مصر: الفنانة السورية نسرين طافش تستأنف على الحكم بحبسها 3 سنوات.. الأربعاء    إغلاق مؤشرات أسواق الأسهم الأمريكية مرتفعة    انخفاض أسعار النفط في أكبر خسارة أسبوعية في ثلاثة أشهر    الجنيه الإسترليني يرتفع مقابل الدولار الأمريكي وينخفض مقابل اليورو الأوروبي    بيان «الصحة» عكس الشفافية الكبيرة التي تتمتع بها الأجهزة الحكومية في المملكة    "الترفيه" تنظم عروض "سماكداون" و "ملك وملكة الحلبة" في جدة الشهر الجاري    محمية عروق بني معارض.. لوحات طبيعية بألوان الحياة الفطرية    اليوم المُنتظر    «النصر والهلال» النهائي الفاخر..    بأمر الملك.. إلغاء لقب «معالي» عن «الخونة» و«الفاسدين»    «الأونروا»: الصراع في غزة مستمر ك"حرب على النساء"    عقد المؤتمر الصحفي لبطولة "سماش السعودية 2024" في جدة    جريمة مروّعة بصعيد مصر.. والسبب «الشبو»    أمانة الطائف تنفذ 136 مبادرة اجتماعية بمشاركة 4951 متطوعًا ومتطوعة    أبها يتغلب على الاتحاد بثلاثية في دوري روشن وينعش آماله في البقاء    المملكة وأذربيجان.. تعاون مشترك لاستدامة أسواق البترول ومعالجة التغير المناخي    رئيس مجلس القيادة الرئاسي يوجه بسرعة العمل على فتح الطرقات وتقديم المساعدة    موعد مباراة الاتحاد القادمة بعد الخسارة أمام أبها    إدانة المنشأة الغذائية عن حادثة التسمم الغذائي وإغلاق فروعها بالرياض والخرج    ميتروفيتش: لم نحسم لقب الدوري حتى الآن    نمو الغطاء النباتي 8.5% بمحمية "الإمام تركي"    توسيع نطاق الاستثناء الخاص بالتصرف العقاري    مدير «الصحة العالمية»: الهجوم الإسرائيلي على رفح قد يؤدي إلى «حمام دم»    "درع الوقاية 4".. مناورات سعودية – أمريكية بالظهران    غداً.. منع دخول المقيمين لمكة دون تصريح    تركي الفيصل يرعى حفل جائزة عبد الله بن إدريس الثقافية    31 مايو نهاية المهلة المجانية لترقيم الإبل    موعد مباراة الهلال القادمة بعد الفوز على التعاون    «الدفاع المدني» محذراً: التزموا البقاء في أماكن آمنة وابتعدوا عن تجمُّعات السيول    الشرطة تفرق اعتصاما مؤيدا للفلسطينيين في معهد الدراسات السياسية بباريس    الفوزان: : الحوار الزوجي يعزز التواصل الإيجابي والتقارب الأسري    جامعة الإمام عبدالرحمن تستضيف المؤتمر الوطني لكليات الحاسب بالجامعات السعودية.. الأربعاء    رئاسة وزراء ماليزيا ورابطة العالم الإسلامي تنظِّمان مؤتمرًا دوليًّا للقادة الدينيين.. الثلاثاء    الجمعية السعودية للإعاقة السمعية تنظم "أسبوع الأصم العربي"    الصحة العالمية: الربو يتسبب في وفاة 455 ألف إنسان    سحب لقب "معالي" من "الخونة" و"الفاسدين"    إشعار المراسم الملكية بحالات سحب الأوسمة    تحويل حليب الإبل إلى لبن وإنتاج