تجابهنا رواية "أرض اليمبوس" للكاتب الياس فركوح المؤسسة العربية وأزمنة 2007 بإشكاليات عدة، منها الخطاب والنص، والسيرة الذاتية والرواية، وتعدد الأصوات الروائية، وغير ذلك من مفردات سردية ما زال الجدل حولها قائماً. فإذا كان "اليمبوس" المسيحي، أو مطهر دانتي، مرحلة أو برزخاً ما ورائياً، فإنه ينتقل في هذه الرواية ليصبح رحلة دنيوية، أو الرحلة الدنيوية كلها. وهو في الرواية ليس مطهراً بالمعنى الدانتي، لكنه أقرب إلى كونه"الما بين". لكن التدقيق في النص، أو ربما الخطاب الروائي، يجعلنا نتساءل عن حقيقة المطهر، وهل يمكن اليمبوس أن يوجد حقاً على هذه الأرض؟ وبالعودة إلى ما طرحناه في البداية، فإن هذه الرواية، تؤكد الفرق بين الخطاب والنص. فالنص هنا هو ما نقرأه، ما دوّنه الكاتب مستعيناً بالذاكرة وبالتقنية وباللغة الأدبية. لكن الخطاب شيء مغاير، إنه أكبر من النص، وربما يمكن القول إنه يشكل فضاء النص الأوسع. فالغائب حاضر، والناقص مكتمل. لكنّ هذا الحضور وهذا الاكتمال، يتحققان في الخطاب الروائي لا في النص الناقص. والنص ناقص بالضرورة لأن وقائع السيرة ليست كلية، فثمة حضور وغياب، ما يعني أن الرواية لا تشكل لوحة بل مشهداً متعدد الزوايا. ولكن هذا لا يعني أن الخطاب نهائي أو مطلق. فطالما كانت اللغة الإشارية مفتاح النص، فإن النص يشكل مفتاح الخطاب لا الخطاب ذاته. تنتقل رواية"اليمبوس"من المستقبل إلى الماضي البعيد والقريب. وتتعدد أصوات الحكي في الرواية، ما يعني تعدداً في ضمائر السرد، من المتكلم إلى المخاطب، إلى الغائب. ولكن هذه"البوليفينية"لا تعني تعدد الشخوص، بمقدار ما تعني تباين مستويات الوعي، واختلاف زوايا الرؤية في الشخصية الواحدة. وتباين مستويات الوعي مرتبط بالزمن المرويّ، وما يعنيه اختلاف الزمن من تبدل في الرؤية الوجودية، وتحسس المفاهيم والأفكار والقيم. كما يعني صراع الذات مع الآخر من جهة، وصراع الذات مع الذات من جهة ثانية.. أي أنه يحول الذات إلى آخر في خلال الأنا والأنت. واللافت في اليمبوس هو أنها كنص تبدأ بالمرأة والحرب، وتنتهي بالمرأة والحرب. وتظل هاتان المفردتان متلازمتين على امتداد النص، ما يعني تساؤلاً ملحاً في جوهر الخطاب الروائي. واللافت أيضاً هو أن هذا التلازم يأخذ بعداً جنسياً في أغلب الأحوال. فهل ثمة علاقة بين الجنس والحرب؟ يقول الآخر للأنا في النص ما تاريخك مع الحرب، وما تاريخك مع المرأة؟ ما تاريخك مع المرأة في زمن الحرب، وهل ثمة ما يكسر تلازمهما فيك؟ . تحيلنا الرواية هنا على أسطورة الطائر الهولندي، والتي استعادها أو روحها حليم بركات في روايته"عودة الطائر إلى البحر". فالطائر الهولندي حتمت عليه الأسطورة اللجوء إلى جزيرة المرأة مرة واحدة كل سبع سنوات، ثم يعود إلى البحر. وبطل حليم بركات ينتظر المطهر بعد جحيمه فلا يصادف غير جحيم آخر. وهو ما يحدث مع مريد البرغوثي في كتابه"رأيت رام الله". أنظر كتاب سرديات المنفى لمحمد الشحات . عندما يصف لنا الراوي/ الكاتب/ مشهد العلاقة بينه وبين مريم/ ماسة وكل امرأة اسمها ماسة لديه -، فإننا نقف على الجوهر الحيواني إذا جاز