شاركت قبل عدة أيام في المؤتمر الرابع والسبعين لمجمع اللغة العربية في القاهرة، ببحث تناولت فيه موضوع :"اللغة العربية وتحدّيات العولمة: رؤية لاستشراف المستقبل". وقلت إن مستقبل اللغة العربية يرتبط باستخدامها المتزايد والجادّ في شبكات المعلومات العالمية، وإن هذا يتطلب جهوداً كثيرة على المستوى اللغوي، وعلى مستوى تقانات المعلومات، وعلى مستوى دراسة المستفيدين حتى نجد الجامعات والوزارات والمجامع في الدول العربية، تَتَعامَلُ باللغة العربية، ممّا يشكل أحد تحديات المستقبل القريب، لتكون العربية مع اللغات العالمية الكبرى وسيلةً لنقل المعلومات بالتقانات المتقدمة، كما يتطلب أن تصبح اللغة العربية لغةً منتجةً للعلم، لتتبوأ المكانة الرفيعة بين لغات العالم، فقد كانت العربية في عصور ازدهار الحضارة الإسلامية، لغة للعلم بمدلوله الدقيق الشامل، ارتقت إلى الذروة، وحازت قصب السبق بين اللغات العالمية، حتى صار طالب العلم من أي ملة أو عرق، يتخذ من العربية وسيلة لاكتساب العلوم والإحاطة بها والتبحر فيها. إنَّ ازدهار اللغة العربية في هذا العصر، وفي كل العصور، مرهونٌ بازدهار العلوم والتقانة في الدول العربية، حتى تصبح العربية لغة البحث العلمي في هذه الحقول جميعاً، لأن اللغة تنمو وتتطور وتزدهر، بنموّ الأمة التي تنتمي إليها والناطقة بها وبتطورها وبازدهارها. والواقع أن تحديات العولمة لا تعدّ ولا تحصى، فهي تحاصر الدول والأمم والشعوب من كل جانب، ولا يكاد يخرج عن هذا الحصار دولة من الدول أو أمة من الأمم، بما في ذلك الدولة التي تعدُّ بحسابات الحاضر، القوةَ العظمى التي تملك زمام التحكّم في السياسة الدولية، والتي تفرض على المجتمع الدولي برمته، النظامَ العالميَّ الجديد، وإن كان تأثير العولمة على هذه الدولة ذات القدرات الهائلة، أقلَّ منه على الدول الأخرى، بما فيها تلك التي تقاربها في القوة والنفوذ. وليست العولمة شراً يتقى أو خطراً يدفع، وإنما هي ظاهرة تكاد تكون كونية، لها السلبيات والإيجابيات، إنْ توافرت شروط التعامل معها والتكيّف مع متغيّراتها، أمكن تجاوز تلك السلبيات والتغلّب على ما يترتب عليها من مشاكل، وفي مقدمة هذه الشروط امتلاك القدرات الذاتية، على مستوى الأفراد والجماعات، وعلى مستوى الحكومات والهيئات الأهلية، والتوفر على الوعي الحضاري الرشيد الذي هو بمثابة البوصلة التي تقود نحو رسم السياسات الحكيمة، واتخاذ القرارات الواعية، للبناء الذاتي، وللانفتاح على آفاق العصر، وللاندماج في تياراته، من منطلق الاقتناع بأن حماية الذات وترقيتها والحفاظ على الهوية والتشبث بخصوصياتها الثقافية والحضارية، رهين بإثبات الحضور في ساحة التفاعل الإنساني وفي مضمار الحوار الثقافي والتحالف الحضاري، وبالإسهام الفاعل في مسيرة التقدم والنماء والرخاء، على الصعيدين الإقليمي والدولي. وممّا لا شك فيه أن في امتلاك القوة الذاتية والقدرات العلمية والتقانية والصناعية والاقتصادية، الحصانةَ ضد التأثيرات السلبية والانعكاسات الضارة لنظام العولمة الآخذ في الاكتساح لمواقع الاستقرار والثبات، وفي الاقتحام لمعاقل الخصوصيات التي تميّز الثقافات والحضارات بعضها عن بعض، والقدرة على إغناء الحضارة الإنسانية بالتنوّع الثقافي والتعدّد الحضاري. إنَّ العولمة تتفاوت من مستوى إلى آخر"فهي تحديات تواجه اقتصاديات الدول واختياراتها وسياساتها، كما تواجه ثقافات الأمم والشعوب وخصوصياتها ولغاتها وقيمها، وبقدر ما تتقوى الذات وتتحصن، تتوافر الإمكانات للتغلب على هذه التحديات. وهذه القاعدة تنطبق على الاقتصاد والتنمية بصورة عامة، كما تنطبق على الثقافة والفكر واللغة. والعولمة هي هذا التشابك الذي نعيشه اليوم، ومعظمه ليس خياراً، فالسوق المشتركة والعلوم والتقانة، وانتشار الأفكار والمعلومات عبر الأنترنيت، كلُّ ذلك عمليات متاحة للجميع يتقدم فيها القوي ويفرض تفوّقه. وينبغي أن تتخطى المسألة اللغوية مجالَ المناشدة والدعوة والطلب إلى الجهات المسؤولة للقيام بواجبها تجاه لغة الضاد، إلى استصدار قرارات مسؤولة، أو وضع تشريعات قانونية ملزمة، تقضي باعتبار الخطأ في اللغة، ليس فقط عيباً أو مسبة أو نقصاً، وإنما اعتبار ذلك خروجاً عن القانون. وهذا هو الشأن المتبع في بعض الدول الأوروبية، خاصة في فرنسا التي يُلزم القانون المصادق عليه في الجمعية الوطنية البرلمان باحترام اللغة الفرنسية والحفاظ على سلامتها ونقائها وعدم المساس بهيبتها وسمعتها. إنَّ عدداً كبيراً من القرارات والتوصيات الخاصة بالحفاظ على اللغة العربية والحرص على استعمالها وتداولها وانتشارها، صدرت خلال السنوات الأخيرة، عن مؤتمرات ولجان وندوات?