زبد يستوقف زوار مهرجان الألبان والأغذية بالخرج    "تقويم التعليم"تعتمد 45 مؤسسة وبرنامجًا أكاديمياً    "الفقه الإسلامي" يُثمّن بيان كبار العلماء بشأن "الحج"    المملكة: صعدنا هموم الدول الإسلامية للأمم المتحدة    وزير الدفاع يفتتح مرافق كلية الملك فيصل الجوية    " عرب نيوز" تحصد 3 جوائز للتميز    وزير الطاقة: 14 مليار دولار حجم الاستثمارات بين السعودية وأوزبكستان    وفيات وجلطات وتلف أدمغة.. لعنة لقاح «أسترازينيكا» تهزّ العالم !    انطلاق ميدياثون الحج والعمرة بمكتبة الملك فهد الوطنية    الخريجي يشارك في الاجتماع التحضيري لوزراء الخارجية للدورة 15 لمؤتمر القمة الإسلامي    136 محطة تسجل هطول الأمطار في 11 منطقة بالمملكة    قصة القضاء والقدر    كيفية «حلب» الحبيب !    من المريض إلى المراجع    أمير جازان يطلق إشارة صيد سمك الحريد بجزيرة فرسان    بيان صادر عن هيئة كبار العلماء بشأن عدم جواز الذهاب للحج دون تصريح    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ    مباحثات سعودية فرنسية لتوطين التقنيات الدفاعية    ما أصبر هؤلاء    هكذا تكون التربية    اطلع على المهام الأمنية والإنسانية.. نائب أمير مكة المكرمة يزور مركز العمليات الموحد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاستجابة الثقافية الغربية للتاريخ العربي - الإسلامي متواصلة منذ الفتوحات الأولى
نشر في الحياة يوم 24 - 03 - 2007

انطلقت فرضية هذا الكتاب "الاستشراق : الاستجابة الثقافية الغربية للتاريخ العربي الإسلامي" - د. محمد الدعمي - مركز دراسات الوحدة العربية - 2006 من أن الاهتمام الغربي البريطاني والأميركي بخاصة بالتاريخ العربي شكل ظاهرة فكرية متواصلة منذ وعت أوروبا الإسلام وإمكانيته في التبشير والتوسع ومقاومة الطارئ الدخيل، حيث شهدت الفتوحات الإسلامية المبكرة أولى محطات الاحتكاك بما يسمى بالعالم المسيحي الجاد الوظيفي وبين الإفادة الرومانسية الخيالية الهروبية. فمن ناحية أولى، شهد عصر الثورة الصناعية، وما تلاه من تطورات تقنية كبيرة، الحاجة إلى الرجوع إلى ماضي الآخر، العربي المسلم بخاصة، كأسلوب لإدراك الذات وكطريقة لاستشراف المستقبل بفضل استثنائية وتفرد التجربة التاريخية العربية بعد ظهور الإسلام، ومن ناحية ثانية، وقع بعض الكتاب الخياليين في شرك الهروب من الحاضر الصناعي القاسي من خلال امتطاء عالم شرقي متخيل يلبي رغباتهم ونزواتهم في التأمل والتفكير بعالم سعيد منفلت من الزمن ومن إيقاعات الماكنة. بيد أن الظاهرة المتواصلة والأهم عبر الاتجاهين تتجسد في أن اللهجة الغربية المستخدمة في معالجة تاريخنا كانت دوماً لهجة تنطوي على شعور وسواسي، واعٍ أو غير واعٍ، بالتفوق وبالميل إلى الهيمنة.
