قال لي المترجم كيم بويونغ سو إن تعلم اللغة الإنكليزية بالنسبة الى الجيل الجديد الكوري الجنوبي بات مسألة طبيعية وعادية في المدارس. إلا أن الشركات الكبرى أخذت تطلب من مديريها، حتى من هم في الخمسين أو الستين من أعمارهم، أن يتعلموها. ويستغرب هؤلاء ذلك إذ يعتقدون بأنهم ناجحون في عملهم وفي مساهمتهم في أرباح هذه الشركات، من دون اكتسابهم هذه اللغة وبالتالي يشعرون أنهم ليسوا بحاجة إليها. لكن مع ذلك فإن هؤلاء المديرين ينهون عملهم في الخامسة عصراً ويهرولون الى المدارس الليلية لتحصيل دروس لغوية. إنها حمى الانفتاح والتحول الى مجتمع متعدد الثقافات، على رغم أن الكوريين شعب يفتخر بالمركزية الاثنية وتجاربه التاريخية القومية المحافظة، إلا أن المثقفين الكوريين ولمناسبة بزوغ نزعة تعدد الثقافات ينبشون من تاريخهم محطات الانفتاح والانغلاق. فالكوريون لا يختلفون كثيراً عن جيرانهم الصينيين واليابانيين بانتمائهم الى الأيديولوجية الكونفوشيوسية. إلا أن سلالة جوزيون الملكية الكورية ابتدعت النيو - كونفوشيوسية وانفتحت على المهاجرين من الصين ومنشوريا وساهم بعضهم في المناصب الحكومية، لكن الاجتياحات اليابانية لكوريا في القرن السادس عشر ثم الصينية لشبه الجزيرة في القرن السابع عشر، ... وصولاً الى الاحتلال الياباني الأخير لكوريا بين عامي 1910 و1946، أعادت تقاليد الانغلاق التي لجأت إليها سلالة جوزيون، من أجل الحفاظ على الهوية القومية في مواجهة سياسة الاحتلال الياباني التي عملت على الاستيعاب الثقافي للمجتمع الكوري الى حد منع التحدث باللغة الكورية. وأعاد هذا الانغلاق فتعزز مع حرب الكوريتين في الخمسينات، لكن هجرة ما يفوق الپ6 ملايين كوري، منذ تلك الحرب، مقابل تصاعد عدد الأجانب الذين أخذوا يقطنون في كوريا تزامناً مع النمو الاقتصادي، خصوصاً أنهم بلغوا أكثر من مليون شخص من أصل 48 مليون كوري جنوبي أطلق، بحسب القيمين على"مؤسسة كوريا"، دينامية جديدة من الانفتاح، عززتها تحديات القرن العشرين الاقتصادية والتكنولوجية. وتنشر المجلة الفصلية كوريانا الصادرة عن المؤسسة إحصاءات عن الأجانب الذين يقطنون كوريا الجنوبية، لا سيما سيول والمناطق التي يعيشون فيها وجنسياتهم، وعن الولادات الناتجة من زيجات كوريين وكوريات بأجانب كدليل الى نمو العائلات المختلطة 39 ألف ولادة في عام 2007 وحده. لكن القيمين على المؤسسة يعترفون انه من التبسيط بمكان الاعتقاد بأن كوريا ستتحول أوتوماتيكياً الى مجتمع متعدد الثقافات بسبب عدد الأجانب الذين يعيشون فيه. ويعتبرون أن تحدي هذا التحول يفترض نشوء بيئة تسمح به، وهذا ما جعل الحكومة تطلق في عام 2006 رؤية لتحقيق"مجتمع منفتح متعدد الثقافات"، مدعومة ببرنامج اجتماعي شامل داعم لها، وللوافدين الى كوريا على مستوى وزارات عدة، بدءاً بالتوصل الى"مجتمع يتفاعل مع عالم متعدد، من دون تمييز أو استبعاد...". وتشمل الرؤية التفكير بدعم"العائلات العالمية"المختلطة. تقول مديرة المركز الثقافي في"مؤسسة كوريا"السيدة يون كيوم جين التي تعنى بمختلف النشاطات الثقافية والفنية والتبادل مع الخارج ان اقتصاد كوريا مبني على التبادل التجاري ولذلك فنحن نحتاج كثيراً الى التبادل الثقافي وعلينا فهم الثقافات الأخرى والإنسان الآخر. وتضيف:"ثقافتنا الراهنة مبنية على معرفة الأميركيين من بين الثقافات الأخرى والكوريون يريدون الآن تنويع ثقافتهم". النزعة الاستقلالية عن اميركا وفيما يشي هذا الكلام بأن التوجه نحو التعدد الثقافي هو مظهر من مظاهر النزعة الاستقلالية عن السياسة الأميركية، فإن نمط الحياة الأميركية، أزياء وطعاماً وموسيقى أخذت تغزو الشباب بالتناغم مع التطور التكنولوجي الكوري. وتفاخر السيدة جين، أمام صحافي عربي، بأن برنامج مركزها يشمل كل سنة فقرات تتعلق بالثقافة والفنون الإسلامية والعربية، وتكرر بأن تَعدُّد الثقافات في كوريا مشروع لم يتحقق لكنه في طريقه الى أن ينفذ. ويشير البروفيسور جيونغ مين سيو الذي يتقن العربية وحصل على دكتوراه في العلوم الإسلامية