ومجامع لغوية وكليات جامعية متعددة عقدت في البلدان العربية وفي بعض البلدان الإسلامية، بعضها شاركت فيه شخصياً، ولكن هذه القرارات والتوصيات لم تنفذ، أو نفذ بعضها بطريقة محدودة التأثير. فاللغة العربية قضية استراتيجية في المقام الأول، تمسّ الأمن الثقافي والحضاري للأمة، ولذلك فإن المسألة في عمقها وجوهرها، تتطلب يقظة أشمل وأعمق وحركة أكبر وأنشط وعملاً أكثر جديةً وفعالية واستنفاراً للطاقات الحيّة وحشداً للجهود المخلصة، في إطارٍ من التنسيق والتكامل والتعاون، والعمل العربي المشترك على مستوى المنظمات والمؤسسات والجامعات والهيئات المختصة، من أجل تعزيز سياسات تعليم اللغة العربية وتطوير مناهجها وطرائقها للناطقين بها ولغير الناطقين بها، خاصة في البلاد الأفريقية والإسلامية وفي أوساط الجاليات العربية الإسلامية في بلاد المهجر. والأمر قبل هذا وبعده، يحتاج إلى إرادة سياسية تؤمن بالرسالة الحضارية للغة العربية، وتحمي الهوية الثقافية للأمة بحماية لسانها، ففي ذلك ترسيخٌ للكيان العربي الإسلامي الكبير، وتقويةٌ لدعائمه. فاللغة العربية هي العروة الوثقى التي تجمع بين الشعوب العربية والشعوب الإسلامية التي شاركت في ازدهار الثقافة العربية الإسلامية. وبهذا الاعتبار، فإن الوفاق العربي والتضامن الإسلامي، لابد أن يقوما على هذا الأساس المتين، لغة القرآن الكريم، ولغة الثقافة العربية الإسلامية. ومن هنا تبدو الأهمية الكبرى لتدعيم مكانة اللغة العربية والعمل على نشرها وتعليمها على نطاق واسع. في شهر تشرين الأول أكتوبر الماضي، ألقيت المحاضرة الافتتاحية للموسم الجامعي الجديد، في المعهد العالي للإعلام والاتصال في الرباط، تحدثت فيها حول موضوع اللغة العربية ووسائل الإعلام. وكان ممّا قدمته في هذه المحاضرة، ما أسميته بالمنهج التكاملي في التعامل مع اللغة العربية، وقوامُه أن تواكب الجهودُ التي نبذلها على مستوى مجامع اللغة العربية في الوطن العربي وعلى مستويات أخرى في أقسام اللغة العربية بالجامعات العربية، التطورَ الذي تعرفه اللغة بحكم تأثير وسائل الإعلام فيها، وأن يساير هذا العمل الأكاديميّ والفني الوضعَ الحاليّ للغة العربية، فلا يرتفع عنه، ولا يستهين به، وإنما يتفهمه ويستوعبه، بحيث لا يتم خارج نطاق الواقع، وإنما يكون جزءاً من هذا الواقع، يتفاعل معه تفاعلاً إيجابياً، ينتج عنه ازدهار اللغة العربية وانتشارها، والحفاظ عليها وحمايتها، وتطويرها وتجديدها. إنَّ الطريق نحو تقوية اللغة العربية وتحصينها، يمرُّ عبر تنفيذ قرارات وتوصيات المجامع اللغوية والمؤتمرات المتخصصة التي عقدت في العقدين الماضيين والتي تعبّر عن الإرادة الجماعية للنخب الفكرية والعلمية والثقافية التي تمتلك إلى العلم والمعرفة الغيرةَ على لغة الضاد. ذلك أن مواجهة الأخطار الناتجة عن تحديات العولمة والمهددة للهوية الثقافية والحضارية، لا تتمّ إلاّ بالعمل الملموس انطلاقاً من الواقع، وبأدوات العصر، وبالوسائل التي تتيح للغيورين على اللغة والقائمين على تطويرها والمهتمين المسؤولين عن حمايتها والحفاظ على خصوصياتها، أن يستوعبوا المتغيرات في مجالات العلوم وتقانة المعلومات وشتّى حقول المعرفة، ليواصلوا تطوير اللغة وتحديثها لمسايرة العصر ولمواجهة العولمة. إنَّ اللغة هي أهمّ الروابط المعنوية التي تربط الفرد بغيره، لأن اللغة هي: واسطة التفاهم بين الناس، وآلة التفكير عند الفرد، وواسطة نقل الأفكار والمكتسبات من الآباء إلى الأبناء، ومن الأسلاف إلى الأخلاف. وإذا كانت الأمة التي تنسى تاريخها تكون قد فقدت شعورها وأصبحت في حالة سبات، تستطيع أن تستعيد وعيها بالعودة إلى تاريخها، فإن الأمة، وكما يقول المفكر العراقي الدكتور عبد العزيز الدوري، إذا فقدت لغتها تكون عندئذ قد فقدت الحياة ولا مستقبل لأمة فرطت في لغتها، وليس في المستطاع مواجهة تحديات العولمة بلغة لا تتوافر لها شروط المواجهة. * المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة إيسيسكو