لقد باشر أساطين النهضة الذين كانوا على اطلاع على المداخل الغربية لتاريخنا، على أن هذا التاريخ هو أكثر عناصر الأمة حيوية وقدرة على التوليد، هنا يتبلور التناقض بين الموقفين العربي الإسلامي من ناحية والغربي من الناحية الثانية: الموقفان تفصلهما فجوة يصعب تجسيرها لأنهما يمثلان نظرتين مختلفتين وإرادتين متناقضتين تماماً: فحيث إن الفكر الاستشراقي يحيل الماضي العربي الإسلامي إلى كينونة ميتة يمكن للذهن الغربي الإرتجاع عليها عند الحاجة لاستخلاص الدروس والخبرات لمصلحة حضارتهم، تعتمد أهم الإيديولوجيات العربية والإسلامية الفاعلة، عبر القرن الماضي وعلى أعتاب الألفية الثالثة، على استلهام هذا التاريخ منظوراً لاستشراق المستقبل ومعياراً لقياس الحاضر وأداة للجم إخفاقاته، وعليه، فإنه ليس من المبالغة الاعتقاد بأن ما يحدث اليوم في الشرق الأوسط من مشاكل ومجابهات ساخنة إنما يرد إلى هذا التناقض بين الإرادتين وعلى هذا التنافر بين المنظورين اللذين يمكن تتبعهما إلى أفكار المستشرقين المبكرين وإلى طرائق قراءتهم للماضي العربي الإسلامي منذ العصر الوسيط، مروراً بعصر التوسع الكولونيالي، وانتهاءً بعصر العولمة الذي يرنو إلى تسييد أنماط أخلاقية وأنساق سياسية واقتصادية عابرة للحدود وللقوميات على سبيل بلوغ ما يسمى بال"Pax American"حيث تتم إذابة ثقافات العالم كافة في بوتقة عصر جديد يسوده وعي كوكبي وتهيمن عليه قيم جديدة واهتمامات كونية تنأى بنفسها بعيداً من الاهتمامات المحلية أو الإسلامية التي كانت ولم تزل تشغل العقل العربي وتؤرقه.
يرى الدعمى إنه لا يمكن الإلمام بجميع خطوط وألوان الصورة الغربية للحضارة العربية الإسلامية في كتاب واحد، الأمر الذي اضطره إلى استمكان أذكى الكُتّاب الغربيين وانتقاء أبرز المحطات والنصوص لبؤرة هذا الكتاب، وهي الماضي العربي الإسلامي. ولأن الكتاب يعد تواصلاً لكتابين آخرين للمؤلف الأول بعنوان المتغير الغربي: الشرق، الاستشراق، أدب الصحراء، والثاني بعنوان: Arabian Mirrors and Western Soothauers فإنه يستمكن عقولاً عربية وقعت في دائرة سحر التاريخ العربي الإسلامي وخصته بطرائق معالجة متنوعة تبعاً واستجابة لأساليب الاستقبال الغربي الشائعة للإسلام وللعرب، إضافة إلى تحديده الحاجات الثقافية والسياسية المحلية في الغرب التي دفعت بهؤلاء الكُتّاب إلى دارسة تاريخنا.
ويعدد الأساليب التي تم من خلالها توظيف تاريخ الآخر العربي المسلم فيذكر منها:
1 استعماله - مشوهاً ومنحرفاً - أداة للتعبئة الجماهيرية عاطفياً وفكرياً، عبر قرون الاحتكاك بين العالمين الإسلامي والأوروبي، بعد الهبة الأولى للفتوحات الإسلامية التي شكلت تحدياً عسكرياً وفقهياً لأوروبا العصر الوسيط.
2 توظيف قصة ظهور الإسلام والعبادات الإسلامية كأسلوب للبرهنة على أن معتقدات المسلمين لا تختلف كثيراً عن المعتقدات الروحية للتقليد الديني اليهودي - المسيحي، الذي تحتضنه أوروبا، الأمر الذي انطوى على التفكير بإمكانية"كسب"المسلمين للمسيحية بالجملة وبواسطة قنوات الحوار، بديلاً عن قنوات الحرب، بادعاء أن العقل الغربي أكثر قدرة على الحوار والإقناع من العقل الشرقي. هذا الرأي المشوب بالمفاهيم الخاطئة كان وراء إطلاق فكرة"التبشير"المسيحي في العالم الإسلامي، فيما بعد.
