كان المعلم أيام زمان يشدد على أهمية أن ينام التلاميذ باكراً كي يستيقظوا باكراً. وكان الأجداد يصمون آذان الأحفاد بنظرية أن بدء اليوم من منتصف النهار يقلل بركته ويذهب بخيره ويدعو إلى التشاؤم. وكان الآباء ينبهون أبناءهم في بداية العطلة الصيفية الى أن الإجازة لا تعني الالتصاق بشاشة التلفزيون، فالعطلة يجب أن تشتمل على القراءة والمساعدة في إنجاز الأعمال المنزلية البسيطة وممارسة بعض الرياضة والخروج في نزه ترفيهية. لكن شتان بين الأمس واليوم. لقد ذهبت هذه النصائح والنظريات أدراج الرياح أو كادت، وما تبقى منها لا يجد آذاناً صاغية ولا وقت أصلاً لسماعها. لقد أطاحت آلاف الفضائيات التي دخلت البيوت العربية المفاهيم التربوية الكلاسيكية المثالية، ويقول بعضهم أنها ضربة قاضية لن تنهض بعدها المفاهيم القديمة مجدداً. ويجادل آخرون بأنه لا يصح إلا الصحيح، وأن الليل وإن طال فلا بد من أن يتبعه نهار الاستماع إلى صوت العقل وترشيد ساعات مشاهدة التلفزيون. وبصرف النظر عن أي الاحتمالين أقرب إلى التحقيق، فإن الوضع الراهن يؤكد أن الفضائيات التي يصعب حصرها بسبب حراكها الكمي والنوعي المستمر قلبت موازين التربية وتقاليد المشاهدة التلفزيونية رأساً على عقب. حدث هذا الانقلاب في غفلة من الزمن. فقد انشغل الجميع في بادئ الأمر بدرس ظاهرة خروج الفضائيات العربية إلى النور. وما كادت الدهشة الأولى تهدأ قليلاً حتى باغتت المشاهد العربي دهشة أكبر وصدمة وإن كانت مفرحة للبعض أشمل بولادة قنوات الفيديو كليب العربية، وما تبع ذلك من ردود فعل متباينة بين المطالبة بإغلاق هذه القنوات التي وصفت بپ"المؤامرة الغربية الإمبريالية للتغرير بالشباب العربي"، وبين الاستمتاع بما تقدمه هذه القنوات من مقدار لا يستهان به من الإثارة. واستغرقت صدمة قنوات الفيديو كليب سنوات قبل أن تتقلص ساعات مشاهدتها لتغزو الفضائيات العربية موجة جديدة من الجذب، تبلورت هذه المرة في ولادة جماعية للپ"توك شو"المتميز بالجرأة والحدة ونبرة المعارضة القوية. وتواكب كل ذلك مع تغيرات اجتماعية واقتصادية ساهمت بمقدار غير قليل في إطاحة سلوكيات مشاهدة التلفزيون. فمثلاً، زادت أعداد الأمهات العاملات اللاتي لا يملكن من الوقت ما يمضينه في نصح الأبناء حول ضرورة تقليل عدد ساعات مشاهدة التلفزيون. بل أن التلفزيون أصبح وسيلة تلجأ إليها الأم لإلهاء الأبناء أثناء غيابها في العمل. كما لحقت بالأسرة العربية تغيرات لم تترك متسعاً من الوقت يسمح ولو بساعة من المشاهدة التلفزيونية العائلية، بل أصبحت السمة الغالبة هي المشاهدة الفردية. واللافت ان ضيوف البرامج التلفزيونية القديمة الذين كانوا يتحدثون عن مضار مشاهدة التلفزيون لفترات طويلة، وآثار ذلك على قوة الإبصار، والإصابة بالسمنة، وكثرة نوبات الصرع، والأمراض النفسية الناتجة من تقلص العلاقات الاجتماعية وتفسخ العلاقات الأسرية لم يعودوا يظهرون... أو ربما اضطروا إلى تغيير دفة الحديث والإدلاء بالرأي في مجالات أخرى عساها تجد آذاناً صاغية وتبقي الأصابع بعيدة من"الريموت كونترول"بحثاً عن حديث ألطف وأكثر واقعية.