في العاشر من شهر تشرين الثاني نوفمبر من كل عام تحيي تركيا ذكرى وفاة مؤسسها مصطفى كمال أتاتورك بصورة رسمية، فتنطلق صفارات الإنذار في كل أنحاء تركيا في التاسعة وخمس دقائق صباحاً، موعد وفاته في العام 1938، وتخفض الأعلام جزئياً حداداً عليه، وتصدر جميع الصحف موشاة باللون الأسود، وينشد تلاميذ المدارس بتوجيه من أساتذتهم:"جدي يا جدي! انهض ولنمت نحن!"لقب أتاتورك يعني جد الأتراك. ويعلّم التلاميذ الصغار، منذ المرحلة ما قبل الابتدائية، حب"القائد العظيم"الذي حرر البلاد من المحتلين الأوروبيين وأقام الدولة على أنقاض دولة الخلافة الإسلامية، جمهوريةً علمانية قومية موحدة. وفي قانون العقوبات التركي مواد تنص على تجريم الإساءة إلى أتاتورك، حوكم بموجبها كثير من المثقفين فضلاً عن عامة الناس. وتنتشر تماثيل"الغازي"في كل مكان من تركيا وتعد صوره بمثابة العلم الثاني للبلاد. وتنسج عن"القائد الخالد"أساطير تصوره كائناً فوق مستوى البشر، بعيدة عموماً عن التاريخ الحقيقي للرجل. لذلك يقابل أي بحث تاريخي جاد يتناول جزءاً من سيرته أو دوراً من أدواره كعسكري أو سياسي، بكثير من التشنج لمجرد تقديمه صورة مغايرة للأسطورة الرائجة، أقرب إلى الواقع. كان هذا هو الشأن مع كتاب"لطيفة هانم"لمؤلفته إيبك تشالشلر الذي صدر قبل عامين، فحوكمت المؤلفة على ما زعم من إساءتها للقائد، وهذا هو شأن فيلم"مصطفى"الذي يعرض الآن في دور العرض، كتبه وأخرجه الكاتب الصحافي جان دوندار صاحب العمود اليومي في جريدة"مللييت". بدأ الهجوم على الرجل منذ اليوم الأول للعرض، أي عملياً قبل أن يشاهده أحد، فانصب أولاً على عنوان الفيلم:"لا يجوز إطلاق اسم مصطفى على القائد العظيم بهذا الاستهتار"، قال المعترضون،"فهو ليس جارك أو صبي البقال"، في حين أن العنوان جاء منسجماً مع مضمون الفيلم الذي حاول أن يقدم للمشاهد مصطفى كمال الإنسان، مقابل أتاتورك البطل الأسطوري."هذا هو أتاتوركي الذي أحبه"قال جان دوندار دفاعاً عن فيلمه. أما الكاتب اليساري باسكن أوران فعنون مقالته الأسبوعية في"الراديكال"بهذا العنوان اللافت:"أهلاً بك بيننا"، قاصداً أن فيلم جان دوندار قد أنزل القائد المؤسس من منزلة الآلهة إلى منزلة البشر. وروى أوران في مقالته عن حادثة جرت معه منذ سنوات طويلة حين كان يلقي محاضرة في جامعة إزمير. فقد تطرق الحديث إلى مصطفى كمال وذكر في السياق أن هذا كان قصير القامة واهن الصوت، فقوبل باستهجان عدد من الحضور الذين اتهموه بتشويه الحقائق. وهل يمكن لقائد اجترح كل تلك المعجزات أن يكون قصير القامة واهن الصوت؟ وفي فيلم جان دوندار يظهر أتاتورك رجلاً مدمناً على التدخين والخمرة يدخن ثلاث علب من السجائر كل يوم وزجاجة كبيرة من العرق في كل سهرة، يعيش سنواته الأخيرة في العزلة، يشكو من الوحدة ويخاف الظلام، ضعيفاً أمام النساء. جميع هذه المواصفات تقريباً يعرفها كل من اطلع على المصادر التاريخية ذات الشأن، لكن العقيدة الرسمية تفضل التستر على هذه المعلومات، وتعد إعلانها على الملأ بمثابة الفضيحة المسيئة إلى اتاتورك. يعكس الهجوم الواسع على فيلم دوندار