3 استحضار شخصية الرسول صلى الله عليه وسلّم وصحابته رضي الله عنهم والعقائد الإسلامية كسلاح في الصراعات الطائفية والفرقية بين أتابع الكنائس في أوروبا، وبخاصة بعد ظهور حركة الإصلاح الديني وتكون الكنيسة البروتستانتية على يد مارتن لوثر، ما زاد من تراكم وكيل التشويهات للإسلام ولمادته الأصلية من العرب على سبيل تشكيل المقارنات والمقاربات مع الخصوم من أتباع الكنائس الأخرى.
4 توظيف المفاهيم الخاطئة والأفكار المنمطة ذاتها كأسلوب لتكريس العواطف العدائية ضد المسلمين في الحقبة التي شهدت ظهور الدولة العثمانية وتوسعها المبكر باتجاه أوروبا.
وإذا كانت هذه من أهم ملامح طرائق التعامل مع ماضي العرب والمسلمين في أوروبا القرون الوسطى والأزمنة التي سبقت الثورة الصناعية، فإن للمرء أن يحيل شيئاً من اختلالاتها إلى غياب المعرفة وندرة المصادر التي استقى منها الكتاب والمؤرخون وأغلبهم من رجال الدين معلوماتهم حول تاريخ العرب وقصة الإسلام، ولكن على المرء الاعتراف بأن محاولات البحث عن مصادر علمية دقيقة عن الإسلام والعرب تعود في أصولها الأولى إلى سنين سابقة، متجسدة في ترجمة سيل Sale لأهم وثيقة إسلامية، القرآن الكريم، ولكن في الفترة التي شهدت الخروج عن الشكل الوسيط للمجتمعات الأوروبية، وشهدت الاهتمام باللغات القومية بديلاً عن اللاتينية، استحال الاستشراق في أوروبا من جهد تخيلي أو افتراضي، مبتنى على التكهنات وتوارث الأنماط السائدة، إلى جهد أكثر ميلاً إلى العلمية والوقوف على المصادر الأصلية على نحو مباشر، وليس عبر التقارير التي كتبها الأوروبيون. الأمر الذي أفضى إلى إطلاق الاستشراق من حقل الخياليات إلى حقول علمية أو نصف علمية تستدعي الدراسة والرصد، والبحث والاستقصاء. هنا تبلورت دوافع ترجمة التواريخ الكلاسيكية العربية والإسلامية إلى اللغات الأوروبية، من بين أشكال أخرى. لذا كان ظهور هذا النوع من التخصص في الشؤون العربية الإسلامية من أهم عوامل تشجيع الارتحال إلى شرقنا لمحاولة سبر أغواره، ليس وهكذا تشعب الجهد الأوروبي إلى فروع للدراسات الاستشراقية، وبخاصة مع الثورة الصناعية وبدايات الحاجة للاتصال بالشرق على نحو مصلحي. لقد كانت يقظة فكرة بناء الإمبراطورية من أهم مسببات الحاجة إلى المعرفة، معرفة الشرق العربي الإسلامي، ماضيه وحاضره، شعوبه وتنوعاته. هذه هي المرة الأولى التي ظهر فيها المستشرق الأوروبي عبر إقليمنا على أشكال متنوعة، منقباً آثارياً أو مؤرخاً أو مترجماً للتراث العربي الإسلامي أو كاتباً حراً من خلال الحرف المكتوب والصفحة المطبوعة، لكن من خلال المعايشة والارتماس بمياه العالم الشرقي على نحو مباشر. وإذا كانت ظاهرة تزايد الرحالة الغربيين من أهم معطيات عصر الثورة الصناعية، فإنها أفرزت كذلك نوعين من العاملين في الاستشراق، هما:
1 المرتحلون أنفسهم، وهم الذين يكتبون التقارير.
2 الأكاديميون الذين يجمعون تقارير الرحالة على سبيل التحليل والدراسة للخروج بتنظيرات وخلاصات فكرية.