التعبير لهذه العلاقة. والآخر في النص يصفه كذلك انطلاقاً من المألوف والمتعارف عليه، لا بصفته حقيقة مطلقة. فالكلمات العارية، أو ما اصطلح عليها بالكلمات البذيئة تتحول جزءاً من الطقس الجنسي، بينما هي في الواقع المألوف مقموعة، ويتم التلميح إليها عادة بإشارات وعلامات وأوصاف وحركات. لكنها هنا تتحول بعداً رئيسياً، شعيرة من شعائر الطقس. فهل كانت العملية الجنسية مرادفة للحرب من حيث كونهما ينتميان إلى العالم الحيواني مثلاً؟ ومن دون أن ننسى وخانتك الفحولة المترددة، ولم تكن عاصفة الصحراء هبت بعد كما جاء في النص، ما يعني ارتباط الفحولة بالحرب! وبنظرة سريعة إلى الوراء، نتبين أن القبائل والشعوب البدائية استخدمت البوق للنفير. وهو بوق باخوس ذاته. والحرب طقس جمعي تذوب فيه الذات الفردية لمصلحة الذات الجمعية، تماماً كطقس باخوس المرادف للخصب. ما يعني أن الحرب تشكل في واحد من وجوهها إعادة إحياء طقس بدئي. وهو طقس الخصب الباخوسي والديونيسي، وبخاصة إذا أخذنا في الاعتبار كل تلك المفردات التي تشير إلى الموت والقتل والهجوم والاندفاع في وصف العلاقة الجنسية بين الراوي ومريم. إضافة إلى ما أشارت إليه الرواية من اختفاء مريم وظهورها المترافقين مع الحرب! ولا يفوتنا التنويه بما كتبه الناقد"باختين"مشيراً إلى مواجهة"رابيليه"الحرب بالضحك! وهو ما فعله"ياروسلاف هاشيك"في روايته"العسكري الطيب شفيك"حين واجه الحرب بالسخرية. ومنذ البداية تنطوي الرواية على الحرب والإقصاء! فما إن يتم نفي الصبي/ الروائي إلى مدرسة مسيحية داخلية في القدس، حتى تنشب الحرب على جبهتين: الأولى جبهة الصبي الداخلية، والثانية جبهة الحرب الواقعية التي حدثت في حزيران يونيو في العام 1967. وإذا كان الصبي يشعر باقتلاعه وبتر جزء منه خلال إرساله إلى تلك المدرسة، فإنه يبتكر على الفور ميكانيزماته الدفاعية المضادة للمنفى المقابل للرحم الأولى. وهنا تبدأ هذه الميكانيزمات بالعمل على رفض كل ما من شأنه الإسهام في الانخراط في بنية المنفى. لكنه يشعر بالغرابة مما سميّ في القدس الأرض الحرام، أرض الما بين، أرض اليمبوس بين الفلسطينيين واليهود القادمين من وراء البحار. فهل ثمة طرف يتطهر في الما بين؟ ولماذا يتوزع الحكي بين الأنا والآنت؟ ومن هو الأنا ومن هو الآنت؟ يبدو ضمير الأنا هو ذلك الطفل البسيط الذي أصبح كاتباً، وقد نشأ في بيئة محافظة إلى حد كبير. أما الآنت، فهو ذلك الكاتب الذي خرج على شعائر التربية الصارمة، وامتلك رؤية جديدة مغايرة للرؤية التقليدية التي حاولت العائلة حشوها فيه. ولذلك ليس مستغرباً أن يتولى الآخر مهمة الشرح والتفسير والتعليق، ويتولى كشف المستور بلسانه. وكثيراً ما نلحظ أن وصف المشاهد الجنسية لا يتم إلا عبر الآخر، وبخاصة ذلك المشهد الجنسي/ الحيواني الأخير في النص! إضافة إلى كل ما هو نتاج رؤية مغايرة للتربية الأخلاقية الصارمة، كالتصادم بين الصبي والأستاذ/ الأب، واشتهاء الصغيرة مريم، وغير ذلك من سلوكيات تبدو غريبة عن قاموس التربية العائلي. تبدأ الرواية في المستشفى وتنتهي فيه. تبدأ بإعداد الراوي/ الروائي لجراحة، وتنطلق