة في حقبة تغييرات كبرى اتسمت بالفوضى وفقدان الاتجاه! وأطلقت على هذه الحقبة عصر"الفوضى الطليقة"! وأعني على وجه التحديد عملية التفكك الكبرى التي لحقت ببنية عديد من المجتمعات المعاصرة لأسباب شتى. وأبرزها انفصال مجموعة كبيرة من الدول التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي وحصولها على الاستقلال بوسائل شتى لن ندخل الآن في تفاصيلها وذلك بالإضافة إلى ثورة"الخصوصيات الثقافية"التي تجاوزت في بعض الحالات المطالبات الثقافية للحق المشروع في التعبير عن الذات الثقافية، إلى المطالبة بالحكم الذاتي، وحتى المطالبة بالانفصال عن الوطن الأم وتحقيق الاستقلال الكامل. تم ذلك في حالات متعددة بالتفاوض، وتحقق في حالات أخرى بالعنف والحرب. وسرعان ما ظهرت"العولمة"بكل تجلياتها السياسية والاقتصادية والثقافية، وأصبحت أشبه بتيار جارف ينطلق بلا حدود ولا سدود، أدى إلى"انقلابات"سياسية واقتصادية في عديد من المجتمعات، فقد أدت العولمة عملياً إلى حصار الدولة القومية وتضييق دائرة نفوذها لصالح المؤسسات الدولية كالبنك الدولي وغيره. جو من الفوضى ساد العالم! ومن علاماته تآكل نفوذ وقدرات الأممالمتحدة ممثلة في مجلس الأمن، والصعود السياسي غير المسبوق للولايات المتحدة الأميركية باعتبارها"القطب الأوحد"الذي يهيمن على النظام العالمي وخصوصاً بعد انهيار النظام الثنائي القطبية الذي نشأ عقب نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945. غير أن ما أطلقت عليه حقبة"الفوضى الطليقة"سرعان ما تحول بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر إلى عصر الهيمنة المقننة للولايات المتحدة الأميركية. والهيمنة المقننة تعني من بين ما تعنيه أن ما تقوله الولاياتالمتحدة الأميركية في أي شأن اقتصادي أو سياسي أو ثقافي يصبح قانوناً لا رجعة عنه. وأن من حقها وحدها مخالفة المعاهدات الدولية، أو خرقها أو الانسحاب منها. وأن إرادتها هي الإرادة المطلقة، وأنها وحدها المشرّع العالمي في شؤون الحرب والسلم وفي ميادين الاقتصاد والبنية والدفاع بل الثقافة أيضاً! وفجأة وعلى غير توقع انطلق المارد الروسي من جديد، وقام بحملة عسكرية تأديبية رداً على حماقة رئيس جورجيا الذي ظن واهماّ أنه مدعوم دعماً مطلقاً من الولاياتالمتحدة الأميركية، في هجومه العسكري بتاريخ 8 آب أغسطس الماضي والذي أدى إلى مقتل عشرات من قوات السلام والمدنيين، ما أدى إلى كارثة إنسانية تمثلت في نزوح أكثر من ثلاثين ألف شخص. لقد أكدت في مقالي الماضي في"الحياة"أن هذه الأحداث الجسيمة والسلوك الروسي العنيف ليست بأي حال من الأحوال عودة إلى"الحرب الباردة"، ولكنها محاولة مخططة من قبل روسيا كانت تنتظر الوقت المناسب لتنفيذها لإعادة التوازن إلى النظام الدولي المختل بحكم الهيمنة المقننة التي تمارسها الولاياتالمتحدة الأميركية. إن الإدارة الأميركية لم تكتف بالنفاذ إلى الدول التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي السابق فقط، ودعمها بالمساعدات السياسية والاقتصادية والعسكرية وتحويلها إلى دول تابعة لها، ولكنها بالغت كثيراً حين ظنت أنها تستطيع أن تحاصر روسيا عسكرياً بإحاطتها بشبكة صواريخ تزرعها في كل الدول المحيطة بها. وأعلنت روسيا رفضها لهذا المشروع لأنه يهدد مباشرة الأمن القومي الروسي، إلا أن الولاياتالمتحدة الأميركية صممت على تنفيذه، ما دفع بوزير الدفاع الروسي إلى أن يصرح بقوله ان بولندا لو وضعت فيها الصواريخ الأميركية فإن ذلك سيعرضها إلى ضربة ذرية روسية! ومع ذلك هرعت بولندا بعد أحداث جورجيا إلى توقيع اتفاق الصواريخ. وأكد على ما ذهبت اليه من أن ما حدث ليس عودة إلى الحرب الباردة عديد من المعلقين السياسيين الذين قرروا أن الحرب الباردة التي دارت بين الاتحاد السوفياتي والولاياتالمتحدة الأميركية كانت تدور حول الصراع الإيديولوجي بين الشيوعية من جانب والرأسمالية من جانب آخر. غير أن الصراع الحالي لا يدور حول الإيديولوجيا ولكنه يتمحور حول الجغرافيا السياسية! بمعنى أنه يتعلق بمحاولة روسيا - بعد أن قامت من جديد - تنظيم الفضاء الجغرافي المحيط بها، تحقيقاً لأهداف الأمن القومي الروسي، وعدم السماح للولايات المتحدة الأميركية أن تحيط بروسيا من خلال اتفاقيات سياسية أو تحالفات عسكرية مع جورجيا أو أوكرانيا أو غيرهما من الدول التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي. ان الهجوم الروسي العسكري العنيف الذي وجّه إلى محاولة رئيس جورجيا ضم أوسيتيا بالقوة المسلحة، هو بداية النهاية للهيمنة الأميركية المطلقة على شؤون العالم. ويشهد على ذلك عجز الولاياتالمتحدة الأميركية عن مساعدة رئيس جورجيا بغير تصريحات سياسية تحذر روسيا وهي تصريحات لا معنى لها إزاء السيطرة الروسية على الأرض. وأعقب هذه السيطرة إعلان البرلمان الروسي استقلال كل من أوسيتيا وأبخازيا وصدّق الرئيس الروسي على ذلك القرار. لقد بدأت الدول الغربية تراجع مواقفها، بعد تصميم روسيا على إعادة التوازن للنظام الدولي، وبداية الانتقال من عصر القطب الأوحد إلى عصر تعددية الأقطاب. روسيا تدخل المعركة وهي مسلحة بقوتها الاقتصادية وسيطرتها على تدفقات الغاز إلى أوروبا، بالإضافة إلى قوتها العسكرية المستعادة في إطار دولة عظمى بدأت تستعيد دورها المفتقد. انه عالم جديد يتشكل أمام أبصارنا. ترى ما هو موقف العالم العربي من هذه الحركة العالمية التي تتجه الى تعددية الأقطاب؟ هل قرأ القادة العرب منطق هذا التحول وأعدّوا أنفسهم للنظام الدولي الجديد؟ * كاتب مصري