بيد أن ظاهرة الارتحال إلى الشرق والانغمار بأعماقه كانت تبدو للجمهور الأوروبي عملية مثيرة بسبب الصعوبات والمخاطر التي يواجهها الرحالة المغامر الذي يأخذ على عاتقه مهمة تعريف القارئ على عالم مختلف، عالم منفلت من الزمن ومن رتابة ذبذبة الماكنة في المدينة الصناعية واذا كان القسم الاول من هذا الكتاب قد ركز على ما سبقت الإشارة إليه من"أطر نظرية وتاريخية"، فإن القسم الثاني يركز على"التطبيقات"وعلى آثار تلك الأطر القديمة التي بقى العقل الأوروبي حبيساً لها. لذا فإن الفصل الثالث من الكتاب يستل من بين أهم كتاب العصر الفيكتوري الكاردينال نيومان Newman، أهم كتبه المنسية،"تصويرات تاريخية": الترك وعلاقتهم بأوروبا. يأتي هذا الكتاب على خلفية حرب القرم ودخول الدولة العثمانية أتونها، كمحاولة تورخة"كاثوليكية"الترك ولدينهم.
لذا فإن الكتاب يأتي استجابة لحالة طارئة، حالة أراد نيومان تأبطها لتوجيه النقد للحكومتين البريطانية والفرنسية بسبب سياسة عدم التدخل وتحاشي الارتطام بالأتراك والكتاب يبدأ من الفرضية الأنثروبولوجية العنصرية بأن الترك هم من الأقوام الأدنى في سلم النوع البشري، وهي الفرضية التي يعتمدها الكاتب، ليس فقط لتبرير احتضان الأتراك للإسلام كدين يستجيب لطبائعهم البدوية كما يزعم، بل كذلك لغرض التمييز في ما بينهم وبين العرب الذين يبدون له شعباً يمتلك"عمقاً فكرياً"يؤهله لبناء الجامعات ولرعاية الفكر والثقافة وفنون السلام بديلاً عن فنون الحرب. وينتهي نيومان إلى التوصية بسحق الدولة العثمانية، بل إلى القضاء على العنصر الإثنى التركي من طريق قيام الإمبراطوريات الأوروبية بمعاملة الأتراك بالطريقة نفسها التي تعامل بها المهاجرون الأوائل إلى أميركا مع الهنود الحمر، بحسب خطة الشوفيني في التفكير. بل إنه يوظف الحملات الصليبية كأداة لمهاجمة المسيحيين الشرقيين من ناحية، ولكيل التهم للأتراك، من الناحية الثانية، بسبب دورهم في مقاومة هذه الحملات التي يعدها نيومان حملات"كاثوليكية"برهنت على وحدة أوروبا تحت ظل بابا روما آنذاك. لذلك فإن الكتاب لا يخلو من الدعاية الطائفية للكنيسة الكاثوليكية عادةً المسيحية هي الكاثوليكية فقط، وأن البروتستانتية إنما هي انحراف عن المسيحية الأصلية. ولكن الكاردينال نيومان الذى يمثل الذهنية المتدينة المشوبة بالكثير من براثن الاثنية والطائفية يختلف كثيراً عن الكاتبة/هاريت مارتنو معاصرته التي اشتهرت بتحررها من كوابح الالتزام الديني، ميلها القوي الى الفلسفات الدنيوية الحديثة آنذاك، واهتمامها المبكر بقضية تحرير المراة.