الانقسام الحاد في المجتمع التركي بين فئات أخذت تشعر باطراد بأنها تفقد مواقعها الممتازة في التراتبية الاجتماعية، وأخرى تشعر بأنها بدأت تحتل الموقع الذي تستحق، ويتجلى هذا الانقسام في مظهر التعارض بين تيار يعرف نفسه بالعلمانية، وآخر بالليبرالية، في حين يظهر للمراقب الخارجي تعارضاً بين تيارين علماني وإسلامي. المفارقة في النقاش الصاخب حول فيلم دوندار أنه يجري أساساً بين طرفين علمانيين، فكاتب نص الفيلم ومخرجه معروف بعلمانيته وإخلاصه لمبادئ العقيدة الكمالية، وقد أراد من فيلمه أصلاً أن يقدم أتاتورك في صورة أقرب إلى القلب من خلال مقاربته كإنسان، بمعزل عن السياسة والحرب. لكنه بفعلته هذه إنما أنزل أتاتورك من مستوى الأسطورة والتابو إلى المستوى البشري الخطاء، وهذا ما استثار ضده أولئك المتعيشين على تكريس عبادة الفرد. ولعل أشد ضروب الهجوم على دوندار جاء من القوميين المتشددين الذين لم يتوانوا عن تسميته ب"جان دونداريان"للإشارة إلى أنه أرمني الواقع أنه تركي قح ذلك أن الأرمني في الخطاب القومي المتشدد في تركيا يعني نوعاً من الشتيمة غير تركي وغير مسلم في الوقت نفسه، أو بعبارة أخرى من الأغيار الكفار. واتهمه آخرون بالعمالة للقوى الغربية التي تريد تحطيم تركيا من خلال الحط من شان رموزه القومية. وقدم أستاذان جامعيان بلاغاً جرمياً بحق دوندار أمام النيابة مطالبين بوقف عرض الفيلم. وعلق دوندار على الحملة بالقول إنه يتعرض إلى التنكيل. من نافل القول إن أحداً لم يناقش الفيلم في سويته الفنية، بل اقتصرت السجالات على بعض مضمون الفيلم ورؤيته الفكرية، في حين أن مرور سبعين عاماً على وفاة مؤسس الجمهورية التركية، كان من الممكن أن يشكل مناسبة لمساءلة التاريخ الحقيقي للرجل وجمهوريته، بعيداً من السرديات الأسطورية. هذا ما فعله، للمفارقة، وزير الدفاع التركي وجدي غونول، من حيث لم يقصد أغلب الظن، حين أطلق تصريحات فضائحية، في كلمة له ألقاها في سفارة بلاده في بروكسل، بمناسبة الذكرى السبعين لوفاة أتاتورك. قال:"لو كان اليونانيون ما زالوا يعيشون في المنطقة الساحلية على بحر إيجة، ولو أن الأرمن ظلوا مقيمين في مختلف أرجاء الأناضول، لما أمكن قيام الدولة الأمة"مضيفاً أن الفئتين المذكورتين كانتا تملكان ثروات كبيرة! تعرض الوزير لهجوم عنيف بسبب هذه التصريحات وقالت إحدى الصحف إن هذه التصريحات بمثابة دعوة لتهجير جديد يستهدف الأكراد هذه المرة. وذكّر الكاتب أثر كاراكاش قراءه بأن وزير الدفاع في النظام التركي لا يتمتع بأي صلاحيات، فلا قائد هيئة الأركان يأتمر بأمره ولا قادة القوى البرية والجوية والبحرية. وانفرد جنكيز تشاندار بتعليق لافت حين قال إن الوزير غونول قد قال الحقيقة، في حين يفضل المسؤولون الحكوميون عادةً إخفاء تلك الحقائق التاريخية، من تهجير الأرمن والروم اليونانيين ومبادلة هؤلاء الأخيرين بأتراك اليونان. النظام التركي نظام فريد حقاً، سبعين سنة كانت كافية لانهيار النظام السوفياتي، في حين أن عبادة أتاتورك باقية بعد سبعين سنة على وفاة الرجل، وخمس وثمانين سنة على قيام جمهوريته! * كاتب سوري.