حتى لو توصلت ألمانيا الى تطوير نظام علمي لمعرفة تجاوب الناس مع الملصقات الإعلانية في الشوارع، من خلال زرع كاميرات ترصد ملامح الوجه وتعبيراته كما ورد في خبر وزعته وكالات الأنباء الأسبوع الماضي، فإن الحديث عن طريقة علمية لرصد رد فعل المشاهد تجاه إعلانات التلفزيون في بلادنا لا يزال فكرة خيالية. ولا مغالاة في القول، ان رصد قدرة الاعلانات على التأثير في الجمهور يكاد لا يخرج، حتى الآن، عن نطاق كلام الصالونات. حتى ان كثراً ينعون عالم الإعلانات على الشاشة الصغيرة، والسبب تفاقم سلطة الريموت كونترول... وحجتهم أنه في عصر الفضائيات، أضحت إعلانات التلفزيون في مأزق، إذ لا يكاد يطل إعلان على الشاشة حتى تضغط أصابع اليد على"الريموت"بطريقة فورية لتغيّر المحطة. كان هذا في السابق. أما اليوم، فيلوح مشهد ثأري في عالم التلفزيون: إعلانات تأخذ ثأرها من الريموت كونترول. وأفضل التجليات تطل من لبنان حيث المبارزة الإعلانية في أوجها بين شرائط تعيد أمجاد"أبو فؤاد 3 بواحد"... هذا الإعلان البسيط الذي تردد على كل شفة ولسان مع بدايات"تلفزيون لبنان"، ولا يزال حاضراً في الذاكرة اللبنانية. "بالقلب يا وطن"إعلان جديد يجذب الجمهور. هو تحية الى الجيش اللبناني. فكرته بسيطة، ولكن مؤثرة: جندي لبناني يسير في الشارع، ومع كل خطوة يخطوها تجابهه تحية نابعة من القلب... من ربة المنزل الواقفة على الشرفة، من سائق التاكسي، من الطفل، من بائع العصير، من الشاب على دراجته، من الطالبات... في كل لحظة حركة موحدة التحية، هي أساساً من سلوكيات النظام العسكري، وقد استطاعت أن تختزل كل ما يمكن أن يقال للجيش اللبناني في دفاعه عن الوطن، فحركت المشاعر، من دون أن تحرك الريموت كونترول. والفضل لجهود شبان، غالبيتهم تخرجوا من معاهد سينما، آثروا أن يتحول الإعلان الى فن، بدلاً من أن يقف عند عتبة الهدف التجاري فحسب، من خلال تركيزهم على جماليات الصورة ودفق الأحاسيس. والمؤسف ان أسماء هؤلاء المجددين تغيب عن هذه الشرائط على الشاشة. وهنا تلوح في البال مفاجأة اعتلاء المخرجة نادين لبكي خشبة المسرح ذات يوم في إحدى الحفلات التكريمية، لاستلام جوائز عن إعلانات رددها اللبنانيون كثيراً من دون أن يعرفوا وهم يشاهدونها مرات أن صاحبتها هي تلك المخرجة المعروفة في عالم"الفيديو كليب"قبل أن تدخل الى عالم السينما بنجاح. والسؤال هو: لماذا احتاجت نادين لبكي الى ان تبقى جندياً مجهولاً لا يعرفها الناس الا من خلال الفيديو كليب والسينما؟ ربما لم يكن بيدها حيلة. فالإعلانات التي حققتها لا ترقى فقط الى مستوى الفنون الجميلة، إنما صارت مثلاً يحتذى، ومهدت الطريق لبقية الجنود المجهولين الذين يواصلون اليوم وضع الريموت كونترول جانباً حين تطل بعض هذه الإعلانات... اللعبة تغيرت، فبعدما كان الريموت كونترول سلاحاً ضد الإعلانات، صار يصّوَب اليوم سلاحاً ضد بعض الأخبار التي تعج بمشاهد الموت. ترى أليس الخيار الثاني اجدى؟