ما الذي أوصل الإنكليزي ردلي سكوت الى قدس أقداس الرأسمالية الأميركية ليعبر عنها من خلال حفلة صراع كاملة بين مهرب مخدرات أسود، وشرطي نيويوركي نزيه وعنيد؟ في الحقيقة ليس هناك في مسار هذا الذي يحمل منذ فترة لقب"سير"يضاف الى اسمه، ما كان يعد بأن يكون موضوع"رجل العصابات الأميركي"في لائحة أفلامه التي حققها طوال أكثر من عقد من الزمن، ويعتبر بعضها علامات مهمة في تاريخ السينما العالمية. بل حتى خلال السنوات الأخيرة، لم يكن واضحاً أن سكوت سينتقل، مباشرة من الحروب الصليبية، الى الجنوب الفرنسي، الى ستينات أميركا وسبعيناتها. فقط تنوع أفلام ومواضيع وأجواء ريدلي سكوت كان يضع هذا الانتقال، موضع الاحتمال، ومع هذا نعيد السؤال: كيف يمكن مبدعاً أن يتنقل، بمثل هذه السهولة، بين العصور الوسطى وعالم صناعة النبيذ الفرنسية وعصامية رجل العصابات الأسود؟ لعل الإجابة تكمن داخل الأفلام نفسها. ولعلها تكمن في جذور علاقة ريدلي سكوت بالفن السابع. فهو بدأ مساره، بعد تخرجه في قسم الفنون في جامعته الإنكليزية، مصمماً ومخرجاً للوحات ثم للأفلام الإعلانية. وهو بهذا يبدو متفرداً بين كبار صانعي السينما في العقود الأخيرة، خصوصاً أنه يقول دائماً ان الأدب والسياسة والسينما نفسها لم تكن في خلفية تكوينه، بل انه أتى من الصورة الى الصورة. وهذا صحيح ويبدو واضحاً في لغته السينمائية ذات النبض... لكنه يبدو واضحاً أكثر من خلال ما يقوله دائماً من أنه حين يبدأ التفكير في موضوع ما من جملة مواضيع مطروحة عليه، يرى أول ما يرى صوراً... وبعد ذلك تأتي العلاقة مع الموضوع والأفكار. ومن هنا يمكننا أن نفترض أن بعض الصور - المفاتيح، التي هي أساس مشاهد حاسمة، في"رجل العصابات الأميركي"، هي ما شغل بال ريدلي سكوت أولاً. ومنها مثلاً، مشهد الاجتماع الحاشد بين فرانك لوكاس وأفراد عائلته حين قال لهم:"هذه هي أميركا". ومشهد اللقاء مع بائع الهيرويين في الهند الصينية، ثم خصوصاً مشهد اللقاء الحاسم بين ريتشي وفرانك. غير أن هذا يبقى مجرد احتمال، طالما أننا نعرف أن ريدلي سكوت الذي خاض مواضيع متنوعة جداً في عدد لا بأس به من الأفلام، تمكن من إغناء هذه المواضيع وتجديدها - إذ كانت قد عولجت في السابق في أفلام أخرى - من ناحية بلغته السينمائية الخلاقة التي يلعب فيها التوليف المتوازي دوراً شكلياً وجوهرياً في الوقت نفسه، ومن ناحية ثانية، بإضفاء معانٍ قد لا تكون متوقعة على حبكات معروفة. وينطبق هذا، طبعاً - بحسب قراءتنا أعلاه لپ"رجل العصابات الأميركي"- على هذا الفيلم، لكنه ينطبق طبعاً على قراءته للحروب الصليبية في"مملكة الجنة"الذي يعتبر من اكثر أفلام الحروب الصليبية دنواً من وجهة النظر العربية، وعلى مغامرة السفاح هانيبال في"هانيبال"الذي يمكن القول أخيراً، ولو في شكل متأخر، إنه جاء أفضل من سابقه"صمت الحملان"من نواحٍ عدة، وعلى الجزء الذي حققه من"آلين"، ثم على"المصارعون"الذي ذهب فيه الى زمن الحروب الرومانية، ثم خصوصاً على"سقوط الصقر الأسود"عن الإخفاق العسكري الأميركي في الصومال... غير أن ثمة فيلمين استثنائيين يمكن دائماً التوقف عندهما للإشارة الى المكانة الكبرى التي يحتلها ريدلي سكوت في سينما اليوم:"بليدرانر"، الذي يعتبر دائماً، الى جانب"2001 أوديسا الفضاء"لستانلي كوبريك، واحداً من أفضل أفلام الخيال العلمي في تاريخ السينما، ثم"تيلما ولويزا"عن سيناريو للبنانية الأصل كالي خوري، الذي فتح منذ عرضه الأول، الأبواب واسعة أمام سينما المرأة القوية - المغامرة والمتحدية عبث مصيرها وعبث الرجال بها. والحال أن ريدلي سكوت لو لم يحقق سوى هذين الفيلمين لاستحق أن يوضع في اللائحة التي تضم أسماء أهم عشرة مخرجين في سينما اليوم، ليس في أميركا التي يحقق فيها معظم أفلامه منذ سنوات عدة وليس في بريطانيامسقط رأسه بل على مستوى السينما العالمية. وحتى وإن كان نقاد كثر يأخذون عليه، ما يعتبره آخرون، نقطة قوته، أي تنوع مواضيعه وبداوة سينماه. ريدلي سكوت اليوم في السبعين من عمره... وهو انتهى - قبل عروض"رجل العصابات الأميركي"المرشح لأكثر من جائزة أوسكار واحدة هذا الموسم، منها جائزة أفضل فيلم وأفضل مخرج - من العمل على النسخة النهائية لتحفته القديمة"بليدرانر"... هذا الفيلم الذي كان متفرجوه انتظروا ربع قرن للتأكد من جواب مخرجه عما إذا كانت شخصيته الرئيسة يلعبها هاريسون فورد في أفضل أداء له في مسيرته السينمائية إنساناً آلياً أم لا... وجاء الجواب أخيراً: أجل انه إنسان آلي. وواضح أن سكوت لم يدل بهذا الجواب إلا من أجل زرع التباس خلاق في فيلم لا ينفك يعود الى الحياة من جديد كلما اعتقد البعض ان نسياناً طواه. أليس في هذا كله كناية عن السينما نفسها... وعن علاقة سكوت بالسينما؟