مارتنو تبتعد عن سواها من الكتاب البريطانيين الآخرين في أنها لم تعاين الشرق عبر التقارير التي كتبها المستشرقون، وإنما هي شدت الرحال شخصياً في رحلة طويلة إلى مصر وفلسطين وسورية لتكتب واحداً من أهم مؤلفات الاستشراق، الحياة الشرقية، حاضراً وماضياً. ونظراً إلى طبيعة اهتمامها بالمرأة وبأوضاعها، فإن مارتنو ارتكنت إلى تراث أوروبي قديم وعميق مستقى من فكرة الإسارة المفترضة للمرأة في العالم الإسلامي، وهي الإساءة المتبلورة في مفهوم"الحريم"Harem الذي دخل اللغة الإنكليزية لفظاً مستعاراً ليكتسب هالة واسعة من المعاني السلبية التي تحط من قدر المرأة المسلمة كما هي مصورة في الثقافة الغربية، باعتبارها"مخلوقاً"حبيساً في البيت، وموضوعاً لاستثمار الرجل الأسمر واضطهاده.
لذا فإن الفصل الرابع يرصد هذه الأفكار الشائعة في الغرب حيال موقع المرأة في الإسلام، ككينونة حسية تقبع في"سراي"الأغنياء والمتنفذين المغرمين بتعدد الزوجات، هذه المفاهيم المسبقة تجد صداها في كتاب مارتنو أعلاه، وبخاصة أنها تبحث أوضاع المرأة المسلمة في مصر، كطريقة للبرهنة على صدق هذه الأفكار المتوارثة. لذا ترصد الكاتبة حال المرأة في فترة تاريخية كانت قد شهدت نكوص الأحوال الاجتماعية بمصر، كما أنها تدعم آراءها في المرأة المسلمة من خلال زيارة لأحد أجنحة زوجات"الباشا"في القاهرة، على سبيل البرهنة على وجود ثمة بون هائل بين شعبين مصريين مختلفين تماماً هما:
1 الفراعنة القدماء الذين بنوا حضارة عظيمة بسبب احترامهم المرأة ومساواتها بالرجل.
2 المصريون المعاصرون الذين تشاهدهم والذين تراجعوا في السلم الثقافي والحضاري إلى أدنى المراتب، بسبب اعتناقهم الإسلام وحطهم من قدر المرأة، بحسب زعمها. هاريت مارتنو لم تكن مدفوعة بأهداف سياسية أو ممولة من قبل مؤسسات امبراطورية، ولكنها كانت مفكرة حرة، على رغم أنها لم تتمكن من تحرير نفسها من مكبلات المفاهيم الخاطئة التي توارثتها حول"الحريم"، الأمر الذي يفسر محاولتها التيقن من صحة هذه المفاهيم من دون محاولة الرجوع إلى المصادر الفكرية والفقهية النقية للإسلام، بل هي اعتمدت المعاينة المباشرة وحالات التردي والتراجع التاريخي التي كانت مصر تعيشها وقتذاك على سبيل كيل التهم في موضوع المرأة.
وهكذا اختلطت الحقيقة التاريخية بالحقيقة الموقتة الملموسة كي تدعم آراءها في الإسلام وهذا الفصل يعكس جانباً أساساً من النقد الاستشراقي للإسلام وللتنظيمات الاجتماعية في الأقطار العربية، ملقياً الضوء على تواصل طرائق التفكير الغربي بالمرأة المسلمة منذ أقدم العصور، مستشرفاً ما يحدث اليوم من نقد غربي واضح المعالم لأوضاع النساء في العالم الإسلامي. لذا فإن كتاب مارتنو وهو من الوثائق الفكرية المنسية كذلك يعد محطة غاية في الأهمية من ناحية التوصيل بين المفاهيم الأوروبية في القرون الوسطى، وبين مكافئاتها من مفاهيم في العصر الحديث.
وإذا كانت آراء مارتنو حول المرأة المسلمة مبتناة على الملاحظة المباشرة وليس على دراسة الفكر والفقه الإسلامي، فإن آراء رتشارد بيرتون Burton الذي قضى أكثر من ربع قرن في ترجمة ألف ليلة وليلة إنما تدعي المعرفة بالإسلام وبعقائده، بتقاليده وقصته التاريخية. لذا يعد مؤلفه المقالة الختامية الذي أنهى به ترجمة الليالي العربية مدخلاً مهماً آخر لتناول أوضاع النسوة في العالم الإسلامي، باعتبارها أوضاعاً أفضل بكثير من حال المرأة المتدينة في أوروبا، حيث يعتبر عدم الاستحمام والرهبنة كما يقول من شروط التدين الحقيقي.