من الجامعة الأميركية في القاهرة وأمضى في الشرق الأوسط والقاهرة سنوات عدة وهو أستاذ في قسم الشرق الأوسط في جامعة هانكوك للدراسات الأجنبية في سيول، أن هناك حمى لدى النخبة الكورية لتوسيع معرفتها بالعالمين العربي والإسلامي وتعلم اللغة العربية، بهدف الاحتكاك أكثر بالثقافتين الإسلامية والعربية، مثلما هناك حمى الرغبة في الانفتاح على الثقافة الأميركية. ويضيف الدكتور سيو أن في القسم العربي في جامعة هانكوك وحدها 200 تلميذ يدرسون اللغة العربية، نصفهم زار الشرق الأوسط وأمضى فيه أكثر من سنة لزيادة معرفته بالعالم العربي. ويقول إن لدى الكوريين الجنوبيين، مثلاً، إعجاباً بظاهرة إمارة دبي وازدهارها. إنهم يعتبرونها معجزة في الصحراء ويريدون أن يدرسوا هذه الظاهرة وكيف نشأت. ان لدى الشركات الكورية الكبرى عقود لبناء مصانع ومصافي نفط في العالم العربي تبلغ قيمتها زهاء 20 بليون دولار وهذا يوجب على الكوريين الفضول للتعرف الى من يبادلونهم العلاقات الاقتصادية والتجارية والمالية. ويحرص سيو والسيدة جين على التشديد على عوامل الانفتاح الثقافي، بالإشارة الى أن هناك شارعاً إسلامياً في حي ايتايوان الذي يضم اثنيات عدة اصلاً، حيث بني مسجد للمؤمنين المسلمين القادمين من دول إسلامية، وكوريين اعتنقوا الدين الإسلامي. وفي زيارة قامت بها"الحياة"الى المسجد قال المشرفون عليه ان الدين الإسلامي بدأ يدخل المجتمع الكوري ليصبح عدد المسلمين بضعة آلاف، منذ الخمسينات مع مجيء الجيش التركي في عداد قوة الأممالمتحدة للفصل بين الكوريتين، وأن مسجد ايتايوان بني في السبعينات من القرن الماضي بتمويل سعودي - كويتي. وتزين قناطر المسجد رسوم إسلامية من السيراميك استقدمت خصيصاً من ازنيك في تركيا. وفيما تتوزع في مناطق عدة من كوريا مساجد أخرى ومصليات، فإن الذين يرتادون مسجد سيول هم من الكوريين إضافة الى مصريين ومغاربة يعملون أو يدرسون في العاصمة وطلاب سعوديين في الجامعات الكورية، فضلاً عن أتراك. يتميز الشارع الضيق الذي يضم المسجد، بمتاجر كتب عليها لافتات من نوع:"ملحمة حلال"وپ"مرحبا حلال"، وبرجال قليلي العدد يتجولون فيه بملابس إسلامية على الطريقة الباكستانية أو الأفغانية. ويضم فناء المسجد مدرسة إسلامية للتعلم الابتدائي وحاضنة أطفال ترتادها نسوة، كوريات وشرق أوسطيات يلبسن الحجاب أو النقاب أتين لاستلام أطفالهن من المدرسة. إلا أن الانفتاح الكوري على العالم العربي الأوسع، مثلما شرحه الدكتور سيو شمل تحركاً عملياً أدى في 26 أيار مايو الماضي الى عقد مؤتمر دولي رعته وزارة الخارجية الكورية، وحضرته 500 شخصية كورية وعربية مثلت المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية في الجانبين، لإطلاق الجمعية العربية - الكورية. وتمثلت في المؤتمر الدول العربية الپ22 حيث أقر بالإجماع نظام الجمعية وتبرع ممثلو الدول النفطية العربية والشركات الكورية الكبرى بمبالغ لتمويل نشوء هذه الجمعية. وأعقب المؤتمر منتديان، ثقافي واقتصادي حول تعزيز العلاقات بين الجانبين، تخللتهما مناقشات حول سبل تطوير التبادل الثقافي والتجاري والاقتصادي. وأقيم مهرجان"الليالي الثقافية العربية"في سيول بعد المؤتمر. وتستمر نشاطاته الفنية لفرق فنية قادمة من العالم العربي طوال شهر تموز يوليو، في إطار نشوء الجمعية... وينعكس الانفتاح على العالم العربي من جانب سيول على نظرة الإعلام الكوري. ويقول مدير وكالة"يونهاب"للأنباء أوه جاي سيوك، والتي هي أكبر وكالات الأنباء الكورية وتبث أخبارها بالإنكليزية، الإسبانية، اليابانية، الصينية والعربية، أن لديها مكتباً في القاهرة، وتسعى الى ان يكون لها مراسل في دبي قريباً، وأن هناك تفكيراً بتوسيع وجودنا في العالم العربي لتكون لنا تغطية إعلامية افضل للعالم العربي، فنحن اكتشفنا مثلاً ان تغطيتنا السابقة في سياق ما يجري بين الفلسطينيين وإسرائيل والصراع العربي - الإسرائيلي لم تكن متوازنة بفعل الانحياز لإسرائيل ووجودنا أكثر ساعدنا ويساعدنا على ان نكون أكثر توازناً...