ولج المخرج السينمائي المغربي كمال كمال عالم التلفزيون من جديد، بفيلم تلفزيوني متكامل، قدمته القناة التلفزيونية المغربية الثانية قبل أيام، استلهم فيه بعض جوانب سيرة حياة الفنانة التشكيلية المغربية"الراكراكية بنحيلة"، وذلك من طريق رصد المشاكل التي اعترضت طريقها، والمعاناة التي ألمت بها، وهي تحاول تأكيد مسارها الفني، في مجتمع تقليدي محافظ، تتحكم فيه التقاليد وتهيمن على عوالمه، وقد صيغت قصة الفيلم بحرفية كبيرة جمعت بين الواقعي والمتخيل في إطار فني محكم متكامل، وقد جعل خيوطها تأخذ مساراً متنامياً، يحظى باهتمام المشاهد، ويجعله يتابع هذه القصة بكثير من المتعة والإعجاب. انفتح الفيلم على"الركراكية"وهي تعيش وسط أهلها بصحبة أختها صفية وأخويها، داخل أحد المنازل بمدينة الصويرة، بلد الفن التشكيلي. وكأي فتاة في مقتبل العمر، ستعشق"الركراكية"من بعيد جارها الشاب، الذي كان يبادلها الاهتمام والشوق، لكن ما وقع لأختها، حين سمع أخواها بإعجاب أحد الشباب بها، وما تعرض له هذا الشاب من سب وضرب على أيدي أخويها، إلى حد إرغامه على الزواج بها، حتى لا يقال عنها أي سوء، جعلها تخشى من التعرض لمصيرها ذاته. لكنها سرعان ما ستجد نفسها، لا سيما بعد رحيل الشاب الذي أغرمت به من بعد، بغتة من دون سابق إنذار، زوجة لرجل سيرغمها على السكن معه في بيته، الذي يضم إضافة إليه كلاً من أمه العجوز وأخته غير المتزوجة. هذه الأخت التي ستذيقها العذاب في شتى تجلياته، إلى حد تهديدها بتشويه وجهها الجميل، حتى لا يظل زوجها مغرماً بها. حياة"الركراكية"كما يقدمها الفيلم هنا، وهي في بيت هذا الزوج الغيور، حياة معاناة، إذ يتحول بيت الزوجية إلى سجن أو على الأقل إلى فضاء شبيه به. النوافذ مغلقة، والصعود إلى السطح محرم بتاتاً عليها، أما الخروج للنزهة أو التبضع، فهو شبه مستحيل إن لم يكن مستحيلاً تماماً. و قد ضاعف من معاناتها كونها لم تنجب أي طفل، ينسي زوجها اهتمامه المرضي بها. إلا أنها في النهاية ستتحرر من سلطته وسترغمه على تطليقها إذا هو لم يستطع توفير سكن خاص بها، وهو ما كان. إن" الراكراكية"هنا وهي تعيش هذا المسار، كانت تحرص على نسج الزرابي وتلوينها في شكل بديع، كما كانت تحرص على الرسم، خصوصاً وهي تسعى الى القبض على صورة الحبيب المنفلت منها، من دون أن يغفل الفيلم الإشارة إلى ولعها الشديد بالفن السينمائي، في ظل هذا المجتمع التقليدي، ما سبب لها خصومات شديدة مع أفراد أسرتها. إن هذا الولع الشديد بالصورة سواء المتحركة منها التي تجلت في الفن السينمائي أو الثابتة التي تجلت في الرسم، الذي عشقته إلى حد الهوس، إضافة إلى طيبة قلبها وبعد نظرها، سيجعل منها فنانة تشكيلية تغوص في عمق الأشياء وتنقلها تبعاً لإحساسها المفرط هذا بكثير من الفنية المبهرة. وسيساعدها في ذلك جارها الأعمى الذي يعشق الموسيقى ويستطيع رؤية الألوان من خلال عملية لمسها، أن تبدع أكثر، وأن تتفوق في هذا الإبداع، إلى حدود أنها ستستطيع أن تحظى بالإعجاب من لدن أحد الأجانب الغربيين المهتمين بالفن التشكيلي يحمل اسم"موريس"الذي سيشتري منها بعض لوحاتها، ما سيفتح لها طريق الشهرة والمجد وسيمكنها من المشاركة في أول معرض فني تشكيلي في ألمانيا. استطاع المخرج المغربي كمال كمال، وهو يقدم هذا الفيلم التلفزيوني الجميل، أن يتحكم في إطاره الفني العام، إيقاعاً وموسيقى وإدارة، كما أن الفنانة فاطمة خير، التي جسدت دور"الركراكية"استطاعت أن تجسدها بكثير من الحرفية والعمق الفني الكبير، وأن تنقل لنا مشاعرها وأحاسيسها كما ينبغي ذلك، من دون أن ننسى الدور الرائع الذي جسده الممثل المقتدر محمد بسطاوي، الذي أجاد تقمص دور الجار الأعمى، وكلاً من الممثلين رفيق بوبكر وسعيد باي اللذين جسدا دوري الأخوين، ومحمد الشوبي الذي لعب دور زوج"الركراكية"بكثير من الاقتدار، و بشرى أهريش التي أبدعت وأمتعت في دور أخته في صراعاتها المستمرة مع زوجته. إن هذا الفيلم التلفزيوني المغربي الرائع الذي قدم لنا بعض جوانب سيرة حياة الفنانة التشكيلية المغربية"الراكراكية"في إطار فني يجمع بين الواقعي والتخييلي، يشكل إضافة نوعية ضمن مسار الأفلام التلفزيونية المغربية التي أصبحت تحظى بكثير من الاهتمام المستحق والمتابعة النقدية الجديرة بها.