إن الطريق التي سلكها بيرتون تختلف تماماً عن الطريقين اللذين سلكهما كل من نيومان وماتنو، ذلك أنه استجاب للانبهار والعشق الأوروبي لكتاب ألف ليلة وليلة، عاداً إياه وثيقة اجتماعية أفضل بكثير من الوثائق الأخرى، باعتباره"بانوراما"متكاملة للحياة العربية الإسلامية في عصرها الذهبي. هذا التمايز في المدخل هو الذي مكن بيرتون من تحقيق عدد من الأهداف"الاستشراقية"، ومن أهمها نقده للمجتمع وللكنيسة في أوروبا. لم يكن بيرتون متديناً قط، بل هو كان أكثر ميلاً إلى عدم التدين، الأمر الذي أتاح له عملية استمكان فضائل الدين الإسلامي، ليس من أجل تتويجه كأفضل نظام ديني وروحي، وإنما من أجل نقد المسيحية الأوروبية من خلال الإسلام والبرهنة على تفوق الأخير. ولكن في نهاية المطاف يرنو بيرتون إلى وضع الإسلام، سوية مع الأنظمة الدينية الشائعة في أوروبا عصره، كاليهودية والمسيحية، في سلة واحدة يراد منها مهاجمة جميع الديانات.
لذا فإن تفضيل بيرتون للإسلام على سواه من الأديان لا يعني قط عدم استمكان النقاط والثغرات التي يمكن توظيفها لنقد الإسلام، نظاماً اجتماعياً ومنطلقات فكرية وفقهية، ما يبرر هجماته على"الخرافات"التي حيكت حول حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلّم وعلى الانحرافات التي فرضت على اصول الدين الإسلامي في التطبيقات الحياتية عبر العصور التالية لصدر الإسلام. إن بيرتون يرد ظهور العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية في العهد العباسي الذي شهد تأليف ألف ليلة وليلة إلى اختلاط العرب بالأقوام الأعجمية وإلى ظهور تأثيرات إغريقية وفارسية وهندية وأجنبية أخرى على العقائد الفقهية الأولى للإسلام.
لذا يتحدث بيرتون للمرة الأولى، عن أنواع من الإسلام، ك"الإسلام المبكر"و"الإسلام الوسيط"وسواهما من الأنواع المبتناة على افتراضاته. كما أنه يرد بروز المدارس الفقهية والتيارات الحزبية والطائفية داخل الإسلام إلى حيوية العقل العربي والمسلم في ذلك العصر الذهبي، زيادة على استجابة عقائد المسلمين إلى التأثيرات الأجنبية التي ضمت إلى الإسلام عبر تحول بغداد العباسية إلى مدينة كونية من نوع"الكوزموبوليتان"، مثل لندن ونيويورك اليوم. هذا المدخل العلماني، المتحرر من الطائفية للتاريخ العربي الإسلامي، هو الذي أهله لترجمة حياة الليالي العربية إلى مجموعة كبيرة من تعابير التقدير والاحترام، نظراً إلى تقدم الحضارة العربية الإسلامية في القرون الوسطى، وبسبب منجزاتها العظيمة التي يقف بيرتون مبهوراً أمامها إلى درجة إحالتها إلى نقد ملتوٍ للحضارة الأوروبية في عصره. بيرتون يتحدث عن بغداد بوصفها عاصمة للثقافات المتنوعة، عاداً هذه المدينة مؤشراً على حيوية ما سماه ب"الإسلام الوسيط".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.