صعوداً وهبوطاً، أفقياً وعمودياً. ونلحظ أن التربية الأسرية المحافظة شكّلت انحرافات أو ميولاً غير مقصودة في منهاج التربية الموروث. فمهنة الأب كخياط للسيدات ربما ساهمت في تنمية النزعة"الفيتيشية"عند الصبي، فنراه مهووساً بالجوخ والحرير في ملابس النساء، ولا يكف عن الوصف المؤثر والموقظ للغريزة. واختلاط الصبيان بالفتيات في الكنيسة ساهم في نزوع الصبي إلى معرفة الجنس الآخر، وبخاصة أنه كان شبيهاً بالفتاة بشعره الطويل، الذي لازمه حتى معموديته في"صيدنايا"وهو ما يجعلنا نربط بين الصبي واليمبوس في وقت مبكر، حيث اليمبوس مكان الأشخاص الذين لم يتلقوا المعمودية بعد. ويرتبط اليمبوس بالمرأة من كونها جزءاً متمماً للرجل، أو مفتاحاً لمعرفة الذات واكتشافها. ولكنّ يمبوس الراوي المنتظَر هنا في جحيمه لا يأتي، وما يأتي هو الجحيم دائماً، حيث تتواصل الحياة من حرب إلى حرب. من نكسة حزيران يونيو إلى حرب الخليج الأولى وصولاً إلى الثالثة. لكنّ اللافت أيضاً، هو أن هذه الرواية قد تشكل القسم الثالث من ثلاثية روائية لإلياس فركوح، بصفتها متممة للروايتين السابقتين"قامات الزبد"وپ"أعمدة الغبار"، لا من حيث التراتبية الزمنية، بل من حيث الاستدارات المتعددة نحو الماضي والحاضر والمستقبل، ومن حيث ملء الفراغات في الروايتين السابقتين. فبينما تقتصر التجربة النضالية هنا على إشارات عابرة، فإنها شكلت أسّ الرواية الأولى من خلال شخصية"الطيب". وإذا كان الكاتب/ الروائي هنا منفتحاً على عالمه الذاتي، ناقداً وناقضاً ومفسراً وشارحاً وموزعاً متعدداً، فإنه هو"سلطان"الواحد في الرواية الثانية. وإذا كانت الروايتان السابقتان تنفتحان على المنفى بصفته مكاناً لاكتمال التجربة، فإنه يعود هنا للانفتاح على المنفى كصبي في طور النشأة والتكوين، ما يعني أن الاقتلاع كان مفردة أساسية في العالم الروائي لفركوح. والاقتلاع كما نعرف ينطوي دائماً على الحنين إلى الرحم، وهو ما فعله الصبي في اليمبوس، وما فعله الطيب وسلطان في الروايتين السابقتين، وهو ما يعني أن ثمة تداخلاً بيّناً بين الرواية والسيرة الذاتية، مع التوكيد على أن هذه الأعمال كلها اتخذت من ذات الكاتب موضوعاً، لكنها لم تتخل عن التخييل الذي شكل أساس البنية السردية كلها، وبخاصة ونحن نلاحظ هذا التكنيك الروائي الدائري، وخلق مسافة تفصل بين الذوات المتعددة، سواء في الرواية التي بين أيدينا، أم في الروايتين السابقتين. وربما ساهمت الضمائر المتغيرة في اعتماد التخييل وانطلاقه كعنصر رئيس في اليمبوس، لكنه يظل متقاطعاً مع السيرة لا من حيث معرفتنا بالكاتب وحسب، بل من حيث استجوابنا للنص ذاته، الذي يتوافر على مقدار كبير من البوح، وحيث يبهت التخييل في السرد الذي ينطوي على وقائع موضوعية وأسماء وتواريخ بشر وأمكنة حقيقية، من دون أن ننسى الاسم العلم/ المؤلف الذي يشكل ملمحاً رئيساً من ملامح السيرة الذاتية، على رغم اعتماد الروائيين الجدد هذه التقنية في السرد، كوسيلة للإيهام بواقعية الرواية. وعلى رغم اعتماد الروائيين بعامة على الذاكرة الكاتبة، وما يعنيه ذلك من تطويع الذات كموضوع روائي!